تفسير الطبري تفسير الصفحة 63 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 63
064
062
 الآية : 101
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وكيف تكفرون أيها الـمؤمنون بعد إيـمانكم بـالله وبرسوله, فترتدوا علـى أعقابكم {وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّهِ} يعنـي: حجج الله علـيكم التـي أنزلها فـي كتابه علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. {وفِـيكُمْ رَسُولُهُ} حجة أخرى علـيكم لله, مع آي كتابه, يدعوكم جميع ذلك إلـى الـحقّ, ويبصركم الهدى والرشاد, وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالـى ذكره: فما وجه عذركم عند ربكم فـي جحودكم نبوّة نبـيكم, وارتدادكم علـى أعقابكم, ورجوعكم إلـى أمر جاهلـيتكم, إن أنتـم راجعتـم ذلك وكفرتـم, وفـيه هذه الـحجج الواضحة, والاَيات البـينة, علـى خطأ فعلكم ذلك إن فعلتـموه. كما:
6080ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّهِ}... الاَية, علـمان بـينان: وُجْدَانُ نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وكتاب الله¹ فأما نبـيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم¹ وأما كتاب الله, فأبقاه الله بـين أظهركم رحمة من الله ونعمة, فـيه حلاله وحرامه, وطاعته ومعصيته.
وأما قوله: {مَنْ يَعْتَصِمْ بـاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ} فإنه يعنـي: ومن يتعلق بأسبـاب الله, ويتـمسك بدينه وطاعته, {فَقَدْ هُدِيَ} يقول: فقد وفق لطريق واضح ومـحجة مستقـيـمة غير معوجة, فـيستقـيـم به إلـى رضا الله وإلـى النـجاة من عذاب الله والفوز بجنته. كما:
6081ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بـاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ} قال: يؤمن بـالله.
وأصل العصم: الـمنع, فكل مانع شيئا فهو عاصمه, والـمـمتنع به معتصم به, ومنه قول الفرزدق:
أنا ابْنُ العاصِمينَ بنـي تَـمِيـمٍإذَا ما أعْظَمُ الـحدَثانِ نابَـا
ولذلك قـيـل للـحبل: عصام, وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلـى حاجته: عصام, ومنه قول الأعشى:
إلـى الـمَرْءِ قَـيْسٍ أُطِيـلُ السّرىوآخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عُصُمْ
يعنـي بـالعُصُم: الأسبـاب, أسبـاب الذمة والأمان, يقال منه: اعتصمت بحبل من فلان, واعتصمت حبلاً منه, واعتصمت به واعتصمه. وأفصح اللغتـين: إدخال البـاء, كما قال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} وقد جاء «اعتصمته», كما قال الشاعر:
إذَا أنْتَ جازَيْتَ الإخاءَ بِـمِثْلِهِوَآسَيْتَنِـي ثُمّ اعْتَصَمْتُ حبِـالِـيا
فقال: «اعتصمت حبـالـيا», ولـم يدخـل البـاء, وذلك نظير قولهم: تناولت الـخطام وتناولت بـالـخطام, وتعلقت به وتعلقته, كما قال الشاعر:
تَعَلّقْتَ هِنْدا ناشِئا ذَاتَ مِئْزَرٍوأنتَ وَقد فـارَقْتَ لـمْ تَدْرِ ما الـحِلْـمُ
وقد بـينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّـي به الإسلام فـيـما مضى قبل بشواهده, فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع.
وقد ذكر أن الذي نزل فـي سبب تَـحَاوُرْ القبـيـلتـين الأوس والـخزرج, كان منه قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّهِ}. ذكر من قال ذلك:
6082ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا حسن بن عطية, قال: حدثنا قـيس بن الربـيع, عن الأغرّ بن الصبـاح, عن خـلـيفة بن حصين, عن أبـي نصر, عن ابن عبـاس, قال: كانت الأوس والـخزرج بـينهم حرب فـي الـجاهلـية كل شهر, فبـينـما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بـينهم حتـى غضبوا, فقام بعضهم إلـى بعض بـالسلاح, فنزلت هذه الاَية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَفِـيكُمْ رَسُولُه}... إلـى آخر الاَيتـين, {واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً}... إلـى آخر الاَية.
