تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 602 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 602

602- تفسير الصفحة رقم602 من المصحف
سورة قريش
الآية: 1 {لإيلاف قريش}
قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى: "والتين والزيتون" [التين: 1] وفي الثانية "ألم تر كيف" [الفيل: 1] و"لإيلاف قريش" [قريش: 1]. وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: "لإيلاف قريش" أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش. وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية. يقولون هم أهل بيت الله جل وعز؛ حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته. أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه. ذكره النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: "لإيلاف قريش" قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما؛ على ما نبينه أثناء السورة. وقيل: ليست بمتصلة؛ لأن بن السورتين "بسم الله الرحمن الرحيم" وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: "فليعبدوا" أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار. وكذا قال الخليل: ليست متصلة؛ كأنه قال: أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت. وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك: زيدا فاضرب. وقيل: اللام في قوله تعالى: "لإيلاف قريش" لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائي والأخفش. وقيل: بمعنى إلى. وقرأ ابن عامر: "لائلاف قريش" مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو جعفر والأعرج "ليلاف" بلا همز طلبا للخفة. الباقون "لإيلاف" بالياء مهموزا مشبعا؛ من آلفت أولف إيلافا. قال الشاعر:
المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف
ويقال: ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر أيضا: "لإلف قريش" وقد جمعهما من قال:
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
قال الجوهري: وفلان قد ألف هذا الموضع (بالكسر) يألف إلفا، وآلفه إياه غيره. ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا؛ فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة. وقرأ عكرمة "ليألف" بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ "لإيلاف". وقرأ بعض أهل مكة "إلاف قريش" استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذود العدا عن عصبة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه. وربما قالوا: قريشي، وهو القياس؛ قال الشاعر:
بكل قريشي عليه مهابة
فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ قال الشاعر:
وكفى قريش المعضلات وسادها
والتقريش: الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا. وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا. قال الشاعر:
أبونا قصي كان يدعي مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
وقد قيل:إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر. فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي. والأول أصح وأثبت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمنا، ولا ننتفي من أبينا). وقال وائلة بن الأسقع: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال: أحدهما: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. قال أبو جلدة اليشكري:
إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم
الثاني: لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم. والتقرش: التكسب. وقد قرش يقرش قرشا: إذا كسب وجمع. قال الفراء: وبه سميت قريش. الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته. والقرش: التفتيش. قال الشاعر:
أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو فهل له إبقاء
الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى. وأنشد قول تبع:
قريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا
تأكل الرث والسمين ولا تتـ ـرك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا
الآية: 2 {إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}
قرأ مجاهد وحميد "إلفهم" ساكنة اللام بغير ياء. وروي نحوه عن ابن كثير. وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "إلفهم". وروي عن ابن عباس وغيره. وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة "إلافهم" مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم "إئلافهم" بهمزتي، الأولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ. الباقون "إيلافهم" بالمد والهمز؛ وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف. وألف هو إلفا؛ على ما تقدم ذكره من القراءة؛ أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" قال: لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، مِنةً منهُ على قريش. وقال الهروي وغيره: وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل؛ بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام؛ أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام. وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة؛ يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة. قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم. وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: "لإيلاف قريش" إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا؛ حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيد زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء؛ فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله وجل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس؛ فسمي هاشما. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم؛ فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع" بصنيع هاشم"وآمنهم من خوف" أن تكثر العرب ويقلوا.
قوله تعالى: "رحلة الشتاء والصيف" "رحلة" نصب بالمصدر؛ أي ارتحالهم رحلة؛ أو بوقوع "إيلافهم" عليه، أو على الظرف. ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز. والأول أولى. والرحلة الارتحال. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة. وعن ابن عباس أيضا قال: كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. وقال الشاعر:
تشتي بمكة نعمة ومصيفها بالطائف
اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: "لإيلاف" متعلق بما قبله. ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: "فليعبدوا رب هذا البيت" قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر "بسم الله الرحمن الرحيم"،فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا. فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك. هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم.
قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم"الحمد لله رب العالمين" ثم يقف. "الرحمن الرحيم" ثم يقف. وقد مضى في مقدمة الكتاب. وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله: "كعصف مأكول" [الفيل: 5] ليس بقبيح. وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى: "فجعلهم كعصف مأكول" [الفيل: 5] انتهاء آية. فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي. وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور. ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن؛ فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم, وذلك إخلال بحق المقروء.
قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس. وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه. وقال عنه أشهب وحده: إذا سقطت الهقعة نقص الليل،، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر. وقد سئل محمد بن عبدالحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من هاتور. ولو قال يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من بشنس. قال القرظي: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذ حسبت المنازل على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم.
قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف. وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا.
الثالثة: لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة للدفء.
الآية: 3 {فليعبدوا رب هذا البيت}
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين. ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم؛ على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة. وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فيميز نفسه عنها. الثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته. وقيل: "فليعبدوا رب هذا البيت" أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم:" فليعبدا رب هذا البيت" أي يقيموا بمكة. رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.
الآية: 4 {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}
قوله تعالى: "الذي أطعمهم من جوع" أي بعد جوع. "وآمنهم من خوف" قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات" [البقرة: 126]. وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم - وقرأ - "أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء" [القصص: 57]. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه؛ فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأقوات؛ فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين. وقيل: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمين؛ فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: "وآمنهم من خوف" أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام. وقال الأعمش: "وآمنهم من خوف" أي من خوف الحبشة مع الفيل. وقال علي رضي الله عنه: "وآمنهم من خوف" أن تكون الخلافة إلاًّ فيهم. وقيل: أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم.
سورة الماعون
الآية: 1 - 2 {أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم}
قوله تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين" أي بالجزاء والحساب في الآخرة؛ وقد تقدم في "الفاتحة". و"أرأيت" بإثبات الهمزة الثانية؛ إذ لا يقال في أرأيت: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا؛ ذكره الزجاج. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أمصيب هو أم مخطئ. واختلف فيمن نزل هذا فيه؛ فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وقاله الكلبي ومقاتل. وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين. وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل في أبي جهل. الضحاك: في عمرو بن عائذ. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه؛ فأنزل الله هذه السورة. و"يدع" أي يدفع، كما قال: "يدعون إلى نار جهنم دعا" [الطور: 13] وقد تقدم. وقال الضحاك عن ابن عباس: "فذلك الذي يدع اليتيم" أي يدفعه عن حقه. قتادة: يقهره ويظلمه. والمعنى متقارب. وقد تقدم في سورة "النساء" أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضم يتيما من المسلمين حتى يستعني فقد وجبت له الجنة). وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
الآية: 3 {ولا يحض على طعام المسكين}
قوله تعالى: "ولا يحض على طعام المسكين" أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة: "ولا يحض على طعام المسكين" [الحاقة: 34] وقد تقدم. وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" [يس: 47]، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا.
الآية: 4 - 7 {فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون}
قوله تعالى: "فويل للمصلين" أي عذاب لهم. وقد تقدم في غير موضع. "الذين هم عن صلاتهم ساهون" فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا. وعنه أيضا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها. وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال: ساهون بإضاعة الوقت. وعن أبي العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها.
قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" [مريم: 59] حسب ما تقدم بيانه في سورة "مريم" عليها السلام. وروي عن إبراهيم أيضا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا. وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله. وفي قراءة عبدالله "الذين هم عن صلاتهم لاهون". وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون" - قال - : (الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها). وعن ابن عباس أيضا: هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى" [النساء: 142] .. الآية. ويدل على أنها في المنافقين قوله: "الذين هم يراؤون"، وقال ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلا:الم وقال عطاء: الحمد لله الذي قال "عن صلاتهم" ولم يقل في صلاتهم. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قوله: "عن صلاتهم"، وبين قولك: في صلاتهم؟ قلت: معنى "عن" أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى "في" أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. قال ابن العربي: لأن السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة: وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها؛ وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها؛ اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى.
