تفسير الطبري تفسير الصفحة 98 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 98
099
097
 الآية : 122
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ}: والذين صّدقوا الله ورسوله, وأقّروا له بالواحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوّة وعملوا الصالحات, يقول: وأدّوا فرائض الله التي فرضها عليهم. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحْتِها الأنْهارُ} يقوله: سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله جزاء بما عملوا في الدنيا من الصالحات جنات: يعني بساتين تجري من تحتها الأنهار. {خالدِينَ فيها أبَد} يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها أبدا دائما. وقوله {وَعْدَ اللّهِ حَقّ} يعين: عدة من الله لهم ذلك في الدنيا حقا, يقينا صادقا, لا كَعِدَة الشيطان الكاذبة التي هي غرور من وعدها من أوليائه, ولكن عِدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ولا يخلف وعده. وإنما وصف جلّ ثناؤه وعده بالصدق والحقّ في هذه لما سبق من خبره جلّ ثناؤه, عن قول الشيطان الذي قصه في قوله, وقال: {لاَءَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضا وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ووَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} ثم قال جلّ ثناؤه: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُور} ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا, وعدا منه حقا, لا كوعد الشيطان الذي وصف صفته. فوصف جلّ ثناؤه الوعدين والواعدين وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما تنبيها منه جلّ ثناؤه خلقه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والعطب, لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته, فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه. ثم قال لهم جلّ ثناؤه: {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيل} يقول: ومن أصدق أيها الناس من الله قيلاً: أي لا أحد أصدق منه قيلاً, فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا, وتكفرون به, وتخالفون أمره, وأنتم تعلمون أن لا أحد أصدق منه قيلاً, وتعملون بما يأمركم به الشيطان, رجاء لإدراك ما يعدكم من عِداته الكاذبة وأمانيه الباطلة, وقد علمتم أن عداته غرور لا صحة لها ولا حقيقة, وتتخذونه وليا من دون الله وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه, فتكونوا له أولياء؟ ومعنى القِيل والقول: واحد.
الآية : 123
القول في تأويل قوله تعالى: {لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }..
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} فقال بعضهم: عُني بقوله {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} أهل الإسلام. ذكر من قال ذلك: 8362ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام, فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم, وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم¹ قال: فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: لما نزلت: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء, فنزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
حدثني أبو السائب وابن وكيع, قالا: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}قال: احتجّ المسلمون وأهل الكتاب, فقال المسلمون: نحن أهدى منكم, وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم, فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: ففلج عليهم المسلمون بهذه الاَية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}... إلى آخر الاَيتين.
8363ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم, وكتابنا قبل كتابكم, ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم, نبيّنا خاتم النبيين, وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ, مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}... إلى قوله: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيف} فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
8364ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: التقى ناس من اليهود والنصارى, فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم, ديننا قبل دينكم, وكتابنا قبل كتابكم, ونبينا قبل نبيكم, ونحن على دين إبراهيم, ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك. فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم, ونبينا بعد نبيكم, وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم, فنحن خير منكم, نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق, ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فردّ الله عليهم قولهم, فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} ثم فضل الله المؤمنين عليهم, فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا ممّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيف}.
8365ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} تخاصم أهل الأديان, فقال أهل التوراة: كتابُنا أوّل كتاب وخيرها, ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل نحوا من ذلك. وقال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام, وكتابنا نسخ كل كتاب, ونبينا خاتم النبيين, وأُمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم. فقضى الله بينهم, فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}. ثم خير بين أهل الأديان, ففضل أهل الفضل, فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}... إلى قوله: {وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيل}.
8366ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}... إلى: {وَلا نَصِير} تحاكم أهل الأديان, فقال أهل التوراة: كتابنا خير من الكتب, أنزل قبل كتابكم, ونبيّنا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام, كتابنا نسخ كل كتاب, ونبينا خاتم النبيين, وأمرتم وأُمرنا أن نؤمن بكتابكم, ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} وخير بين أهل الأديان فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا واتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيل}.
8367ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يعلى بن عبيد وأبو زهير, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, قال: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان, فقال هؤلاء: نحن أفضل, وقال هؤلاء: نحن أفضل. فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}, ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
8368ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح, قال: جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور وأهل الإيمان, فتفاخروا, فقال هؤلاء: نحن أفضل, وهؤلاء: نحن أفضل. فأنزل الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِير}.
