تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 98 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 98

98- تفسير الصفحة رقم98 من المصحف
الآية: 123 {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصير}
قوله تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب" وقرأ أبو جعفر المدني "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب "بتخفيف الياء فيها جميعا. ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب". وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية.
قوله تعالى: "من يعمل سوءا يجز به "السوء ههنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ "وهل يجازى إلا الكفور "[سبأ: 17]. وعنه أيضا "من يعمل سوءا يجز به "قال: ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: "أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" [الأحقاف: 16]. وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب. وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار؛ لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: لما نزلت "من يعمل سوءا يجز به "بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها ). وخرج الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول، في الفصل الخامس والتسعين ) حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبدالرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب؛ يعني ابن الزبير، قال: فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة ) فإن يك هذا بذاك فهيه. قال الترمذي أبو عبدالله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: "من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا "فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر؛ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: (يجز به في الدنيا أو في الآخرة ) وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين؛ ألا ترى أن ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهيه؛ معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك، وسمع للبيت أنينا: آه آه ! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يعمل سوءا يجز به ). ثم قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب. رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين؛ حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي قال: لما نزلت "من يعمل سوءا يجز به "قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما هذه بمبقية منا؛ قال: (يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة ). حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت "من يعمل سوءا يجز به "قال أبو بكر: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ؟ كل شيء عملناه جزينا به، فقال: (غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، الست تصيبك اللأواء ؟. قال: بلى. قال (فذلك مما تجزون به ) ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله: "من يعمل سوءا يجز به". وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة ). قال: حديث غريب: وفي إسناده مقال: وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل. ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا؛ وفي الباب عن عائشة.
قلت: خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" [البقرة: 284] وعن هذه الآية "من يعمل سوءا يجز به "فقالت عائشة: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: (يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير ). واسم "ليس "مضمر فيها في جميع هذه الأقوال؛ والتقدير: ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به. وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم "إذ قد تقدم "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات".
قوله تعالى: "ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا "يعني المشركين؛ لقوله تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" [غافر: 51]. وقيل: "من يعمل سوءا يجز به "إلا أن يتوب. وقراءة الجماعة "ولا يجد له "بالجزم عطفا على "يجز به". وروى ابن بكار عن ابن عامر "ولا يجد "بالرفع استئنافا. فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير. وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله.
الآية: 124 {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقير}
شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف، وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان. وقرأ "يدخلون الجنة "الشيخان أبو عمرو وابن كثير (بضم الياء وفتح الخاء ) على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح الياء وضم الخاء؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم. وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة.
الآية: 125 {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليل}
قوله تعالى: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا" فضل دين الإسلام على سائر الأديان و"أسلم وجهه لله "معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة. قال ابن عباس: أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وانتصب "دينا "على البيان. "وهو محسن "ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم.
قوله تعالى: "واتخذ الله إبراهيم خليلا" قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته؛ وأنشد قول بشار:
قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة. واختار هذا النحاس قال: والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ) يعني نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذا أبا بكر خليلا ) أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر. رضي الله عنه. وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين. وقيل: الخليل المحتاج؛ فإبراهيم خليل الله معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى؛ كأنه الذي به الاختلال. وقال زهير يمدح هرم بن سنان
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غالب مالي ولا حرم
أي لا ممنوع. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك. والاختلال الفقر؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه. وقيل: سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصري؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالى؛ فسمي خليل الله بذلك. وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا سجدة؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلا؛ فاتخذه الله خليلا. وروى جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام ). وروى عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا ) ؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد. وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخلة بين الآدميين الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسراء بين المتخالين. وقيل: هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ). ولقد أحسن من قال:
من لم تكن في الله خلته فخليله منه على خطر
آخر:
إذا ما كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أخلاء الرجال هم كثير ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلة من تؤاخي فمالك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول
الآية: 126 {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيط}
قوله تعالى: "ولله ما في السماوات وما في الأرض" أي ملكا واختراعا. والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره.
قوله تعالى: "وكان الله بكل شيء محيطا "أي أحاط علمه بكل الأشياء.
الآية: 127 {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليم}
نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه. وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن. روى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن". "ويسألونك عن اليتامى" [البقرة: 220]. و"يسألونك عن الخمر والميسر "[البقرة: 219]. "ويسألونك عن الجبال" [طه: 105].
قوله تعالى: "وما يتلى عليكم" "ما" في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى. والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" [النساء:3] وقد تقدم.
وقوله تعالى: "وترغبون أن تنكحوهن "أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت "عن". وقيل: وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت "في". قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال. وحديث عائشة يقوي حذف "عن "فإن في حديثها: وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال؛ وقد تقدم أول السورة.