قوله تعالى: "الذين هم يراؤون" أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية؛ كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس. وأولها تحسين السمت؛ وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء. وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة؛ ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا؛ وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس؛ وذلك يطول، وهذا دليله؛ قاله ابن العربي.
قلت: قد تقدم في سورة "النساء وهود وآخر الكهف" القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله.
ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: (ولا غمة في فرائض الله) لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت؛ فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي؛ لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها؛ فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة. وقد مضى هذا المعنى في سورة "البقرة" عند قوله تعالى: "إن تبدوا الصدقات" [البقرة: 271]، وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك.
قوله تعالى: "ويمنعون الماعون" فيه اثنا عشر قولا: الأول: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبدالعزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: "فويل للمصلين. الذين هم على صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون" قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياءً، وإن فاتته لم يندم عليها، "ويمنعون الماعون" الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول الثاني: أن "الماعون" المال، بلسان قريش؛ قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب. وقول ثالث: أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك؛ قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا. قال الأعشى:
بأجود منه بما عونه إذا ما سماؤهم لم تغم
الرابع: ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير؛ وأنشدوا بيت الأعشى. قالوا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة؛ وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا ما عونهم ويضيعوا التهليلا
يعني الزكاة. الخامس: أنه العارية؛ وروي عن ابن عباس أيضا. السادس: أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم؛ قاله محمد بن كعب والكلبي. السابع: أنه الماء والكلأ. الثامن: الماء وحده. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء؛ وأنشدني فيه:
يمج صبيره الماعون صبا
الصبير: السحاب. التاسع: أنه منع الحق؛ قاله عبدالله بن عمر. العاشر: أنه المستغل من منافع الأموال؛ مأخوذ من المعن وهو القليل؛ حكاه الطبري ابن عباس. قال قطرب: أصل الماعون من القلة. والمعن: الشيء القليل؛ تقول العرب: ماله سعنة ولا معنة؛ أي شيء قليل. فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف، ماعونا؛ لأنه قليل من كثير. ومن الناس من قال: الماعون: أصله معونة، والألف عوض من الهاء؛ حكاه الجوهري. ابن العربي: الماعون: مفعول من أعان يعين، والعون: هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر. الحادي عشر: أنه الطاعة والانقياد. حكى الأخفش عن أم أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون؛ أي تنقاد لك وتعطيك. قال الراجز:
متى تصادفهن في البرين يخضعن أو يعطين بالماعون
وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: (الماء والنار والملح) قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح؟ فقال: (يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه. وفي إسناده لين؛ وهو القول الثاني عشر. الماوردي: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم. وقيل لعكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئا من المتاع كان له الويل؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل؛ يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون.
قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال؛ قال الله تعالى: "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" [النساء: 142]، وقال: "ولا ينفقون إلا وهم كارهون". [التوبة: 54]. وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين؛ كالصلاة إذا تركها. والله أعلم. إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. والله أعلم.
سورة الكوثر
الآية: 1 {إنا أعطيناك الكوثر}
قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر" قراءة العامة. "إنا أعطيناك" بالعين. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف: "أنطيناك" بالنون؛ وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي لغة في العطاء؛ أنطيته: أعطيته. و"الكوثر": فوعل من الكثرة؛ مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت بكوثر؛ أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع. والكوثر من الغبار: الكثير. وقد تكوثر إذا كثر؛ قال الشاعر:
وقد ثار الموت حتى تكوثرا
واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا: الأول: أنه نهر في الجنة؛ رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر: نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج). هذا حديث حسن صحيح. الثاني: أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف؛ قاله عطاء. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم: "إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر. إن شانئك هو الأبتر" - ثم قال - أتدرون ما الكوثر؟. قلنا الله ورسول أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة أنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك.
والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة، ذكرناها في كتاب "التذكرة". وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة؛ رضوان الله عليهم. وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر، وذكرنا هناك من يُطرد عنه. فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك. ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك. ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. الثالث: أن الكوثر النبوة والكتاب؛ قاله عكرمة. الرابع: القرآن؛ قاله الحسن. الخامس: الإسلام؛ حكاه المغيرة. السادس: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع؛ قاله الحسين بن الفضل. السابع: هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع؛ قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب. الثامن: أنه الإيثار؛ قال ابن كيسان. التاسع: أنه رفعة الذكر. حكاه الماوردي. العاشر: أنه نور في قلبك دلك علي، وقطعك عما سواي. وعنه: هو الشفاعة؛ وهو الحادي عشر. وقيل: معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك؛ حكاه الثعلبي، وهو الثاني عشر. الثالث عشر: قال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: الفقه في الدين. وقيل: الصلوات الخمس؛ وهما الرابع عشر والخامس عشر. وقال ابن إسحاق: هو العظيم من الأمر؛ وذكر بيت لبيد:
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر
أي عظيم.
قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر. وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حوضه يقول الشاعر:
يا صاحب الحوض من يدانيكا وأنت حقا حبيب باريكا
وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
الآية: 2 {فصل لربك وانحر}
قوله تعالى: "فصل" أي أقم الصلاة المفروضة عليك؛ كذا رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال قتادة وعطاء وعكرمة: "فصل لربك" صلاة العيد ويوم النحر. "وانحر" نسكك. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر. وقال سعيد بن جبير أيضا: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع، وانحر البدن بمني، وقال سعيد بن جبير أيضا: نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف؛ ففعل ذلك. قال ابن العربي: أما من قال: إن المراد بقوله تعالى: "فصل": الصلوات الخمس؛ فإنها ركن العبادات، وقاعدة الإسلام، وأعظم دعائم الدين. وأما من قال: إنها صلاة الصبح بالمزدلفة؛ فلأنها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها؛ فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر".
قلت: وأما من قال إنها صلاه العيد؛ فذلك بغير مكة؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه ابن عمر. قال ابن العربي: فأما مالك فقال: ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر، والنحر بعدها. وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب: المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة. وروي عن ابن عباس أيضا. وروي عن علي أيضا: أن يرفع يديه في التكبير إلى نحوه. وكذا قال جعفر بن علي: "فصل لربك وانحر" قال: يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر. وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت "فصل لربك وانحر" قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها)؟ قال: (ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شيء زينة، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره). وعن أبي صالح عن ابن عباس قال: استقبل القبلة بنحرك؛ وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص. ومنه قول الشاعر:
أبا حكم ما أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي المتقابل. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر؛ أي نتقابل، نحر هذا بنحر هذا؛ أي قبالته. وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب؛ من قولهم: منازلهم تتناحر؛ أي تتقابل. وروي عن عطاء قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي: يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك. وقيل: "فصل" معناه: واعبد. وقال محمد بن كعب القرظي: "إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر" يقول: إن ناسا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله؛ وقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله. قاله ابن العربي: والذي عندي أنه أراد: أعبد ربك، وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير، الذي أعطاكه الله، أو النهر الذي طينه مسك، وعدد آنيته نجوم السماء؛ أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة، فذلك يبعد في التقدير والتدبير، وموازنة الثواب للعبادة. والله أعلم.
قد مضى القول في سورة "الصافات" في الأضحية وفضلها، ووقت ذبحها؛ فلا معنى لإعادة ذلك. وذكرنا أيضا في سورة "الحج" جملة من أحكامها. قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر: أن الشافعي قال: إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: "فصل لربك وأنحر"، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره، عن البراء بن عازب، قال: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا: نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء). وأصحابه ينكرونه، وحبذا الموافقة.