8369ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: افتخر أهل الأديان, فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله, ونبينا أكرم الأنبياء على الله موسى, كلمه الله قَيَلاً, وخلا به نجيّا, وديننا خير الأديان. وقالت النصارى: عيسى بن مريم خاتم الرسل, وآتاه الله التوراة والإنجيل, ولو أدركه موسى لاتّبَعَهُ, وديننا خير الأديان. وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها. وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين, وسيد الأنبياء, والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله, وهو أمين على كلّ كتاب, والإسلام خير الأديان. فخير الله بينهم, فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.
وقال آخرون: بل عنى الله بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}: أهل الشرك به من عبدة الأوثان. ذكر من قال ذلك:
8370ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش قالت: لن نُبعث ولن نُعذّب.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} قال: قالت قريش: لن نُبعث ولن نُعذّب, فأنزل الله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.
8371ـ حدثني يعقوب ابن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: حدثنا ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذّب¹ وقالت اليهود والنصارى: {لَنْ يَدخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أو نَصَارَى}, أو قالوا {لَنْ تمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً} شكّ أبو بشر.
8372ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش وكعب بن الأشرف¹ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.
8373ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى آخر الاَية, قال: جاء حيـى بن أخطب إلى المشركين, فقالوا له: يا حُيَـيّ إنكم أصحاب كتب, فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: أنتم خير منه. فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إَلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصير}. ثم قال للمشركين: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} فقرأ حتى بلغ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِير}. قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم, ولم يَعِد أولئك, وقرأ: {وَالّذِين آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قالت قريش: لن نُبعث ولن نُعذّب.
وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصة. ذكر من قال ذلك:
8374ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي أسيد, قال: سمعت الضحاك يقول: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}... الاَية, قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك, ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الاَي قبل قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} وإنما جرى ذكر أمانيّ نصيب الشيطان المفروض, وذلك في قوله: {وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} وقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} فإلحاق معنى قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} بما قد جري ذكره قبل أحقّ وأولى من ادّعاء تأويل فيه, لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل, ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الاَية إذن: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوّا لله من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء, ونصرتكم عليه, وإظفاركم به, ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة, ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله, من يعمل منكم سوء, أو من غيركم يجز به, ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا, ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
ومما يدلّ أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك, وأنه عُني بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركو العرب كما قال مجاهد: إن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه, وأخبر بحال وعده, الصادق بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْ خِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدا وَعْدَ اللّهِ حَقّ} وقد ذكر جلّ ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه, وتمنيته إياهم الأماني بقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} كما ذكر وعد إياهم, فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة, بمثل الذي أتبع عدّته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك صحّ أن قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ, مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}... الاَية, إنما هو خبر من الله عن أمانيّ أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيـىء أعمالهم من سوء الجزاء, وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمّ جلّ ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله: {وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ولاَمُرْنّهُمْ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: عنى بالسوء كلّ معصية لله, وقالوا: معنى الاَية: من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله, يجازه الله بها. ذكر من قال ذلك:
8375ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أن زياد بن الربيع سأل أبيّ بن كعب عن هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبة والعود والخدش.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن هشام الدستوائي, قال: حدثنا قتادة, عن الربيع بن زياد, قال: قلت لأبيّ بن كعب, قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال: والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب, وما يعفو الله عنه أكثر, حتى اللدغة والنفحة.
8376ـ حدثنا القاسم بن بشر بن معرور, قال: حدثنا سليمان بن حرب, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن حجاج الصوّاف, عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي المهلب, قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الاَية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا.
8377ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: يجز به في الدنيا, قال: قلت: وما تبلغ المصيبات؟ قال: ما تكره.
وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به. ذكر من قال ذلك:
8378ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن حميد, عن الحسن: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: الكافر. ثم قرأ: {وَهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ} قال: من الكفار.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سهل, عن حميد, عن الحسن, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو همام الأهوازيّ, عن يونس بن عبيد, عن الحسن, أنه كان يقول: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} و{وهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ} يعني بذلك: الكفار, لا يعني بذلك أهل الصلاة.
8379ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبارك, عن الحسن, في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: والله ما جازى الله عبدا بالخير والشرّ إلا عذّبه, قال: {لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنَى} قال: أما والله لقد كانت لهم ذنوب, ولكنه غفرها لهم, ولم يجازهم بها, إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب, إذًا توبقه ذنوبه.
