تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 570 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 570

570 : تفسير الصفحة رقم 570 من القرآن الكريم

** فَمَالِ الّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنّةَ نَعِيمٍ * كَلاّ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ * فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنّا لَقَادِرُونَ * عَلَىَ أَن نّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنّهُمْ إِلَىَ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
يقول تعالى منكراً على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات, ثم هم مع هذاكله فارون منه متفرقون عنه, شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً, وشيعاً شيعاً, كما قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة} الاَية. وهذه مثلها فإنه قال تعالى: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين} أي فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أي مسرعين نافرين منك, كما قال الحسن البصري: مهطعين أي منطلقين {عن اليمين وعن الشمال عزين} واحدها عزة أي متفرقين, وهو حال من مهطعين أي في حال تفرقهم واختلافهم كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب متفقون على مخالفة الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس {فما للذين كفروا قبلك مهطعين}, قال قبلك ينظرون {عن اليمين وعن الشمال عزين} قال: العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به, وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر, حدثنا قرة عن الحسن في قوله: {عن اليمين وعن الشمال عزين} أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون: ما قال هذا الرجل ؟
وقال قتادة {مهطعين} عامدين {عن اليمين وعن الشمال عزين} أي فرقاً حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية, كلهم عن الأعمش, عن المسيب بن رافع, عن تميم بن طرفة, عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال: «ما لي أراكم عزين ؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: «ما لي أراكم عزين ؟» وهذا إسناده جيد ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم * كل} أي: أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم ؟ كلا بل مأواهم جهنم. ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلاً عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها, وهم معترفون بها, فقال تعالى: {إنا خلقناهم مما يعلمون} أي من المني الضعيف, كما قال تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين} وقال: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر} ثم قال تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} أي الذي خلق السموات والأرض وجعل مشرقاً ومغرباً وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام ليس الأمر كما تزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور, بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة, ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي, وهو مضمون الكلام وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة, وهو خلق السموات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات, ولهذا قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
وقال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بلى إنه على كل شيء قدير} وقال تعالى في الاَية الأخرى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ؟ بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} وقال ههنا: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم} أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك {وما نحن بمسبوقين} أي بعاجزين كما قال تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون} واختار ابن جرير {على أن نبدل خيراً منهم} أي: أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} والمعنى الأول أظهر لدلالة الاَيات الأخر عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم قال تعالى: {فذرهم} أي يا محمد {يخوضوا ويلعبو} أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون} أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون, قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون, وقال أبو العالية ويحيى بن أبي كثير إلى غاية يسعون إليها, وقد قرأ الجمهور إلى نصب بفتح النون وإسكان الصاد وهو مصدر بمعنى المنصوب, وقرأ الحسن البصري نصب بضم النون والصاد وهو الصنم أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه, يوفضون يبتدرون أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد ويحيى بن أبي كثير ومسلم البطين وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وأبي صالح وعاصم بن بهدلة وابن زيد وغيرهم, وقوله تعالى: {خاشعة أبصارهم} أي خاضعة {ترهقهم ذلة} أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}. آخر تفسير سورة سأل سائل, ولله الحمد والمنة.

سورة نوح
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَنِ اعبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام أنه أرسله إلى قومه آمراً له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم, فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم. ولهذا قال تعالى. {أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين} أي بين النذارة ظاهر الأمر واضحه, {أن اعبدوا الله واتقوه}, أي اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه {وأطيعون} فيما آمركم به وأنهاكم عنه {يغفر لكم من ذنوبكم} أي إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم, ومن ههنا قيل إنها زائدة ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل, ومنه قول بعض العرب: قد كان من مطر, وقيل إنها بمعنى عن تقديره يصفح لكم عن ذنوبكم, واختاره ابن جرير: وقيل: إنها للتبعيض, أي يغفر لكم الذنوب العظيمة التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم, وقد يستدل بهذه الاَية من يقول إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله تعالى: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة فإنه إذا أمر تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع, فإنه العظيم الذي قد قهر كل شيء, العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.