وأما ما روي عن علي عليه السلام" فصل لربك وانحر" قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدار قطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة؛ لأن ذلك من باب الاعتماد. ولا يجوز في الفرض، ولا يستحب في النفل. الثاني: لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة استعانة؛ لأنه موضع ترخص. الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة. وهو الصحيح؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره. قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكي ذلك عن الشافعي. واستحب ذلك أصحاب الرأي. ورأت جماعة إرسال اليد. وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي.
قلت: وهو مروي أيضا عن مالك. قال ابن عبدالبر: إرسال اليدين، ووضع اليمني على الشمال، كل ذلك من سنة الصلاة.
واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد؛ فروى عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السرة. وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة. وقالت طائفة: توضع تحت السرة. وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز. وبه قال سفيان الثوري وإسحاق.
وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود، فاختلف في ذلك؛ فروى الدار قطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد. لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبدالوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول سمع الله لمن حمده. ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود. قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول. وبه أقوال؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
قلت: وهو المشهور من مذهب مالك؛ لحديث ابن مسعود؛ خرجه الدار قطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في أفتتاح الصلاة. قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها. قال الدار قطني: تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفا عن حماد عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبدالله، من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الصواب. وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين أفتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة. قال الدار قطني: وإنما لقن يزيد في آخر عمره: ثم لم يعد؛ فتلقنه وكان قد أختلط. وفي مختصر ما ليس في المختصر عن مالك: لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة. قال ابن القاسم: ولم أر مالكا برفع يديه عند الإحرام، قال: وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام.
الآية: 3 {إن شانئك هو الأبتر}
أي مبغضك؛ وهو العاص بن وائل. وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات: أبتر. فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفا؟ فقال: مع ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة؛ فأنزل الله جل شأنه: "إن شانئك هو الأبتر"0 أي المقطوع ذكره، من خير الدنيا والآخرة. وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا: بتر فلان. فلما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه، فقال: بتر محمد؛ فأنزل الله جل ثناؤه: "إن شانئك هو الأبتر" يعني بذلك أبا جهل. وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط. وقيل: إن قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده: قد بتر فلان. فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم: بمكة، وإبراهيم بالمدينة، قالوا: بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده؛ فنزلت هذه الآية؛ قال السدي وابن زيد. وقيل: إنه جواب لقريش حين قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم مكة: نحن أصحاب السقاية والسدانة والحجابة واللواء، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنيبر الأبيتر من قومه؟ قال كعب: بل أنتم خير؛ فنزلت في كعب: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" [النساء: 51] الآية. ونزلت في قريش: "إن شانئك هو الأبتر"؛ قاله ابن عباس أيضا وعكرمة. وقيل: إن الله عز وجل لما أوحى إلى رسوله، ودعا قريشا إلى الإيمان، قالوا: انبتر منا محمد؛ أي خالفنا وانقطع عنا. فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون؛ قاله أيضا عكرمة وشهر بن حوشب. قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له. وكل أمر انقطع من الخير أثره، فهو أبتر. والبتر: القطع. بترت الشيء بترا: قطعته قبل الإتمام. والانبتار: الانقطاع. والباتر: السيف القاطع. والأبتر: المقطوع الذنب. تقول منه: بتر (بالكسر) يبتر بترا. وفي الحديث (ما هذه البتيراء). وخطب زياد خطبته البتراء؛ لأنه لم يمجد الله فيها، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم. ابن السكيت: الأبتران: العير والعبد؛ قال سميا أبترين لقلة خيرهما. وقد أبتره الله: أي صيره أبتر. ويقال: رجل أباتر بضم الهمزة: الذي يقطع رحمه قال الشاعر:
لئيم نزت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أحذُّ أُباتر
والبترية: فرقة من الزيدية؛ نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر. وأما الصنبور فلفظ مشترك. قيل: هو النخلة تبقى منفردة، ويدق أسفلها ويتقشر؛ يقال: صنبرا أسفل النخلة. وقيل: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ. وقيل: هو مثعب الحوض خاصة؛ حكاه أبو عبيد. وأنشد:
ما بين صنبور إلى الإزاء
والصنبور: قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها. حكى جميعه الجوهري رحمه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.