8380ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم, ولم يعد أولئك, يعني المشركين.
8381ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن الحسن: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: إنما ذلك لمن أراد الله هوانه¹ فأما من أراد كرامته فإنه من أهل الجنة {وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانوا يُوعَدُونَ}.
8382ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك: اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب, ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
وقال آخرون: معنى السوء في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: من يشرك بالله يجز بشركه ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ذكر من قال ذلك:
8383ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} يقول: من يشرك يجز به, وهو السوء, {ولا يَجِدْ له مِنْ دُونِ الله وَلِيّا ولا نَصِير} إلا أن يتوب قبل موته, فيتوب الله عليه.
8384ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: الشرك.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الاَية, التأويل الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب وعائشة, وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر, جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية, لعموم الاَية كل عامل سوء, من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد, فهي على عمومها إذ لم يكن في الاَية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره؟ قيل: إنه لم يعد بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} ترك المجازاة عليها, وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم, كما فضح أهل الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم, يستحقون المجازاة عليه, فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: {والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنْدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}.
وبنحو الذي قلنا في ذلك, تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الأخبار الواردة بذلك:
8385ـ حدثنا أبو كريب, وسفيان بن وكيع ونصر بن عليّ وعبد الله بن أبي زياد القَطَواني, قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن محيصن, عن محمد بن قيس بن مخرمة, عن أبي هريرة, قال: لما نزلت هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} شقّت على المسلمين, وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ, فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «قَاربوا وسَدّدُوا, ففي كل ما يُصَابُ به المسلم كَفّارَةٌ, حتّى النّكْبَة يُنْكَبُها, أو الشوكة يُشَاكّها».
8386ـ حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي, قالا: حدثنا يزيد بن حيان, قالا: حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي, قال: حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ, عن عائشة, عن أبي بكر, قال: لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول الله, كلّ ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: «يا أبا بَكْرٍ ألَيْس يُصِيبُك كَذَا وكَذَا؟ فَهُوَ كَفّارتُهُ».
8387ـ حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهريّ, قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن زياد الجصاص, عن عليّ بن زيد, عن مجاهد, قال: ثني عبد الله بن عمر, أنه سمع أبا بكر يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول «مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ في الدّنْيا».
8388ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن إسماعيل, عن أبي بكر بن أبي زهير, عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبيّ الله كيف الصلاح بعد هذه الاَية؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيّةُ آيَةٍ؟» قال: يقول الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فما عملناه جزينا به؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «غَفَر اللّهُ لكَ يا أبا بَكْرٍ! ألَسْتَ تَمْرَضُ, ألَسْتَ تَحْزَنُ, ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟» قال: «فَهُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ».
حدثنا يونس, قال: حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي, عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: كيف الصلاح؟ ثم ذكر نحوه, إلا أنه زاد فيه «ألَسْتَ تُنْكَبُ؟».
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي بكر بن أبي زهير, أن أبا بكر قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح؟ فذكر نحوه.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي, قال: حدثنا أبو الجنبيّ, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي بكر ابن أبي زهير الثقفي, قال: قال أبو بكر: يا رسول الله, فذكر نحوه, إلا أنه قال: فكلّ سوء عملناه جزينا به؟ وقال أيضا: «ألَسْتَ تَمْرَضُ, ألَست تنصَب, ألَسْتَ تَحْزَنُ, ألَيْسَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟» قال: بلى. قال: «هُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن ابن أبي خالد, عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي, قال: لما نزلت هذه الاَية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قال أبو بكر: يا رسول الله, وإنا لنجزى بكلّ شيء نعمله؟ قال: «يا أبا بَكْرٍ ألَسْتَ تَنْصَبُ, ألَسْتَ تَحْزَنُ, ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟ فَهَذَا مِمّا تُجْزَوْنَ بِهِ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيـى بن سعيد, قال: حدثنا ابن أبي خالد, قال: ثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي, عن أبي بكر, فذكر مثل ذلك.
8389ـ حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع, قالا: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, قال: قال أبو بكر: يا رسول الله, ما أشدّ هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}! قال: «يا أبا بَكْرٍ إنّ المُصِيبَةَ فِي الدّنْيا جَزَاءُ».