الآية : 102
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله, {اتقوا الله} خافوا الله وراقبوه بطاعته, واجتناب معاصيه, {حق تقاته} حقّ خوفه, وهو أن يطاع فلا يعصى, ويشكر فلا يكفر, ويذكر فلا ينسى. {ولا تـموتنّ} أيها الـمؤمنون بـالله ورسوله, {إلا وأنتـم مسلـمون} لربكم, مذعنون له بـالطاعة, مخـلصون له الألوهية والعبـادة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6083ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن زبـيد, عن مرة, عن عبد الله: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} قال: أن يُطاع فلا يُعصى, ويُذكر فلا يُنسى, ويُشكر فلا يُكفر.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا شعبة, عن زبـيد, عن مرة الهمدانـي, عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن زبـيد, عن مرة الهمدانـي, عن عبد الله مثله.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا, عن زبـيد, عن مرة بن شراحيـل الهمدانـي, عن عبد الله بن مسعود, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا جرير, عن زبـيد, عن عبد الله, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا مسعر, عن زبـيد, عن مرة, عن عبد الله, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن الـمسعودي, عن زبـيد الأيامي, عن مرّة, عن عبد الله, مثله.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن زبـيد, عن مرة, عن عبد الله, مثله.
6084ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا يحيـى بن سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن عمرو بن ميـمون: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} قال: أن يطاع فلا يعصى, ويشكر فلا يكفر, ويذكر فلا ينسى.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عمرو بن ميـمون, نـحوه.
6085ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا يحيـى بن سعيد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا عمرو بن مرة, عن الربـيع بن خُثَـيْـم, قال: أن يطاع فلا يعصى, ويشكر فلا يكفر, ويذكره فلا ينسى.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة, قال: سمعت مرة الهمدانـي يحدّث عن الربـيع بن خُثَـيْـم فـي قول الله عزّ وجلّ: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} فذكر نـحوه.
6086ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن قـيس بن سعد, عن طاوس: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى.
6087ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} قال: حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصي.
6088ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: ثم تقدم إلـيهم, يعنـي إلـى الـمؤمنـين من الأنصار, فقال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} أما حق تقاته: يطاع فلا يعصى, ويذكر فلا ينسى, ويشكر فلا يكفر.
6089ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا همام, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى, قال: {ولا تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـم مِسْلِـمُونَ}.
وقال آخرون: بل تأويـل ذلك كما:
6090ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} قال: حقّ تقاته أن يجاهدوا فـي سبـيـل الله حقّ جهاده, ولا يأخذهم فـي الله لومة لائم, ويقوموا لله بـالقسط ولو علـى أنفسهم وآبـائهم وأبنائهم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي هذه الاَية, هل هي منسوخة أم لا؟ فقال بعضهم: هي مـحكمة غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:
6091ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} إنها لـم تنسخ, ولكن حقّ تقاته أن تـجاهد فـي الله حقّ جهاده. ثم ذكر تأويـله الذي ذكرناه عنه آنفا.
6092ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن نـجيح, عن قـيس بن سعد, عن طاوس: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} فإن لـم تفعلوا ولـم تستطيعوا, {فَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ}.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال طاوس, قوله: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} يقول: إن لـم تتقوه فلا تـموتنّ إلا وأنتـم مسلـمون.
وقال آخرون: هي منسوخة, نسخها قوله: {فـاتّقُوا اللّهَ ما استْطَعْتُـمْ}. ذكر من قال ذلك:
6093ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} ثم أنزل التـخفـيف والـيسر, وعاد بعائدته ورحمته علـى ما يعلـم من ضعف خـلقه, فقال: {فـاتّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُـمْ} فجاءت هذه الاَية فـيها تـخفـيف وعافـية ويسر.
ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال الأنـماطي, قال: حدثنا همام, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ ألاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} قال: نسختها هذه الاَية التـي فـي التغابن {فـاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـمْ واسمَعُوا وأطِيعُو} وعلـيها بـايع رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى السمع والطاعة فـيـما استطاعوا.
6094ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: لـما نزلت: {اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} ثم نزل بعدها: {فـاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـم} فنسخت هذه الاَية التـي فـي آل عمران.
6095ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} فلـم يطق الناس هذا, فنسخه الله عنهم, فقال: {فـاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـمْ}.
6096ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ} قال: جاء أمر شديد, قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلـما عرف أنه قد اشتدّ ذلك علـيهم, نسخها عنهم, وجاء بهذه الأخرى, فقال: {فـاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـمْ} فنسخها.
وأما قوله: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} فإن تأويـله كما:
6097ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن قـيس بن سعد, عن طاوس: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} قال: علـى الإسلام وعلـى حرمة الإسلام.
