تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 570 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 570

570- تفسير الصفحة رقم570 من المصحف
الآية: 40 - 41 {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين}
قوله تعالى: "فلا أقسم" أي أقسم. و"لا" صلة. "برب المشارق والمغارب" هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد "برب المشرق والمغرب" على التوحيد. "إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم" يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. "وما نحن بمسبوقين" أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.
الآية: 42 {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون}
أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد "حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون". وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
الآية: 43 {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون}
قوله تعالى: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب" "يوم" بدل من "يومهم" الذي قبله، وقراءة العامة "يخرجون" بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم "يخرجون" بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث: القبور؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة "يس". "سراعا" حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي؛ وهو نصب على الحال "كأنهم إلى نصب يوفضون" قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف، والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم؛ وقد يحرك. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبدا
أراد "فأعبدن" فوقف بالألف؛ كما تقول: رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله: "وذا النصب" بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء؛ ومنه قوله تعالى: "أني مسني الشيطان بنصب وعذاب" [ص: 41]. وقال الأخفش والفراء: النصب جمع النصب مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع نصب؛ فهو جمع الجمع. وقيل: النصب والأنصاب واحد. وقيل: النصب جمع نصاب، هو حجر أو صنم يذبح عليه؛ ومنه قوله تعالى: "وما ذبح على النصب" [المائدة: 3]. وقد قيل: نصب ونصب ونصب معنى واحد؛ كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس: "إلى نصب" إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي: إلى شيء منصوب؛ علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم.
قوله تعالى: "يوفضون" يسرعون والإيفاض الإسراع. قال الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحديـ ـد كالجن يوفضن من عبقر
عبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر
وقال الليث: وفضت الإبل تفض وفضا؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم. يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.
الآية: 44 {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}
قوله تعالى: "خاشعة أبصارهم" أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. "ترهقهم ذلة" أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه (بالكسر) يرهقه رهقا أي غشيه؛ ومنه قوله تعالى: "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" [يونس: 26]. "ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون" أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة.
سورة نوح
مقدمة السورة
مكية، وهي ثمان وعشرون آية.
الآية: 1 {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}
قوله تعالى: "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه" قد مضى القول في "الأعراف" أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض). فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة "العنكبوت" القول فيه. والحمد لله. "أن أنذر قومك" أي بأن أنذر قومك؛ فموضع "أن" نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع "أن". ويجوز "أن" بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله "انذر قومك" بغير "أن" بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول "البقرة". "من قبل أن يأتيهم عذاب أليم" النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقد مضى هذا مستوفى في سورة "العنكبوت" والحمد لله.
الآية: 2 - 4 {قال يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}
قوله تعالى: "قال ياقوم إني لكم نذير" أي مخوف. "مبين" أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. "أن اعبدوا الله واتقوه" و"أن" المفسرة على ما تقدم في "أن أنذر". "اعبدوا" أي وحدوا. واتقوا: خافوا. "وأطيعون" أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. "يغفر لكم من ذنوبكم" جزم "يغفر" بجواب الأمر. و"من" صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن "من" لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفيه بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها "ويؤخركم إلى أجل مسمى" قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات (الشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: "أجل مسمى" عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول "أجل مسمى" عند الله. "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر" أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: "فإذا جاء أجلهم" [النحل: 61] لأنه مضروب لهم. "لو" بمعنى "إن" أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.
الآية: 5 - 6 {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرار}
قوله تعالى: "قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا" أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من "دعائي" وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
الآية: 7 {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبار}
قوله تعالى: "وإني كلما دعوتهم" أي إلى سبب المغفرة، وهي الإيمان بك والطاعة لك. "جعلوا أصابعهم في آذانهم" لئلا يسمعوا دعائي "واستغشوا ثيابهم" أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. "وأصروا" أي على الكفر فلم يتوبوا. "واستكبروا" عن قبول الحق؛ لأنهم قالوا: "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون" [الشعراء: 111]. "استكبارا" تفخيم.
الآية: 8 - 9 {ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرار}
قوله تعالى: "ثم إني دعوتهم جهارا" أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب "بدعوتهم" نصب المصدر؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد؛ لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد "بدعوتهم" جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا؛ أي دعاء جهارا؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. "ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا" أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، "وأسررت لهم إسرارا". بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: "أسررت لهم" أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من "إني أعلنت لهم" الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
الآية: 10 - 12 {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهار}
قوله تعالى: "فقلت استغفروا ربكم" أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. "إنه كان غفارا" وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب). وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله؛ وتفسيرها أقلني. "يرسل السماء عليكم مدرارا" أي يرسل ماء السماء؛ ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
و"مدرارا" ذا غيث كثير. وجزم "يرسل" جوابا للأمر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان: "يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا". قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: (هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة).
في هذه الآية والتي في "هود" دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا". وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: "ما على المحسنين من سبيل" التوبة: 91] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا؛ إن الله تعالى يقول في سورة "نوح": "استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا". وقد مضى في سورة "آل عمران" كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.