8390ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا روح بن عبادة, قال: حدثنا أبو عامر الخراز, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أيّ آية في كتاب الله أشدّ! فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيّ آية؟» فقلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: «إنّ المؤمِنَ ليُجَازَى بأَسْوَإ عَمَلِهِ في الدّنْيا», ثم ذكر أشياء منهنّ المرض والنصب, فكان آخره أن ذكر النكبة, فقال: «كُلّ ذِي عمل يُجْزَى بِعَمَلِهِ يا عائِشَةُ, إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ يُعَذّبُ». فقلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابا يَسِير}؟ فقالَ: «ذَاكِ عِنْدَ العَرْض, إنّهُ مِنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذّبَ», وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت.
8391ـ حدثني القاسم بن بشر بن معرور, قال: حدثنا سليمان بن حرب, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن عليّ بن زيد, عن أمية, قالت: سألت عائشة عن هذه الاَية: {وَإنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوه يُحاسِبْكُمْ بِهِ الله, و{لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها, فقال: «يا عائِشَةُ ذَاكِ مَثابَةُ اللّهِ العَبْدَ بمَا يُصِيبُهُ مِنَ الحُمّى والكِبَرِ, وَالبِضَاعَةِ يَضَعُها فِي كُمّه فَيَفْقِدُها, فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُها فِي كُمّهِ, حتى إنّ المُؤمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كمَا يَخْرُجُ التّبْرُ الأْحمَرُ مِنَ الكِيرِ».
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو عامر الخراز, قال: حدثنا ابن أبي مليكة عن عائشة, قالت: قلت: يا رسول الله, إني لأعلم أشدّ آية في القرآن, فقال: «ما هِيَ يا عائشة؟» قلت: هي هذه الاَية يا رسول الله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: «هُوَ ما يُصِيبُ العَبْدَ المُؤْمِنَ, حتى النّكْبَةَ يُنْكَبُها».
8392ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن الربيع بن صبح, عن عطاء, قال: لما نزلت {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول الله, ما أشدّ هذه الاَية! قال: «يا أبا بَكْرٍ أنّكَ تَمْرَضُ, وَإنّكَ تَحْزَنُ, وَإنّكَ يُصِيبُكَ أذًى, فَذَاكَ بذَاكَ».
8393ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح, قال: لما نزلت, قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّمَا هِيَ المُصِيباتُ فِي الدّنْيا».
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلا نَصَير}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَلا يَجِدِ} الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به, {مِنْ دُونِ اللّهِ} يعني: من بعد الله وسواه, {وَلِيّ} يلي أمره, ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله, {وَلا نَصِير} يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نكاله.
الآية : 124
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: الذين قال لهم: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} يقول الله لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الاَخرة, من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم, وذكور عبادي وإناثهم وهو مؤمن بي وبرسولي محمد, مصدّق بوحدانيتي, ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي, لا أنتم أيها المشركون بي المكذّبون رسولي, فلا تطمعوا أن تحلوا وأنتم كفار محلّ المؤمنين بي وتدخلوا مداخلهم في القيامة وأنتم مكذّبون برسولي. كما:
8394ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ انْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح, وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.
وأما قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِير} فإنه يعني: ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة, فيكف بما هو أعظم من ذلك وأكثر. وإنما يخبر بذلك جلّ ثناؤه عباده أنه لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلاً ولا كثيرا, ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم.
وبالذي قلنا في معنى النقير قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8395ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِير} قال: النقير: الذي يكون في ظهر النواة.
8396ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرة, عن عطية, قال: النقير: الذي في وسط النواة.
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول «مَنْ» في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ}, ولم يقل: ومن يعمل الصالحات؟ قيل: لدخولها وجهان: أحدهما أن يكون الله قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات, فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت عن عمله منها قواه. والاَخر منهما أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدّى الفرائض, وإن قصر في بعض الواجب له عليه, تفضلاً منه على عباده المؤمنين, إذ كان الفضل به أولى, والصفح عن أهل الإيمان به أحرى. وقد تقوّل قوم من أهل العربية أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف, ويتأوّله: ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. وذلك عندي غير جائز, لأن دخولها المعنى, فغير جائز أن يكون معناها الحذف.
الآية : 125
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }..
