تفسير السعدي تفسير الصفحة 151 من المصحف

 بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأعراف


مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص ( 1 ) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 ) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 ) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 ) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 ) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 ) .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن: ( كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ ) أي: كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكما مفصلا ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) أي: ضيق وشك واشتباه، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك، ولتطمئن به نفسك، ولتصدع بأوامره ونواهيه، ولا تخش لائما ومعارضا.
( لِتُنْذِرَ بِهِ ) الخلق، فتعظهم وتذكرهم، فتقوم الحجة على المعاندين.
( و ) ليكون ( َذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) كما قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يتذكرون به الصراط المستقيم، وأعماله الظاهرة والباطنة، وما يحول بين العبد، وبين سلوكه.
ثم خاطب اللّه العباد، وألفتهم إلى الكتاب فقال: ( اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم، وهو: ( مِنْ رَبِّكُمْ ) الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي، إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة، وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها ( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي: تتولونهم، وتتبعون أهواءهم، وتتركون لأجلها الحق.
( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة، لما آثرتم الضار على النافع، والعدو على الوليِّ.
ثم حذرهم عقوباته للأمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم، لئلا يشابهوهم فقال: ( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ) أي: عذابنا الشديد ( بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) أي: في حين غفلتهم، وعلى غرتهم غافلون، لم يخطر الهلاك على قلوبهم. فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم، ولا أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم، ولا أنكروا ما كانوا يفعلونه من الظلم والمعاصي.
( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ .
وقوله ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) أي لنسألن الأمم الذين أرسل اللّه إليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ الآيات .
( وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) عن تبليغهم لرسالات ربهم وعما أجابتهم به أممهم .
( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ) أي على الخلق كلهم ما عملوا ( بِعِلْمٍ ) منه تعالى لأعمالهم ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) في وقت من الأوقات كما قال تعالى أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ .
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 ) .
ثم ذكر الجزاء على الأعمال، فقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ ) أي: والوزن يوم القيامة يكون بالعدل والقسط، الذي لا جور فيه ولا ظلم بوجه.
( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: الناجون من المكروه، المدركون للمحبوب، الذين حصل لهم الربح العظيم، والسعادة الدائمة.
( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت سيئاته، وصار الحكم لها، ( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) إذ فاتهم النعيم المقيم، وحصل لهم العذاب الأليم ( بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) فلم ينقادوا لها كما يجب عليهم ذلك.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 ) .
يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ ) أي: هيأناها لكم، بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها، ووجوه الانتفاع بها ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) مما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع والتجارات، فإنه هو الذي هيأها، وسخر أسبابها.
( قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) اللّه، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم، وصرف عنكم النقم.
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 ) .
يقول تعالى مخاطبا لبني آدم: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ) بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم: أبيكم آدم عليه السلام ( ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) في أحسن صورة، وأحسن تقويم، وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة، أسماء كل شيء.
ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا لآدم، إكراما واحتراما، وإظهارا لفضله، فامتثلوا أمر ربهم، ( فَسَجَدُوا ) كلهم أجمعون ( إِلا إِبْلِيسَ ) أبى أن يسجد له، تكبرا عليه وإعجابا بنفسه.