الآية : 103
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وتعلقوا بأسبـاب الله جميعا. يريد بذلك تعالـى ذكره: وتـمسكوا بدين الله الذي أمركم به, وعهده الذي عهده إلـيكم فـي كتابه إلـيكم من الألفة والاجتـماع علـى كلـمة الـحقّ والتسلـيـم لأمر الله. وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى معنى الاعتصام. وأما الـحبل, فإنه السبب الذي يوصل به إلـى البغية والـحاجة, ولذلك سمي الأمان حبلاً, لأنه سبب يوصل به إلـى زوال الـخوف والنـجاة من الـجزع والذعر, ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة:
وإذَا تُـجَوّزُها حِبـالُ قَبِـيـلةَأخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إلـيكَ حِبـالَها
ومنه قول الله عزّ وجلّ: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6098ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام, عن الشعبـي, عن عبد الله بن مسعود أنه قال فـي قوله: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: الـجماعة.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن العوّام, عن الشعبـيّ, عن عبد الله فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: حبل الله: الـجماعة.
وقال آخرون: عَنَى بذلك القرآن, والعهد الذي عهد فـيه. ذكر من قال ذلك:
6099ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} حبل الله الـمتـين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن.
6100ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: بعهد الله وأمره.
6101ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن شقـيق, عن عبد الله, قال: إن الصراط مـحتضر تـحضره الشياطين, ينادون: يا عبد الله هلـمّ هذا الطريق! لـيصدّوا عن سبـيـل الله. فـاعتصموا بحبل الله, فإن حبل الله هو كتاب الله.
6102ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, عن أسبـاط, عن السديّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} أما حبل الله: فكتاب الله.
6103ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {بِحَبْلِ الله}: بعهد الله.
6104ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء: {بِحَبْلِ الله} قال: العهد.
6105ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن أبـي وائل, عن عبد الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: حبل الله: القرآن.
6106ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: القرآن.
6107ـ حدثنا سعيد بن يحيـى, قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد, عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان العرزمي, عن أبـي سعيد الـخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كِتاب اللّهِ, هُوَ حَبْلُ الله الـمَـمْدُودُ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْضِ».
وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله. ذكر من قال ذلك:
6108ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} يقول: اعتصموا بـالإخلاص لله وحده.
6109ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيع} قال: الـحبل: الإسلام. وقرأ {وَلا تَفَرّقُو}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَفَرّقُو}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {وَلا تَفَرّقُو}: ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إلـيكم فـي كتابه من الائتلاف والاجتـماع علـى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلـى أمره. كما:
6110ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ} أن الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إلـيكم فـيها, وحذّركموها, ونهاكم عنها, ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والـجماعة, فـارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتـم, ولا قوّة إلا بـالله.
6111ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: {وَلا تَفَرّقُو}: لا تعادوا علـيه, يقول: علـى الإخلاص لله, وكونوا علـيه إخوانا.
6112ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, أن الأوزاعي حدثه, أن يزيد الرقاشي حدثه, أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ بَنِـي إسْرائِيـلَ افْتَرَقَتْ علـى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً, وَإنّ أُمّتِـي سَتَفْتَرِقُ علـى اثْنَـيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلّهمْ فِـي النّارِ إلاّ وَاحِدَةً». قال: فقـيـل يا رسول الله, وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: «الـجَمَاعَة» {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا وَلا تَفَرّقُو}.
حدثنـي عبد الكريـم بن أبـي عمير, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, نـحوه.
6113ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن ابن أبـي خالد, عن الشعبـي, عن ثابت بن قطنة الـمري, عن عبد الله أنه قال: يا أيها الناس علـيكم بـالطاعة والـجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به, وإنّ ما تكرهون فـي الـجماعة والطاعة هو خير مـما تستـحبون فـي الفرقة.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الـيشكري, قال: أخبرنا مـحمد بن يزيد, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن الشعبـي, عن ثابت بن قطنة, قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب, وهو يقول: يا أيها الناس, ثم ذكر نـحوه.
حدثنا إسماعيـل بن حفص الاَملـي, قال: حدثنا عبد الله بن نـمير أبو هشام, قال: حدثنا مـجالد بن سعيد, عن عامر, عن ثابت بن قطنة الـمري, قال: قال عبد الله: علـيكم بـالطاعة والـجماعة, فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نـحوه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَان}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ}: واذكروا ما أنعم الله به علـيكم من الألفة والاجتـماع علـى الإسلام.
واختلف أهل العربـية فـي قوله: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} فقال بعض نـحويـي البصرة فـي ذلك: انقطع الكلام عند قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ}, ثم فسر بقوله: {فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} وأخبر بـالذي كانوا فـيه قبل التألـيف, كما تقول: أمْسَكَ الـحائط أن يـميـل.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: قوله {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} تابع قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ} غير منقطعة منها.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن قوله: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} متصل بقوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ} غير منقطع عنه.
