تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 98 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 98

097

قوله 122- "والذين آمنوا" إلخ، جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترناً بالوعيد المتقدم للكافرين. قوله "وعد الله حقاً" قال في الكشاف مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الإسمية ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره: أي حق ذلك حقاً. قوله "ومن أصدق من الله قيلا" هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول: أي لا أجد أصدق قولاً من الله عز وجل، وقيل: إن قيلاً اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز. وقد أخرج الترمذي من حديث علي أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال الترمذي: حسن غريب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك في قوله "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" قال: اللات والعزة ومناة كلها مؤنثة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " إن يدعون من دونه إلا إناثا " قال: موتى. وأخرج مثله عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرج مثله أيضاً عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل الله "إن يدعون من دونه إلا إناثاً". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: اتخذوهن أرباباً وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده: يعنون الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله "وقال لأتخذن من عبادك" إلخ، قال: هذا إبليس يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلأى الجنة. وأخرج ابن المنذر عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "فليبتكن آذان الأنعام" قال: التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أنس انه كره الإخصاء وقال فيه نزلت "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم والخيل". وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم"، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" قال: دين الله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: الوشم.
قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف: أي ليس دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل: ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أماني أهل الكتاب قولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقولهم "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة". قوله 123- "من يعمل سوءاً يجز به" قيل: المراد بالسوء الشرك، وظاهر الآية أعم من ذلك، فكل من عمل سوءاً أي سوء كان فهو مجزي به من غير فرق بين المسلم والكافر. وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال:" لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها" . قوله "ولا يجد له" قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر "ولا يجد" بالرفع استئنافاً: أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره.
124- "ومن يعمل من الصالحات" أي بعضها حال كونه "من ذكر أو أنثى" وحال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح "فأولئك" إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان "يدخلون الجنة" قرأ أبو عمرو وابن كثير "يدخلون" بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول. وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم "ولا يظلمون نقيراً" أي: لا ينقصون شيئاً حقيراً، وقد تقدم تفسير النقير.
125- "ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله" أي: أخلص نفسه له حال كونه محسناً: أي عاملاً للحسنات "واتبع ملة إبراهيم" أي: دينه حال كون المتبع "حنيفاً" أي: مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو الإسلام "واتخذ الله إبراهيم خليلاً" أي: جعله صفوة له وخصه بكراماته، قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خليلاً إلا ملأته، وأنشد قول بشار: قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا وخليل فعل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له، وقيل: الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس. وقال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل.
126- "ولله ما في السموات وما في الأرض" فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته "وكان الله بكل شيء محيطاً" هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها: أي أحاط علمه بكل شيء "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها". وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت العرب: لا نبعث ولا نحاسب، وقالت اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقالوا: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة" فأنزل الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم فنزلت. وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطولة. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته". وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه فسأله عن هذه الآية "ومن يعمل من الصالحات" قال: الفرائض. وأخرج الحاكم وصححه عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً". وأخرج الحاكم أيضاً وصححه عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟.
سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم "الله يفتيكم" أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم "الله يفتيكم". قوله "وما يتلى عليكم" معطوف على قوله "الله يفتيكم" والمعنى: والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن. والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى " ويجوز أن يكون قوله "وما يتلى" معطوفاً على الضمير في قوله "يفتيكم" الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور ويجوز أن يكون مبتدأ وفي الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا، ولم نذكره لضعفه. وقوله "في يتامى النساء" على الوجه الأول والثاني صلة لقوله "يتلى" وعلى الوجه الثالث بدل من قوله "فيهن". " اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " أي: ما فرض لهن من الميراث وغيره "وترغبون" معطوف على قوله "لا تؤتونهن" عطف جملة مثبتة على جملة منفية. وقيل: حال من فاعل "تؤتونهن". وقوله "أن تنكحوهن" يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن: أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن: أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير وترغبون عن أن تنكحوهن لعدم جمالهن. قوله "والمستضعفين من الولدان" معطوف على يتامى النساء: أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى تعالى "يوصيكم الله في أولادكم" وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا من كان مستضعفاً من الولدان كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور. قوله "وأن تقوموا لليتامى بالقسط" معطوف على قوله "في يتامى النساء" كالمستضعفين أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط: أي العدل، ويجوز أن يكون في محل نصب: أي ويأمركم أن تقوموا "وما تفعلوا من خير" في حقوق المذكورين " إن الله كان عليما " يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "ويستفتونك في النساء" الآية، قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول السورة في الفرائض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيراً ففرض الله لهن الميراث حقاً واجباً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها، فأنزل الله هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله "ويستفتونك في النساء" إلى قوله: "وترغبون أن تنكحوهن" قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما: ترغبون فيهن، وقال الآخر: ترغبون عنهن.
امرأة مرفوعة بفعل مقدر يفسره ما بعده: أي وإن خافت امرأة، وخافت بمعنى: توقعت ما تخاف من زوجها وقيل: معناه تيقنت وهو خطأ. قال الزجاج: المعنى 128- "وإن امرأة خافت من بعلها" دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أي نشوز أو أعي إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة أو بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر. قوله " أن يصلحا " هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون "أن يصلحا" وقراءة الجمهور أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل: تصالح الرجلان أو القوم، لا أصلح. وقوله "صلحاً" منصوب على أنه اسم مصدر أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف: أي فيصلح حالهما صلحاً، وقيل: هو منصوب على المفعولية. وقوله "بينهما" ظرف للفعل أو في محل نصب على الحال. قوله "والصلح خير" لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة أو من الخصومة، وهذه الجملة اعتراضية. قوله "وأحضرت الأنفس الشح" إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد منهما بل في كل الأنفس الإنسانية كائن وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشح على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج فلا تترك له شيئاً منها. وشح الأنفس: بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون". قوله "وإن تحسنوا وتتقوا" أي: تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.