وهذا قضاء من الله جلّ ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها, يقول الله: {وَمَنْ أحْسَنُ دِين} أيها الناس, وأصوب طريقا وأهدى سبيلاً¹ {مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} يقول: ممن استسلم وجهه لله, فانقاد له بالطاعهة, مصدّقا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني: وهو عامل بما أمره به ربه, محرّم حرامه, ومحلل حلاله. {وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيف} يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن, وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به¹ حنيفا, يعني: مستقيما على منهاجه وسبيله. وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى الحنيف والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وممن قال ذلك أيضا الضحاك.
8397ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك, قال: فضل الله الإسلام على كلّ دين, فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}... إلى قوله: {وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليل} وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام, وهي الحنيفية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليل}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم وليّا.
فإن قال قائل: وما معنى الخُلة التي أعطيها إبراهيم؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه, والولاية في الله والحبّ فيه, على ما يُعرف من معاني الخلة. وأما من الله لإبراهيم, فنصرته على من حاوله بسوء, كالذي فعل به إذا أراده نمروذ بما أراده به من الإحراق بالنار, فأنقذه منها, وأعلى حجته عليه إذ حاجه, وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله, وتمكينه مما أحبّ, وتصييره إماما لمن بعده من عباده وقدوة لمن خلقه في طاعته وعبادته, فذلك معنى مخالّته إياه. وقد قيل: سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب, فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل ـ وقال بعضهم: من أهل مصر في امتيار طعام لأهله من قبلَه فلم يصب عنده حاجته, فلما قرب من أهله مرّ بمفازة ذات رمل, فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة, وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك, فتحوّل ما في غرائره من الرمل دقيقا, فلما صار إلى منزله نام وقام أهله, ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا, فعجنوا منه وخبزوا, فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا, فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك, فعلم, فقال: نعم هو من خليلي الله. قالوا: فسماه الله بذلك خليلاً.
الآية : 126
القول في تأويل قوله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مّحِيطاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم خليلاً لطاعته ربه, وإخلاصه العبادة له, والمسارعة إلى رضاه ومحبته, لا من حاجة به إليه وإلى خلته, وكيف يحتاج إليه وإلى خلته, وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير ملكا, والمالك الذي إليه حاجة ملكه دون حاجته إليه, فكذلك حاجة إبراهيم إليه, لا حاجته إليه, فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلاً, ولكنه اتخذه خليلاً لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضاي ومحبتي لأتخذكم لي أولياء. {وكانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مُحِيط} ولم يزل الله محصيا لكل ما هو فاعله عباده من خير وشرّ, عالما بذلك, لا يخفى عليه شيء منه, ولا يعزب عنه مثقال ذرّة.
الآية : 127
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَآءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَآءِ الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىَ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} ويسألك يا محمد أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء, والواجب لهنّ وعليهنّ. فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهنّ, لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه. {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قل لهم يا محمد: الله يفتيكم فيهنّ, يعني في النساء. {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ الّلاتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ}.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} فقال بعضهم: يعني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قل الله يفتيكم فيهنّ, وفيما يتلى عليكم, قالوا: والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض, التي في أوّل هذه السورة. ذكر من قال ذلك:
8398ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام بن سلم, عن عمرو بن أبي قيس, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر, ولا يورثون المرأة¹ فلما كان الإسلام قال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} في أوّل السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب الله لهن.
8399ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلهم أن تكون شريكته, في ماله, وهو أولى بها من غيره, فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها.
8400ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: كانوا لا يورّثون في الجاهلية النساء والصبيّ حتى يحتلم, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ} في أوّل سورة النساء من الفرائض.
8401ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن أشعث, عن جعفر, عن شعبة, قال: كانوا في الجاهلية لا يورثون اليتيمة ولا ينكحونها ويعضلونها, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ}... إلى آخر الاَية.
8402ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: أخبرني الحجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}... الاَية, قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ, لا يرث الرجل الصغير, ولا المرأة¹ فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء, شقّ ذلك على الناس, وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه, والمرأة هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء, فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث, قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما منه بدّ, ثم قالوا: سلوا! فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} في أوّل السورة: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}. قال سعيد بن جبير: وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها, وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحْها.
8403ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها عن التزويج حتى تموت, فيرثوها, فأنزل الله هذا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه ولها مال, قال: فلا يتزوّجها ولا يزوّجها حتى تموت فيرثها, قال: فنهاهم الله عن ذلك.
8404ـ حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي مالك: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها حبسها أن لم يتزوّجها ولم يدع أحدا يتزوّجها.