وتأويـل ذلك: واذكروا أيها الـمؤمنون نعمة الله علـيكم التـي أنعم بها علـيكم حين كنتـم أعداء: أي بشرككم, يقتل بعضكم بعضا, عصبـية فـي غير طاعة الله ولا طاعة رسوله, فألف الله بـالإسلام بـين قلوبكم, فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتـم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتـماع كلـمتكم علـيه. كما:
6114ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُمْ} كنتـم تذابحون فـيها, يأكل شديدكم ضعيفكم حتـى جاء الله بـالإسلام, فآخى به بـينكم, وألف به بـينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو, إن الألفة لرحمة, وإن الفرقة لعذاب!
6115ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً}: يقتل بعضكم بعضا, ويأكل شديدكم ضعيفكم, حتـى جاء الله بـالإسلام, فألّف به بـينكم, وجمع جمعكم علـيه, وجعلكم علـيه إخوانا.
فـالنعمة التـي أنعم الله علـى الأنصار التـي أمرهم تعالـى ذكره فـي هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتـماع كلـمتهم علـيها, والعداوة التـي كانت بـينهم, التـي قال الله عزّ وجلّ: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} فإنها عداوة الـحروب التـي كانت بـين الـحيـين من الأوس والـخزرج فـي الـجاهلـية قبل الإسلام, يزعم العلـماء بأيام العرب, أنها تطاولت بـينهم عشرين ومائة سنة. كما:
6116ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق: كانت الـحرب بـين الأوس والـخزرج عشرين ومائة سنة, حتـى قام الإسلام وهم علـى ذلك, فكانت حربهم بـينهم وهم أخوان لأب وأم, فلـم يسمع بقوم كان بـينهم من العدواة والـحرب ما كان بـينهم. ثم إن الله عزّ وجلّ أطفأ ذلك بـالإسلام, وألف بـينهم برسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم.
فذكّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيـم ما كانوا فـيه فـي جاهلـيتهم من البلاء والشقاء بـمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا, وخوّف بعضهم من بعض, وما صاروا إلـيه بـالإسلام واتبـاع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيـمان به, وبـما جاء به من الائتلاف والاجتـماع, وأمن بعضهم من بعض, ومصير بعضهم لبعض إخوانا. وكان سببُ ذلك ما:
6117ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة الـمدنـي, عن أشياخ من قومه, قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بنـي عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتـمرا. قال: وكان سويد إنـما يسميه قومه فـيهم الكامل لـجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به, فدعاه إلـى الله عزّ وجلّ وإلـى الإسلام, قال: فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَما الّذِي مَعَكَ؟» قال مـجلة لقمان ـ يعنـي حكمة لقمان ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعْرِضْها عَلـيّ!» فعرضها علـيه, فقال: «إنّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ, مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا, قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللّهُ عَلّـي هُدًى وَنُورٌ». قال: فتلا علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلـى الإسلام, فلـم يبعد منه, وقال: إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه, وقدم الـمدينة, فلـم يـلبث أن قتلته الـخزرج, فإن كان قومه لـيقولون: قد قتل وهو مسلـم, وكان قتله قبل يوم بُعاث.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي الـحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بنـي عبد الأشهل: أن مـحمود بن أسد أحد بنـي عبد الأشهل, قال: لـما قدم أبو الـجيش أنس بن رافع مكة, ومعه فتـية من بنـي عبد الأشهل فـيهم إياس بن معاذ, يـلتـمسون الـحلف من قريش علـى قوم من الـخزرج, سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتاهم فجلس إلـيهم, فقال: «هَلْ لَكُمْ إلـى خَيْرٍ مـمّا جِئْتُـمْ لَهُ؟» قالُوا: وَما ذَاكَ؟ قال: «أنا رَسُولُ اللّهِ بَعَثَنِـي إلـى العِبـادِ أدْعُوهُمْ إلـى اللّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا, وأَنْزَلَ عَلّـي الكِتابَ». ثم ذكر لهم الإسلام, وتلا علـيهم القرآن, فقال إياس بن معاذ, وكان غلاما حدثا: أي قوم, هذا والله خير مـما جئتـم له! قال: فأخذ أبو الـجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ, وقال: دعنا منك, فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ, وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم, وانصرفوا إلـى الـمدينة, وكانت وقعة بُعاث بـين الأوس والـخزرج. قال: ثم لـم يـلبث إياس بن معاذ أن هلك قال: فلـما أراد الله إظهار