تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 63 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 63

63- تفسير الصفحة رقم63 من المصحف
الآية: 101 {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}
قاله تعالى على جهة التعجب، أي "وكيف تكفرون وأنت تتلى عليكم آيات الله" يعني القرآن. "وفيكم رسوله" محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم؛ فنزلت هذه الآية "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله - إلى قوله تعالى: فأنقذكم منها" ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده. وقال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله ونبي الله؛ فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة؛ فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. "وكيف" في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. قوله تعالى: "ومن يعتصم بالله" أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. "فقد هدي" وفق وأرشد "إلى صراط مستقيم" ابن جريج "يعتصم بالله" يؤمن به. وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: أعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم؛ قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا
قال النابغة:
يظل من خوفه الملاح معتصما بالخيزرانة بعد الأيْن والنَّجَد
وقال آخر:
فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا
وعصمه الطعام: منع الجوع منه؛ تقول العرب: عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع؛ فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا؛ وأنشد:
فلا تلوميني ولومي جابرا فجابر كلفني الهواجرا
ويسمونه عامرا. وأنشد:
أبو مالك يعتادني بالظهائر يجيء فيلقى رحله عند عامر
أبو مالك كنية الجوع.
الآية: 102 {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
روى البخاري عن مرة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وقال ابن عباس: هو ألا يُعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل: "فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية؛ عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية. وقيل: إن قوله "فاتقوا الله ما استطعتم" بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند الجمع والجمع ممكن فهو أولى. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته" لم تنسخ، ولكن "حق تقاته" أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال النحاس: وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
الآية: 103 {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}
قوله تعالى: "واعتصموا" العصمة المَنْعَة؛ ومنه يقال للبذرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب؛ يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل؛ ومنه الحديث: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؛ والحبل الرسن. والحبل العهد؛ قال الأعشى:
وإذا تُجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها يريد الأمان. والحبل الداهية؛ قال كثير:
فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي بنصح أتى الواشون أم بحبول
والحبالة: حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد؛ عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو حبل الله). وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" قال: الجماعة؛ روي عنه وعن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
قوله تعالى: "ولا تفرقوا" يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم؛ عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا". وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي). أخرجه من حديث عبدالله بن زياد الإفريقي، عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبدالله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أفواج تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله). وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض). قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هَرَج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: "فإن تابوا" [التوبة: 11] قال: خلعوا الأوثان وعبادتها "وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة"، وقال في آية أخرى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين". أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقَدَرِية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية. وقال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
انقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة؛ فأولهم الأزرقية - قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا؛ وكفّروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والأباضية - قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق. والثعلبية - قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدِّر. والخازمية - قالوا: لا ندري ما الإيمان، والخلق كلهم معذورون. والخَلَفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية - قالوا: ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية - قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية - قالوا: لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين. والأخنسية - قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية - قالوا: مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة - قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية - قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا.
وانقسمت القَدَرية اثنتي عشرة فرقة: الأحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية. والكَيْسانية وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أيثاب الناس بُعد أو يعاقبون. والشيطانية - قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية - قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية - قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزِّبْرية - قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية - زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه. والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شيء فهو كافر. وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة: المعطلة - زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق. وإن من ادعى أن الله يُرى فهو كافر. والمريسية قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والمَلْتزقة - جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والواردية - قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا. والزنادقة - قالوا: ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربا؛ لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس. وما لا يدرك لا يثبت. والحرقية - زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار. والمخلوقية - زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية - زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا. والعبدية - جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية - قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقبرية - ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفْظِية - قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق.
وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة: التاركية - قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية - قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاؤوا. والراجية - قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية - قالوا: الطاعة ليست من الإيمان. والبهيشية - قالوا: الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية - قالوا: الإيمان عمل. والمنقوصية - قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية - قالوا: الاستثناء من الإيمان. والمشبهة - قالوا: بصر كبصر ويد كيد. والحشوية - قالوا: حكم الأحاديث كلها واحد؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية - الذين نفوا القياس. والبِدعية - أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأمة.
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة: العلوية - قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والأمِرِية - قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة - قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية - قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية - قالوا: علي أفضل الأمة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والإمامية - قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية - قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية - قالوا: الأرواح تتناسخ؛ فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم. والمتربصة - تشبهوا بزي النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الأمر، يزعمون أنه مهدي هذه الأمة، فإذا مات نصبوا آخر.
ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة: فمنهم المضطرية - قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والأفعالية - قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية - قالوا: كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شيء. والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية - قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية - قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية - قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء فلا يعمل، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحِبية - قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية - قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية - قالوا: من ازداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.
والخشبية - قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنية - قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأمة في آخر سورة "الأنعام" إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها؛ أما سمعت الله عز وجل يقول: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال). فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا؛ وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين. هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم.
قوله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام؛ فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوس والخزرج؛ والآية تعم. ومعنى "فأصبحتم بنعمته إخوانا" أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القرآن "أصبحتم" معناه صرتم؛ كقوله تعالى: "إن أصبح ماؤكم غورا" [الملك: 30] أي صار غائرا. والإخوان جمع أخ، وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده. وشفا كل شيء حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى: "على شفا جرف هار" [التوبة: 109]. قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سَجْلَه نابتة فوق شفاها بَقْلَه
وأشفى على الشيء أشرف عليه؛ ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند امّحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج:
ومربأ عال لمن تشرفا أشرفته بلا شفًى أو بشَفَى
قوله "بلا شفى" أي غابت الشمس. "أو بشفى" وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الأصل في شفا شَفَو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو؛ ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان.
الآية: 104 {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}
قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة. و"من" في قوله "منكم" للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك.
قلت: القول الأول أصح؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة" [الحج: 41] الآية. وليس كل الناس مكنوا. وقرأ ابن الزبير: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم" قال أبو بكر الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن؛ يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ "ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم" فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن؛ إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا.
الآية: 105 {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}
يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية؛ وتلا الآية. وقال جابر بن عبدالله: "الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" اليهود والنصارى. "جاءهم" مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.
الآية: 106 - 107 {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون}
قوله تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" [يس: 59]. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين: "من ربكم"؟ فيقولون: ربنا الله عز وجل فيقول لهم: "أتعرفونه إذا رأيتموه". فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه. فيرونه كما شاء الله. فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم؛ وذلك قوله تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه". ويجوز "تِبْيَضّ وتِسْوَدّ" بكسر التائين؛ لأنك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الألف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرأ الزهري "يوم تبياض وتسواد" ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز "يوم يبيض وجوه" بالياء على تذكير الجمع، ويجوز "أجوه" مثل "أقتت". وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم.
واختلفوا في التعيين؛ فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.
قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" قال: (يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة) ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وقال فيه: منكر من حديث مالك. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير. وقال أبي بن كعب: الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن: الآية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به؛ فذلك قوله: "أكفرتم بعد إيمانكم" وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس: هي في أهل الأهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: هي في الحرورية. وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: (هي في القدرية). روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. قال: هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم). قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي). وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم؛ كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها؛ فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع؛ كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
قوله تعالى: "فأما الذين اسودت وجوههم" في الكلام حذف، أي فيقال لهم "أكفرتم بعد إيمانكم" يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب (أما) لأن المعنى في قولك:(أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق). وقوله تعالى: "وأما الذين ابيضت وجوههم" هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. "ففي رحمة الله هم فيها خالدون" أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.
الآيتان: 108 - 109 {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين، ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور}
قوله تعالى: "تلك آيات الله" ابتداء وخبر، يعني القرآن. "نتلوها عليك" يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. "بالحق" أي بالصدق. وقال الزجاج: "تلك آيات الله" المذكورة حجج الله ودلائله. وقيل: "تلك" بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل "تلك" ويجوز أن تكون "آيات الله" بدلا من "تلك" ولا تكون نعتا؛ لأن المبهم لا ينعت بالمضاف. "وما الله يريد ظلما للعالمين" يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. "ولله ما في السماوات وما في الأرض" قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.