8405ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا, كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيرا, ففرض الله لهنّ الميراث حقا واجبا, ليتنالفس أو لينفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
8406ـ حدثني محمد بن سعد, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} يعني الفرائض التي افترض في أمر النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهن, {وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل, فيرغب أن ينكحها, أو يجامعها ولا يعطيها مالها, رجاء أن تموت فيرثها, وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا, وكان ذلك في الجاهلية, فبين الله لهم ذلك.
8407ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} حتى بلغ: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دمامة ولها مال, فكان يرغب عنها أن يتزوّجها ويحبسها لمالها, فأنزل الله فيه ما تسمعون.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة, فيرغب عنها أن ينكحها, ولا يُنكحها رغبة في مالها.
8408ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}... إلى قوله: {بالقِسْطِ} قال: كان جابر بن عبد الله الأنصاريّ ثم السلميّ له ابنة عمّ عمياء, وكانت دميمة, وكانت قد ورثت عن أبيها مالاً, فكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها, فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وكان ناس في حجورهم جوار أيضا مثل ذلك, فجعل جابر يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم, أترث الجارية إذا كانت قبيحة عيماء؟ فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول «نعم», فأنزل الله فيهنّ هذا.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء, قل الله يفتيكم فيهنّ, وفيما يتلى عليكم في الكتاب في آخر سورة النساء, وذلك قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة}... إلى آخر السورة. ذكر من قال ذلك:
8409ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سلام بن سليم, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن حبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الولدان حتى يحتلموا, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} إلى قوله: {فَأنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيم} قال: ونزلت هذه الاَية: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}... الاَية كلها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء, قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب, يعني في أوّل هذه السورة, وذلك قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}. ذكر من قال ذلك:
8410ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم, عن قول الله: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} قالت: يا ابن أختي هيْ اليتيمة تكون في حجر وليها, تشاركه في ماله, فيعجبه مالها وجمالها, فيريد وليها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها, فيعطيها مثل ما يعطيها غيره, فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ من الصداق, وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية فيهنّ, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتابِ الاَية الأولى التي قال فيها: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني يونس, عن ابن شهاب, عن عروة, عن عائشة, مثله.
فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها «ما» التي في قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في موضع خفض بمعنى العطف على الهاء والنون التي في قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} فكأنهم وجهوا تأويل الاَية: قل الله يفتيكم أيها الناس في النساء, وفيما يتلى عليكم في الكتاب.
وقال آخرون: نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه سألوه عن أشياء من أمر النساء, وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها, فأفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما تركوا المسألة عنه. ذكر من قال ذلك:
8411ـ حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع, قال سفيان: حدثنا عبد الأعلى, وقال ابن المثنى: ثني عبد الأعلى قال: حدثنا داود, عن محمد بن أبي موسى في هذه الاَية: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} قال: استفتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء, وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة, ولا يدفعون إليها مالها فتنفق, فنزلت: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي النّساءِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: والمستضعفين من الولدان. قال: كانوا يورثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر, ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه, فقال: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ أعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ}, ولفظ الحديث لابن المثنى.
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الذي يتلى علينا في الكتاب الذي قال الله جل ثناؤه: {قُلِ اللّهُ يُفْتيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاض}... الاَية, والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء اللاتي كانوا لا يؤتونهنّ ما كتب الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه عنه.
وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معنى قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أوّل هذه السورة وآخرها.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح, فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَلَ أحَد, وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحد لم يكن مما كتب لها, وإذا لم يكن مما كتب لها, لم يكن لقول قائل عني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: الإقساط في صدقات يتامى النساء وجه, لأن الله قال في سياق الاَية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ, فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء أمر اليتيمة المحول بينها وبين ما كتب الله لها, والصداق قبل عقد النكاح ليس مما كتب الله لها على أحد, فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الاَية هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك, كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه. فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى, فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل, بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل, وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} هو {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاض}, وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله صار الكلام مبتدأ من قوله: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} ترجمة بذلك عن قوله {فِيهِنّ} ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ, ولا دلالة في الاَية على ما قاله, ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك. وإذا كان ذلك كذلك, كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ما وجد إليه سبيل. فإذا كان الأمر على ما وصفنا, فقوله: {فِي يَتامَى النّساءِ} بأن يكون صلة لقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أولى من أن يكون ترجمة عن قوله: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} لقربه من قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}, وانقطاعه عن قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ}. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الاَية: ويستفتونك في النساء, قل الله يفتيكم فيهنّ, وفيما يتلى عليكم فِي كتابِ الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهنّ ما كتب لهنّ, يعني: ما فرض الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه. كما:
8412ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: لا تورثونهن.