دينه, وإعزاز نبـيه صلى الله عليه وسلم, وإنـجاز موعده له, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الـموسم الذي لقـي فـيه النفر من الأنصار يعرض نفسه علـى قبـائل العرب كما كان يصنع فـي كل موسم. فبـينا هو عند العقبة, إذ لقـي رهطا من الـخزرج أراد الله لهم خيرا. قال ابن حميد: قال سلـمة: قال مـحمد بن إسحاق: فحدثنـي عاصم بن عمر بن قتادة, عن أشياخ من قومه, قالوا: لـما لقـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «مَنْ أنْتُـمْ؟» قالوا: نفر من الـخزرج, قال: «أمِنْ مَوَالـىَ يَهُودَ؟» قالوا: نعم, قال: «أفَلا تَـجْلِسُونَ حتـى أُكَلّـمَكُمْ؟» قالوا: بلـى. قال: فجلسوا معه, فدعاهم إلـى الله وعرض علـيهم الإسلام, وتلا علـيهم القرآن. قال: وكان مـما صنع الله لهم به فـي الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم, وكانوا أهل كتاب وعلـم, وكانوا أهل شرك, أصحاب أوثان, وكانوا قد غزوهم ببلادهم, فكانوا إذا كان بـينهم شيء, قالوا لهم: إن نبـيا الاَن مبعوث قد أظلّ زمانه, نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلـما كلـم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر, ودعاهم إلـى الله عزّ وجلّ, قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلـموا والله إنه للنبـيّ الذي توعدكم به يهود, ولا يسبقُنكم إلـيه! فأجابوه فـيـما دعاهم إلـيه بأن صدقوه, وقبلوا منه ما عرض علـيهم من الإسلام, وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا, ولا قوم بـينهم من العداوة والشرّ ما بـينهم, وعسى أن يجمعهم الله بك, وسنقدم علـيهم, فندعوهم إلـى أمرك, ونعرض علـيهم الذي أجبناك إلـيه من هذا الدين, فإن يجمعهم الله علـيه, فلا رجل أعزّ منك! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, راجعين إلـى بلادهم, قد آمنوا وصدّقوا, وهم فـيـما ذكر لـي ستة نفر. قال: فلـما قدموا الـمدينة علـى قومهم, ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلـى الإسلام, حتـى فشا فـيهم, فلـم يبق دار من دور الأنصار إلا وفـيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى إذا كان العام الـمقبل, وافـى الـموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً, فلقوه بـالعقبة, وهي العقبة الأولـى, فبـايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى بـيعة النساء, وذلك قبل أن تفترض علـيهم الـحرب.
6118ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن عكرمة: أنه لقـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار, فآمنوا به وصدّقوه, فأراد أن يذهب معهم, فقالوا: يا رسول الله, إن بـين قومنا حربـا, وإنا نـخاف إن جئت علـى حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد. فوعدوه العام الـمقبل, وقالوا: يا رسول الله نذهب, فلعلّ الله أن يصلـح تلك الـحرب! قال: فذهبوا ففعلوا, فأصلـح الله عزّ وجلّ تلك الـحرب, وكانوا يرون أنها لا تصلـح¹ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام الـمقبل سبعين رجلاً قد آمنوا, فأخذ علـيهم النقبـاء اثنـي عشر نقـيبـا, فذلك حين يقول: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم}.
6119ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} ففـي حرب {فَألّفَ بَـيْنَ قُلُوبِكُمْ} بـالإسلام. حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة, بنـحوه, وزاد فـيه: فلـما كان من أمر عائشة ما كان, فتثاور الـحيان, فقال بعضهم لبعض: موعدكم الـحرة! فخرجوا إلـيها, فنزلت هذه الاَية: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَان}... الاَية, فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلـم يزل يتلوها علـيهم حتـى اعتنق بعضهم بعضا, وحتـى إن لهم لـخنـينا, يعنـي البكاء.
وسمير الذي زعم السديّ أن قوله {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} عنى به حربه, هو سمير بن زيد بن مالك أحد بنـي عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان فـي قوله:
إنّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُقَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا
إنْ يَكُنِ الظّنّ صَادِقـي ببنـي النّــجّارِ لـم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا
وقد ذكر علـماء الأنصار أن مبدأ العداوة التـي هيجت الـحروب التـي كانت بـين قبـيـلتـيها الأوس والـخزرج وأولها كان بسبب قتل مولـى لـمالك بن العجلان الـخزرجي, يقال له: الـحر بن سمير, من مزينة, وكان حلـيفـا لـمالك بن العجلان, ثم اتصلت تلك العداوة بـينهم إلـى أن أطفأها الله بنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, فذلك معنى قول السديّ: حرب ابن سمير.
وأما قوله: {فَأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَان} فإنه يعنـي: فأصبحتـم بتألـيف الله عزّ وجلّ بـينكم بـالإسلام وكلـمة الـحقّ والتعاون علـى نصرة أهل الإيـمان, والتآزر علـى من خالفكم من أهل الكفر, إخوانا متصادقـين لا ضغائن بـينكم, ولا تـحاسد. كما:
6120ـ حدثنـي بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَان}, وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود: كيف أصبحتـم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْه}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ}: وكنتـم يا معشر الـمؤمنـين من الأوس والـخزرج علـى حرف حفرة من النار, وإنـما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا علـيه قبل أن يهديهم الله للإسلام, يقول تعالـى ذكره: وكنتـم علـى طرف جهنـم بكفركم الذي كنتـم علـيه, قبل أن ينعم الله علـيكم بـالإسلام, فتصيروا بـائتلافكم علـيه إخوانا, لـيس بـينكم وبـين الوقوع فـيها إلا أن تـموتوا علـى ذلك من كفركم, فتكونوا من الـخالدين فـيها, فـانقذكم الله منها بـالإيـمان الذي هداكم له. وشفـا الـحفرة: طرفها وحرفها, مثل شفـا الركية والبئر, ومنه قول الراجز:
نـحْنُ حَفَرْنا للـحَجيج سَجْلَهْنابِتَةً فوقَ شَفَـاهَا بَقْلَهْ
يعنـي فوق حرفها, يقال: هذا شفـا هذه الركية مقصور, وهما شفواها. وقال: {فَأنْقَذَكُمْ مِنْه}: يعنـي فأنقذكم من الـحفرة, فردّ الـخبر إلـى الـحفرة, وقد ابتدأ الـخبر عن الشفـا, لأن الشفـا من الـحفرة, فجاز ذلك, إذ كان الـخبر عن الشفـا علـى السبـيـل التـي ذكرها فـي هذه الاَية خبرا عن الـحفرة, كما قال جرير بن عطية:
رأتْ مَرّ السّنِـينَ أخَذْنَ مِنّـيكما أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر مرّ السنـين, ثم رجع إلـى الـخبر عن السنـين. وكما قال العجاج:
طُولُ اللّـيالـي أسْرَعَتْ فِـي نَقْضِيطَوَيْنَ طُولـي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
وقد بـينت العلة التـي من أجلها قـيـل ذلك كذلك فـيـما مضى قبل.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6121ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ} كان هذا الـحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً, وأشقاه عيشا, وأبـينه ضلالة, وأعراه جلودا, وأجوعه بطونا, مكعومين علـى رأس حجر بـين الأسدين: فـارس, والروم, لا والله ما فـي بلادهم يومئذ من شيء يحسدون علـيه, من عاش منهم عاش شقـيا ومن مات رُدّي فـي النار, يؤكلون ولا يأكلون, والله ما نعلـم قبـيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض, كانوا فـيها أصغر حظا, وأدقّ فـيها شأنا منهم, حتـى جاء الله عزّ وجلّ بـالإسلام, فورّثكم به الكتاب, وأحلّ لكم به دار الـجهاد, ووضع لكم به من الرزق, وجعلكم به ملوكا علـى رقاب الناس, وبـالإسلام أعطى الله ما رأيتـم, فـاشكروا نعمه, فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين, وإن أهل الشكر فـي مزيد الله, فتعالـى ربنا وتبـارك.
6122ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قوله: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ} يقول: كنتـم علـى الكفر بـالله, {فَأنْقَذَكُمْ مِنْه}: من ذلك, وهداكم إلـى الإسلام.
6123ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْه} بـمـحمد صلى الله عليه وسلم يقول: كنتـم علـى طرف النار من مات منكم أُوبق فـي النار, فبعث الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فـاستنقذكم به من تلك الـحفرة.
6124ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا حسن بن حيّ: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْه} قال: عصبـية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: كذلك كما بـين لكم ربكم فـي هذه الاَيات أيها الـمؤمنون من الأوس والـخزرج, من غِلّ الـيهود, الذي يضمرونه لكم, وغشهم لكم, وأمره إياكم بـما أمركم به فـيها, ونهيه لكم عما نهاكم عنه, والـحال التـي كنتـم علـيها فـي جاهلـيتكم, والتـي صرتـم إلـيها فـي إسلامكم, يعرّفكم فـي كل ذلك مواقع نعمه قبلكم, وصنائعه لديكم, فكذلك يبـين سائر حججه لكم فـي تنزيـله, وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. {لَعَلّكم تهتدون} يعنـي: لتهتدوا إلـى سبـيـل الرشاد, وتسلكوها فلا تضلوا عنها.
