تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 74 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 74

74- تفسير الصفحة رقم74 من المصحف
الآية: 181 - 182 {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}
قوله تعالى: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" ذكر تعالى قبيح قول الكفار ولا سيما اليهود. وقال أهل التفسير: لما أنزل الله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" [البقرة: 245] قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب؛ في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء - إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا؛ لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول؛ لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أي إنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اقترض منا. "سنكتب ما قالوا" سنجازيهم عليه. وقيل: سنكتبه في صحائف أعمالهم، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرؤوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها؛ حتى يكون أوكد للحجة عليهم. وهذا كقوله: "وإنا له كاتبون" [الأنبياء: 94]. وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم. "وما" في قوله "ما قالوا" في موضع نصب بـ "سنكتب". وقرأ الأعمش وحمزة "سيكتب" بالياء؛ فيكون "ما" اسم ما لم يسم فاعله. واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود: "و يقال ذوقوا عذاب الحريق".
قوله تعالى: "وقتلهم الأنبياء" أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء؛ لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم. وحسن رجل عند الشعبي، قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي: شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا؛ رضي الله عنه.
قلت: وهذه مسألة عظمى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عن، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). وهذا نص. قوله تعالى: "بغير حق" تقدم معناه في البقرة. "ونقول ذوقوا عذاب الحريق" أي يقال لهم في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب هذا. ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة؛ قولان. وقراءة ابن مسعود "ويقال". والحريق اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة. قوله تعالى: "ذلك بما قدمت أيديكم" أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب. وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به؛ كقوله: "يذبح أبناءهم" [القصص: 4] وأصل "أيديكم" أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم.
الآية: 183 - 184 {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين، فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير}
قوله تعالى: "الذين" في موضع خفض بدلا من "الذين" في قوله عز وجل "لقد سمع الله قول الذين قالوا" أو نعت "للعبيد" أو خبر ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وغيره. نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وإنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الآية. فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى ابن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود؛ إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى؛ ومن وجب صدقه وجب تصديقه. ثم قال تعالى: إقامة للحجة عليهم. "قل" يا محمد "قد جاءكم" يا معشر اليهود "رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم" من القربان "فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين" يعني زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه، فاحتج بها على الذي حسن قتل عثمان رضي الله عنه كما بيناه. وإن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة. والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك وصدقة وعمل صالح؛ وهو فعلان من القربة. ويكون اسما ومصدرا؛ فمثال الاسم السلطان والبرهان. والمصدر العدوان والخسران. وكان عيسى بن عمر يقرأ "بقربان" بضم الراء اتباعا لضمة القاف؛ كما قيل في جمع ظلمة: ظلمات، وفي حجرة حجرات. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له." فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات" أي بالدلالات. "والزبر" أي الكتب المزبورة، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب؛ قال امرؤ القيس:
لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يماني
وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقيل: الزبور من الزبر بمعنى الزجر. وزبرت الرجل انتهرته. وزبرت البئر: طويتها بالحجارة. وقرأ ابن عامر "بالزبر وبالكتاب المنير" بزيادة باء في الكلمتين. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. "والكتاب المنير" أي الواضح المضيء؛ من قولك: أنرت الشيء أنيره، أي أوضحته: يقال: نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى، وكل واحد منهما لازم ومتعد. وجمع بين الزبر والكتاب - وهما بمعنى - لاختلاف لفظهما، وأصلها كما ذكرنا.
الآية: 185 {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}
لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم: "إن الله فقير ونحن أغنياء" وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله: "لتبلون" [آل عمران: 186] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم؛ فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء. "ذائقة الموت" من الذوق، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هرما للموت كأس والمرء ذائقها
وقال آخر:
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار
قراءة العامة "ذائقة الموت" بالإضافة. وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق "ذائقة الموت" بالتنوين ونصب الموت. قالوا: لأنها لم تذق بعد. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي. والثاني بمعنى الاستقبال؛ فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده؛ كقولك: هذا ضارب زيد أمس، وقاتل بكر أمس؛ لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلام زيد، وصاحب بكر. قال الشاعر:
الحافظ عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم وكف
وإن أردت الثاني جاز الجر. والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل؛ لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد، لم يتعد نحو قاتم زيد. وإن كان متعديا عديته ونصبت به، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا، كما قال المرار":
سل الهموم بكل معطي رأسه ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه في منكب زبن المطي عرندس
فحذف التنوين تخفيفا، والأصل: معط رأسه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى "هل هن كاشفات ضره" [الزمر: 38] وما كان مثله.
ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين. أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن يموت بعرق الجبين". وقد بيناه في "التذكرة" فإذا احتضر لقن الشهادة؛ لقوله عليه السلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة؛ ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر. ويستحب قراءة "يس" ذلك الوقت؛ لقوله عليه السلام: "اقرؤوا يس على موتاكم" أخرجه أبو داود. وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت). فإذا قضي وتبع البصر الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات وزال التكليف، توجهت على الأحياء أحكام؛ منها تغميضه، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته؛ وكرهه قوم وقالوا: هو من النعي. والأول أصح، وقد بيناه في غير هذا الموضع. ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير؛ قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم: (عجلوا بدفن جيفتكم) وقال: (أسرعوا بالجنازة) الحديث، وسيأتي.
فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم. قيل: غسله واجب قاله القاضي عبدالوهاب. والأول: مذهب الكتاب، وعلى هذين القولين العلماء. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب، على ما في كتاب مسلم. وقيل: هي أم كلثوم، على ما في كتاب أبي داود: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) الحديث. وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى. فقيل: المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا. وقيل: المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب. قالوا ويدل عليه قوله: (إن رأيتن ذلك) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب؛ لأنه فوضه إلى نظرهن. قيل لهم: هذا فيه بعد؛ لأن ردك (إن رأيتن) إلى الأمر، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور، وهو (أكثر من ذلك) أو إلى التخيير في الأعداد. وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك. وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف. ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع؛ على ما حكاه أبو عمر. فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه.
والتكفين واجب عند عامة العلماء، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء إلا ما حكي عن طاوس أنه قال: من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا. فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبدا أو أب أو زوج أو ابن؛ فعلى السيد باتفاق، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية. والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة؛ فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه. والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير، فإنه ترك يوم أحد نمرة كان إذا غطى رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر) أخرج الحديث مسلم. والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد. والمستحب منه البياض قال صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) أخرجه أبو داود. وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف. والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا. فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) أخرجه مسلم. إلا أن يوصي بأقل من ذلك. فإن أوصى بسرف قيل: يبطل الزائد. وقيل: يكون في الثلث. والأول أصح؛ لقوله تعالى: "ولا تسرفوا" [الأنعام: 141]. وقال أبو بكر: إنه للمهلة. فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم
فالحكم الإسراع في المشي؛ لقوله عليه السلام: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم). لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم. روى النسائي: أخبرنا محمد بن عبدالأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبدالرحمن قال حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبدالرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبدالرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رويدا رويدا، بارك الله فيكم! فكانوا يدبون دبيبا، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال: خلوا! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال: (دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار) الحديث. قال أبو عمر: والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء. ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها. وقال إبراهيم النخعي: بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي، وليس بشيء لما ذكرنا. وبالله التوفيق.
وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء: مالك وغيره؛ لقوله في النجاشي: (قوموا فصلوا عليه). وقال أصبغ: إنها سنة. وروى عن مالك. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في "براءة".
وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب؛ لقوله تعالى: "فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه" [المائدة: 31]. وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه، وكيفية جعل الميت فيه. ويأتي في "الكهف" حكم بناء المسجد عليه، إن شاء الله تعالى.
فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء. وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أخرجه مسلم. وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال: (لا تذكروا هلكاكم إلا بخير).
قوله تعالى: "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء؛ لأنها عرصة الفناء. "فمن زحزح عن النار" أي أبعد. "وأدخل الجنة فقد فاز" ظفر بما يرجو، ونجا مما يخاف. وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز").
قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. والمتاع ما يتمتع به وينتفع؛ كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه؛ قاله أكثر المفسرين. قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها؛ فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ولقد أحسن من قال:
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت سبت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر
والغرور (بفتح الغين) الشيطان؛ يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول.
الآية: 186 {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}
هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع. والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. "ولتسمعن" إن قيل: لم ثبتت الواو في "لتبلون" وحذفت من "ولتسمعن"؛ فالجواب أن الواو في "لتبلون" قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين، وخصت بالضمة لأنها واو الجمع، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها، وحذفت من "ولتسمعن" لأن قبلها ما يدل عليها. ولا يجوز همز الواو في "لتبلون" لأن حركتها عارضة؛ قال النحاس وغيره. ويقال للواحد من المذكر: لتبلين يا رجل. وللاثنين: لتبليان يا رجلان. ولجماعة الرجال: لتبلون. ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهوديا يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء. ردا على القرآن واستخفافا به حين أنزل الله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" [البقرة: 245] فلطمه؛ فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. قيل: إن قائلها فنحاص اليهودي؛ عن عكرمة. الزهري: هو كعب بن الأشرف نزلت بسببه؛ وكان شاعرا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويؤلب عليه كفار قريش، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة في السير وصحيح الخبر. وقيل غير هذا. وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا.، في الصحيحين أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي: إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار، فقال ابن رواحة: نعم يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكنوا. ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض، فقال: (ألم تسمع ما قال فلان) فقال سعد: أعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة؛ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية. قيل: هذا أن قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور. وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال. والأظهر أنه ليس بمنسوخ؛ فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها، وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بين. ومعنى "عزم الأمور" شدها وصلابتها. وقد تقدم.