8413ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, قوله: {لاَ تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: من الميراث, قال: كانوا لا يورثون النساء, وترغبون أن تنكحوهن.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهنّ. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك, وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم.
8414ـ حدثنا حميد بن مسعدة الساميّ, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا عبيد الله بن عون, عن الحسن: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: ترغبون عنهنّ.
حدثنا يعقوب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن علية, عن ابن عون, عن الحسن, مثله.
8415ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, عن عروة, قال: قالت عائشة في قوله الله: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}: رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال, فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, يعني ابن صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني يونس, عن ابن شهاب, قال: قال عروة, قالت عائشة, فذكر مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهنّ. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل, ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم.
8416ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا ابن عون عن محمد, عن عبيدة: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: وترغبون فيهن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن علية, عن ابن عون, عن محمد, قال: قلت لعبيدة: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: ترغبون فيهنّ.
8417ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس في قوله: {فِي يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه, فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدا, فإن كانت جميلة وهويها تزوّجها وأكل مالها, وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها, فحرّم الله ذلك ونهى عنه.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الاَية قول من قال: معنى ذلك: وتَرْغَبُونَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ, لأن حبسهم أموالهن عنهنّ, مع عضلهم إياهنّ إنما كان ليرثوا أموالهن دون زوج إن تزوّجن. ولو كان الذين حبسوا عنهنّ أموالهنّ إنما حبسوها عنهنّ رغبة في نكاحهنّ, لم يكن للحبس عنهنّ وجه معروف, لأنهم كانوا أولياءهن, ولم يكن يمنعهم من نكاحهنّ مانع فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه.
القول في تأويل قوله: {وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وأنْ تَقُومُوا لليَتامَى بالقِسْطِ}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ويستفتونك في النساء, قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب, وفي المستضعفين من الولدان, وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى, والذي أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت, وأمرهم أن يقسطوا فيهم فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه. كما:
8418ـ حدثنا محمد بن السحين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ} كانوا لا يورثون جارية ولا غلاما صغيرا, فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. والقسط: أن يعطى كلّ ذي حقّ منهم حقه, ذكرا كان أو أنثى, الصغير منهم بمنزلة الكبير.
8419ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ, قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: لا تورثونهنّ مالاً, {وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث, ونسخت المواريث ذلك الأوّل.
8420ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} أمروا لليتامى بالقسط: بالعدل.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
8421ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي مالك: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الِولْدَانِ وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} قال: كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر.
8422ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدانِ} فكانوا في الجاهلية لا يورّثون الصغار ولا البنات, فذلك قوله: {لا تُؤْتُوَنَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} فنهى الله عن ذلك, وبين لكل ذي سهم سهمه, فقال: {للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيينِ} صغيرا كان أو كبيرا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ, وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} وذلك أنهم كانوا لا يورّثون الصغير والضعيف, شيئا, فأمر الله أن يعطيه نصيبه من الميراث.
8423ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليّ اليتيمة فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوّجها غيرك, والتمس لها مَن هو خير منك! وإذا كانت بها دَمامة ولا مال لها, قال: تزوّجها فأنت أحقّ بها!.
8424ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا يونس بن عبيد, عن الحسن, قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب, فقال: يا أمير المؤمنين ما أمري, وما أمر يتيمتي؟ قال: في أيّ بالُكما؟ قال: ثم قال علي: أمتزوّجها أنت غنية جميلة؟ قال: نعم والإلهِ! قال: فتزوّجها دميمة لا مال لها! ثم قال عليّ: تزوّجها إن كنت خيرا لها, فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.
قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامي بالقسط كان العدل فيما أمر الله فيهم.
القول في تأويل قوله: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيم}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومهما يكن منكم أيها المؤمنون من عدل في أموال اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط, والانتهاء إلى أمر الله في ذلك, وفي غيره, وإلى طاعته, فإن الله كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم, وهو محصٍ ذلك كله عليكم, حافظ له, حتى يجازيَكم به جزاءكم يوم القيامة