الآية : 104
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} أيها الـمؤمنون, {أُمّةٌ} يقول: جماعة {يَدْعُونَ} الناس {إلـى الـخَيْرِ} يعنـي إلـى الإسلام وشرائعه التـي شرعها الله لعبـاده, {وَيأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ} يقول: يأمرون الناس بـاتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم, ودينه الذي جاء به من عند الله, {وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ}: يعنـي وينهون عن الكفر بـالله, والتكذيب بـمـحمد, وبـما جاء به من عند الله بجهادهم بـالأيدي والـجوارح, حتـى ينقادوا لكم بـالطاعة. وقوله: {وَأُولِئَكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ} يعنـي: الـمنـجحون عند الله, البـاقون فـي جناته ونعيـمه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الإفلاح فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته ههنا.
6125ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا عيسى بن عمر القارىء, عن أبـي عون الثقـفـي, أنه سمع صبـيحا, قال: سمعت عثمان يقرأ: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إلـى الـخَيْرِ وَيأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ ويستعينون الله علـى ما أصابهم».
6126ـ حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, قال: سمعت ابن الزبـير يقرأ, فذكر مثل قراءة عثمان التـي ذكرناها قبل سواء.
6127ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إلـى الـخَيْرِ وَيأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: هم خاصة أصحاب رسول الله, وهم خاصة الرواة.
الآية : 105
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرّقوا من أهل الكتاب, واختلفوا فـي دين الله وأمره ونهيه, من بعد ما جاءهم البـينات, من حجج الله, فـيـما اختلفوا فـيه, وعلـموا الـحقّ فـيه, فتعمدوا خلافه, وخالفوا أمر الله, ونقضوا عهده وميثاقه, جراءة علـى الله, وأولئك لهم: يعنـي ولهؤلاء الذين تفرّقوا, واختلفوا من أهل الكتاب, من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيـم. يقول جل ثناؤه: فلا تفرّقوا يا معشر الـمؤمنـين فـي دينكم تفرّق هؤلاء فـي دينهم, ولا تفعلوا فعلهم, وتستنوا فـي دينكم بسنتهم, فـيكون لكم من عذاب الله العظيـم مثل الذي لهم. كما:
6128ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَـيّناتُ} قال: هم أهل الكتاب, نهى الله أهل الإسلام أن يتفرّقوا ويختلفوا, كما تفرّق واختلف أهل الكتاب, قال الله عزّ وجلّ: {وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.
6129ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُو} ونـحو هذا فـي القرآن أمر الله جلّ ثناؤه الـمؤمنـين بـالـجماعة, فنهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنـما هلك من كان قبلهم بـالـمراء والـخصومات فـي دين الله.
6130ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَـيّناتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ} قال هم الـيهود والنصارى.
الآية : 106-107
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيـم فـي يوم تبـيضّ وجوه وتسودّ وجوه. وأما قوله: {فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} فإن معناه: فأما الذين اسودّت وجوههم, فـيقال لهم: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ}. ولا بدّ لـ «أمّا» من جواب بـالفـاء, فلـما أسقط الـجواب سقطت الفـاء معه, وإنـما جاز ترك ذكر «فـيقال» لدلالة ما ذكر من الكلام علـيه. وأما معنى قوله جلّ ثناؤه: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيـمن عُنـي به, فقال بعضهم: عُنـي به أهل قبلتنا من الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:
6131ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه}... الاَية, لقد كفر أقوام بعد إيـمانهم كما تسمعون, ولقد ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ, لَـيَرِدَنّ عَلـيّ الـحَوْضَ مِـمّنْ صَحِبَنَـي أقْوَامٌ, حتـى إذَا رُفِعُوا إلـيّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِـجُوا دُونِـي, فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِـي أصحَابِـي, فَلَـيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ». وقوله: {وأمّا الّذِينَ ابْـيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِـي رَحْمَةِ اللّهِ} هؤلاء أهل طاعة الله والوفـاء بعهد الله, قال الله عز وجل: {فَفِـي رحْمة اللّهِ هُمْ فِـيها خالِدُونَ}.
6132ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ} فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.
6133ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن حماد بن سلـمة والربـيع بن صبـيح, عن أبـي مـجالد, عن أبـي أمامة: {فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـم بَعْدَ إيَـمانِكُمْ} قال: هم الـخوارج.
وقال آخرون: عنى بذلك كل من كفر بـالله بعد الإيـمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم علـى أنفسهم بـما بـين فـي كتابه. ذكر من قال ذلك:
6134ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا علـيّ بن الهيثم, قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب, فـي قوله: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه} قال: صاروا يوم القـيامة فريقـين, فقال لـمن اسودّ وجهه وعيرهم: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ} قال: هو الإيـمان الذي كان قبل الاختلاف فـي زمان آدم, حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم, وأقرّوا كلهم بـالعبودية, وفطرهم علـى الإسلام, فكانوا أمة واحدة مسلـمين, يقول: أكفرتـم بعد إيـمانكم, يقول بعد ذلك الذي كان فـي زمان آدم, وقال فـي الاَخرين: الذين استقاموا علـى إيـمانهم ذلك, فأخـلصوا له الدين والعمل, فبـيض الله وجوههم, وأدخـلهم فـي رضوانه وجنته.
وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ}: الـمنافقون. ذكر من قال ذلك:
6135ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه}... الاَية, قال: هم الـمنافقون كانوا أعطوا كلـمة الإيـمان بألسنتهم, وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
وأولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن أبـيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفـار, وأن الإيـمان الذي يوبخون علـى ارتدادهم عنه, هو الإيـمان الذي أقرّوا به يوم قـيـل لهم: {ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَـى شَهِدْن}. وذلك أن الله جلّ ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقـين: أحدهما سوداء وجوهه, والاَخر بـيضاء وجوهه, فمعلوم إذ لـم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفـار داخـلون فـي فريق من سوّد وجهه, وأن جميع الـمؤمنـين داخـلون فـي فريق من بـيض وجهه, فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} بعض الكفـار دون بعض, وقد عمّ الله جلّ ثناؤه الـخبر عنهم جميعهم, وإذا دخـل جميعهم فـي ذلك ثم لـم يكن لـجميعهم حالة آمنوا فـيها, ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة, كان معلوما أنها الـمرادة بذلك.
فتأويـل الاَية إذا: أولئك لهم عذاب عظيـم فـي يوم تبـيضّ وجوه قوم, وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم, فـيقال: أجحدتـم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتـموه علـيه, بأن لا تشركوا به شيئا, وتـخـلصوا له العبـادة بعد إيـمانكم, يعنـي: بعد تصديقكم به, {فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ} يقول: بـما كنتـم تـجحدون فـي الدنـيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بـالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابـيضت وجوههم مـمن ثبت علـى عهد الله وميثاقه, فلـم يبدل دينه, ولـم ينقلب علـى عقبـيه بعد الإقرار بـالتوحيد, والشهادة لربه بـالألوهة, وأنه لا إله غيره {ففـي رَحْمَةِ اللّهِ} يقول: فهم فـي رحمة الله, يعنـي فـي جنته ونعيـمها, وما أعدّ الله لأهلها فـيها, {هُمْ فـيها خَالِدُونَ} أي بـاقون فـيها أبدا بغير نهاية ولا غاية.
الآية : 108
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {تِلكَ آيَاتِ اللّهُ}: هذه آيات الله وقد بـينا كيف وضعت العرب «تلك» و«ذلك» مكان «هذا» و«هذه» فـي غير هذا الـموضع فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته. وقوله: {آياتُ اللّهِ} يعنـي: مواعظ الله, وعبره وحججه. {نَتْلُوها عَلَـيْكَ} نقرؤها علـيك ونقصها. {بـالـحَقّ} يعنـي: بـالصدق والـيقـين وإنـما يعنـي بقوله: {تِلْكَ آياتُ اللّهِ} هذه الاَيات التـي ذكر فـيها أمور الـمؤمنـين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بنـي إسرائيـل وأهل الكتاب, وما هو فـاعل بأهل الوفـاء بعهده وبـالـمبدلـين دينه والناقضين عهده بعد الإقرار به. ثم أخبر عزّ وجلّ نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك علـيه بـالـحقّ وأعلـمه أن من عاقبه من خـلقه بـما أخبر أنه معاقبه من تسويد وجهه وتـخـلـيده فـي ألـيـم عذابه وعظيـم عقابه ومن جازاه منهم بـما جازاه من تبـيـيض وجهه وتكريـمه وتشريف منزلته لديه بتـخـلـيده فـي دائم نعيـمه فبغير ظلـم منه لفريق منهم بل لـحقّ استوجبوه وأعمال لهم سلفت, جازاهم علـيها, فقال تعالـى ذكره: {وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْـما للعالَـمِينَ} يعنـي بذلك: ولـيس الله يا مـحمد بتسويد وجوه هؤلاء, وإذاقتهم العذاب العظيـم¹ وتبـيـيض وجوه هؤلاء, وتنعيـمه إياهم فـي جنته, طالبـا وضع شيء مـما فعل من ذلك فـي غير موضعه الذي هو موضعه, إعلاما بذلك عبـاده, أنه لن يصلـح فـي حكمته بخـلقه, غير ما وعد أهل طاعته والإيـمان به, وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به, وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء