تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 580 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 580

580- تفسير الصفحة رقم580 من المصحف
"ومن الليل فاسجد له" يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. "وسبحه ليلا طويلا" يعني التطوع في الليل؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: "وسبحه ليلا طويلا" منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة "المزمل" وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل: الأصائل والأصل؛ كقولك سفائن وسفن؛ قال: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل، وهو جمع الجمع:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقد مضى في آخر "الأعراف" مستوفى. ودخلت "من" على الظرف للتبعيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: "يغفر لكم ذنوبكم" [الصف: 12].
الآية: 27 - 28 {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديل}
قوله تعالى: "إن هؤلاء يحبون العاجلة" توبيخ وتقريع؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا "ويذرون" أي ويدعون "وراءهم" أي بين أيديهم "يوما ثقيلا" أي عسيرا شديدا كما قال: "ثقلت في السموات والأرض" [الأعراف: 187]. أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل: "ورائهم" أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل: "نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده.
قوله تعالى: "نحن خلقناهم" أي من طين. "وشددنا أسرهم" أي خلقهم؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق؛ قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه؛ قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسره مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا
وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:
يمشي بأوظفة شداد أسرها صم السنابك لا تقي بالجدجد
واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه؛ ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. "وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا" قال ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.
الآية: 29 - 31 {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليم}
قوله تعالى: "إن هذه" أي السورة "تذكرة" أي موعظة "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: "سبيلا" أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. "وما تشاؤون" أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله "إلا أن يشاء الله" فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "وما يشاؤون" بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" جواب لقوله: "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال: "وما تشاؤون" ذلك السبيل "إلا أن يشاء الله" لكم. "إن الله كان عليما" بأعمالكم "حكيما" في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. "يدخل من يشاء في رحمته" أي يدخله الجنة راحما له "والظالمين" أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون "أعد لهم" تفسيرا لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في "الشورى": "يدخل من يشاء في رحمته والظالمون" [الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: "أعد لهم عذابا" يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان "والظالمون" رفعا بالابتداء والخبر "أعد لهم".
"عذابا أليما" أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة "البقرة" وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.
سورة المرسلات
مقدمة السورة
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون" [المرسلات: 48] مدنية.
وقال ابن مسعود: نزلت "والمرسلات عرفا" على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقيتم شرها كما وقيت شركم). وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة "والمرسلات عرفا" فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.
الآية: 1 - 15 {والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا، والناشرات نشرا، فالفارقات فرقا، فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا، إنما توعدون لواقع، فإذا النجوم طمست، وإذا السماء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقتت، لأي يوم أجلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى: "والمرسلات عرفا" جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله؛ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح؛ كما قال تعالى: "وأرسلنا الرياح" [الحجر: 22]. وقال: "وهو الذي يرسل الرياح" [الأعراف: 57]. ومعنى "عرفا" يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من "والمرسلات" أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و"عرفا" على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قال ابن مسعود. وقيل: جاريات؛ قال الحسن؛ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. "فالعاصفات عصفا" الرياح بغير اختلاف؛ قال المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه؛ كما قال تعالى: "فيرسل عليكم قاصفا" [الإسراء: 69]. وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. "والناشرات نشرا" الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث.
وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد.
وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: "والناشرات" بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر. "فالفارقات فرقا" الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال: "الفارقات فرقا" الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقال الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.
وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفرق. [وربما] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمة:
أو مزنة فارق يجلو غواربها تبوج البرق والظلماء علجوم
"فالملقيات ذكرا" الملائكة بإجماع؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قال قطرب. وقرأ ابن عباس "فالملقيات" بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى: "وإنك لتلقى القرآن" [النمل: 6] "عذرا أو نذرا" أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه؛ قال الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة "عذرا" قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. "عذرا" أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة "أو نذرا" ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص "أو نذرا" بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال "عذرا" سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة "عذرا ونذرا" بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من "ذكرا" أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى: "هذا نذير من النذر الأولى" [النجم: 56] فيكون نصبا على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا "لذكرا" أي "فالملقيات" أي تذكر "عذرا أو نذرا". وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.
قوله تعالى: "إنما توعدون لواقع" هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بين وقت وقوعه فقال: "فإذا النجوم طمست" أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب؛ يقال: طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. "وإذا السماء فرجت" أي فتحت وشقت؛ ومنه قوله تعالى: "وفتحت السماء فكانت أبوابا" [النبأ: 19]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. "وإذا الجبال نسفت" أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشر:
نسوف للحزام بمرفقيها
ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. "وإذا الرسل أقتت" أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى: "يوم يجمع الله الرسل" [المائدة: 109]. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به. التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل: "أقتت" أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في "أقتت" بدل من الواو؛ قال الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و[أجوه]. وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: "ولا تنسوا الفضل بينكم" [البقرة: 237] لأن الضمة غير لازمة.
وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد "وقتت" بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ "أقتت" من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج "وقتت" بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه "كتابا موقوتا". وعن الحسن أيضا: "ووقتت" بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام "أقتت" بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.
قوله تعالى: "لأي يوم أجلت" أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي "ليوم الفصل" أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل]. "وما أدراك ما يوم الفصل" أتبع التعظيم تعظيما؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ "ويل يومئذ للمكذبين" أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: "جزاء وفاقا". [النبأ: 26]. وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقال ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل] وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.
الآية: 16 - 19 {ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى: "ألم نهلك الأولين" أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. "ثم نتبعهم الآخرين" أي نلحق الآخرين بالأولين. "كذلك نفعل بالمجرمين" أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرأ العامة "ثم نتبعهم" بالرفع على الاستئناف، وقرأ الأعرج "نتبعهم" بالجزم عطفا على "نهلك الأولين" كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: "كذلك نفعل بالمجرمين" يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من "نتبعهم" لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود "ثم سنتبعهم" والكاف من "كذلك" في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة.