تفسير الطبري تفسير الصفحة 151 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 151
152
150
 سورة الأعراف مكية
وآياتها ست وَمائتان
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 1
القول في تأويل قوله تعالى: {الَمَصَ }.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قول الله تعالى: المص فقال بعضهم: معناه: أنا الله أفضل. ذكر من قال ذلك:
11199ـ حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضحى, عن ابن عباس: المص: أنا الله أفضل.
11200ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا عمار بن محمد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: المص: أنا الله أفضل.
وقال آخرون: هو هجاء حروف اسم الله تعالى الذي هو المصوّر. ذكر من قال ذلك:
11201ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: المص قال: هي هجاء المصوّر.
وقال آخرون: هي اسم من أسماء الله أقسم ربنا به. ذكر من قال ذلك:
11202ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: المص قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك:
11203ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: المص قال: اسم من أسماء القرآن.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
وقال آخرون: هي حروف هجاء مقطعة.
وقال آخرون: هي من حساب الجمّل.
وقال آخرون: هي حروف تحوي معاني كثيرة دلّ بها الله خلقه على مراده من ذلك.
وقال آخرون: هي حروف اسم الله الأعظم.
وقد ذكرنا كل ذلك بالرواية فيه, وتعليل كلّ فريق قال فيه قولاً. وأما الصواب من القول عندنا في ذلك بشواهده وأدلته فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
الآية : 2
القول في تأويل قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره هذا القرآن يا محمد في كتاب أنزله الله إليك. ورفع «الكتاب» بتأويل: هذا كتاب.
القول في تأويل قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منه. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك يا محمد من الإنذار به من أرسلتك لإنذاره به, وإبلاغه من أمرتك بابلاغه إياه, ولا تشكّ في أنه من عندي, واصبر بالمضي لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحَمّلك من عبء أثقال النبوة, كما صبر أولو العزم من الرسل, فإن الله معك. والحرج: هو الضيق في كلام العرب, وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: ضَيّقا حَرَجا بما أغنى عن إعادته. وقال أهل التأويل في ذلك, ما:
11204ـ حدثني به محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال: لا تكن في شك منه.
11205ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: فَلا يَكُنِ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال: شكّ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
11206ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ: شكّ منه.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مثله.
11207ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السّديّ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال: أما الحرج: فشكّ.
حدثنا الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: سمعت مجاهدا, في قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال: شكّ من القرآن.
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل هو معنى ما قلنا في الحرج لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به وقلة الإتساع لتوجيهه وجْهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى الضيق, لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب, كما قد بيناه قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للْمُؤمِنِينَ.
يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره, وذِكْرى للمُؤْمِنِينَ وهو من المؤخّر الذي معناه التقديم, ومعناه: كتاب أنزل ليك لتنذر به, وذكرى للمؤمنين, فلا يكن في صدرك حرج منه. وإذا كان معناه كان موضع قوله: وَذِكْرَى نصبا بمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به, وتذكّر به المؤمنين. ولو قيل: معنى ذلك: هذا كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه أن تنذر به وتذكّر به المؤمنين, كان قولاً غير مدفوعة صحته. وإذا وجه معنى الكلام إلى هذا الوجه كان في قوله: وَذِكْرَى من الإعراب وجهان: أحدهما النصب بالردّ على موضع لتنذر به, والاَخر الرفع عطفا على الكتاب, كأنه قيل: المص كتاب أنزل إليك وذكرى للمؤمنين.
الآية : 3
القول في تأويل قوله تعالى: {اتّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلاَ تَتّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا أيها الناس ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى, واعملوا بما أمركم به ربكم, ولاَ تَتّبِعُوا شيئا مِنْ دُونهِ يعني: شيئا غير ما أَنزل إليكم ربكم, يقول: لا تتبعوا أمر أوليائكم الذين يأمرونكم بالشرك بالله وعبادة الأوثان, فإنهم يضلونكم ولا يهدونكم.
فإن قال قائل: وكيف قلت: معنى الكلام قل اتبعوا, وليس في الكلام موجودا ذكر القول؟ قيل: إنه وإن لم يكن مذكورا صريحا, فإن في الكلام دلالة عليه, وذلك قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ, ففي قوله: «لِتُنْذِرَ بِهِ» الأمر بالإنذار, وفي الأمر بالإنذار الأمر بالقول لأن الإنذار قول. فكان معنى الكلام: أنذر القوم وقل لهم: اتبعوا ما أُنزل إليكم, كان غير مدفوع. وقد كان بعض أهل العربية يقول قوله: اتّبِعُوا خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, ومعناه: كتاب أُنزل إليك, فلا يكن في صدرك حرج منه, اتبع ما أنزل إليك من ربك. ويرى أن ذلك نظير قول الله: يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ إذ ابتدأ خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, ثم جعل الفعل للجميع, إذ كان أمْرُ الله نبيه بأمر أمرا منه لجميع أمته, كما يقال للرجل يفرد بالخطاب والمراد به هو وجماعة أتباعه أو عشيرته وقبيلته: أما تتقون الله؟ أما تستحيون من الله؟ ونحو ذلك من الكلام. وذلك وإن كان وجها غير مدفوع, فالقول الذي اخترناه أولى بمعنى الكلام لدلالة الظاهر الذي وصفنا عليه.
وقوله: قَليلاً ما تَذَكّرُونَ يقول: قليلاً ما تتعظون وتعتبرون, فتراجعون الحق.
الآية : 4
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري والعادلين بي الاَلهة والأوثان سخطي, لأَحلّ بهم عقوبتي فأهلكهم كما أهلكتُ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم, فكثيرا ما أهلكت قبلهم من أهل قرًى عصوني وكذّبوا رسلي وعبدوا غيري. فجاءَها بأْسُنا بَياتا يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلاً قبل أن يصبحوا, أوجاءتهم قائلين, يعني نهارا في وقت القائلة. وقيل: «وكم» لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المثلاث بتكذيبهم رسله وخلافهم عليه, وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد, كما قال الفرزدق:
كَمْ عَمّةٍ لَكَ يا جَرِيرُ وخالَةٍفَدْعاءَ قدْ حَلَبَتْ عَليّ عِشارِي
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه أهلك قرى, فما في خبره عن إهلاكه القرى من الدليل على إهلاكه أهلها؟ قيل: إن القرى لا تسمى قرى ولا القرية قرية إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم, ففي إهلاكها من فيها من أهلها. وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن القرية, والمراد به أهلها. والذي قلنا في ذلك أولى بالحقّ لموافقته ظاهر التنزيل المتلوّ.
فإن قال قائل: وكيف قيل: وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بأْسُنا بَيَاتا أوْ هُمْ قائِلُونَ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسخطه بها؟ فكيف قيل «أهلكناها فجاءها» وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها؟ فما وجه مجيء ذلك قوما قد هلكوا وبادوا ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين كلاهما صحيح واضح منهجه: أحدهما أن يكون معناه: وكم من قرية أهلكناها بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى واختيارها اتباع أمر أوليائها, المُغويها عن طاعة ربها, فجاءها بأسنا إذ فعلت ذلك بياتا, أو هم قائلون. فيكون إهلاك الله إياها: خذلانه لها عن طاعته, ويكون مجيء بأس الله إياهم جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم. والاَخر منهما: أن يكون الإهلاك هو البأس بعينه. فيكون في ذكر الإهلاك الدلالة على ذكر مجيء البأس, وفي ذكر مجيء البأس الدلالة على ذكر الإهلاك. وإذا كان ذلك كذلك, كان سواء عند العرب بُدىء بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس, أو بديء بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك, وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني إذّ كانت الزيارة هي الكرامة, فسواء عندهم قدّم الزيارة وأخّر الكرامة, أو قدّم الكرامة وأخّر الزيارة فقال: أكرمتني فزرتني. وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفا, لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحا, وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها, فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل ولا من خبر يجب التسليم له, وإذا خلا القول من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجب التسليم لها كان بيّنا فساده.
وقال آخر منهم أيضا: معنى الفاء في هذا الموضع معنى الواو, وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها وجاءها بأسنا بياتا. وهذا قول لا معنى له, إذ كان للفاء عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام, فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم ما وجد إلى ذلك سبيل أولى من صرفها إلى غيره.
فإن قال: كيف قيل: فجاءَها بأْسُنا بَياتا أوْ هُمْ قائِلُون, وقد علمت أن الأغلب من شأن «أو» في الكلام اجتلاب الشكّ, وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟ قيل: إن تأويل ذلك خلاف ما إليه ذهبتَ, وإنما معنى الكلام: وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتا, وبعضها وهم قائلون. ولو جعل مكان «أو» في هذا الموضع الواو لكان الكلام كالمحال, ولصار الأغلب من معنى الكلام: إن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتا, وفي وقت القائلة وذلك خبر عن البأس أنه أهلك من قد هلك وأفنى من قد فني, وذلك من الكلام خُلْف ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التزيل, إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتا من القرى التي جاءها ذلك قائلة, ولو فصلت لم يخبر عنها إلا بالواو. وقيل: «فجاءها بأسُنا» خبرا عن القرية أن البأس أتاها, وأجرى الكلام على ما ابتدىء به في أوّل الاَية ولو قيل: فجاءهم بأسنا بياتا لكان صحيحا فصيحا ردّا للكلام إلى معناه, إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها, وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب نحوٌ من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: أوْ هُمْ قائِلُونَ إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها. ولو قيل: «أو هي قائلة» كان صحيحا إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام.
فإن قال قائل: أو ليس قوله: أوْ هُمْ قائِلُونَ خبرا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟ قيل: بلى. فإن قال: أو ليس المواقيت في مثل هذا تكون في كلام العرب بالواو الدالّ على الوقت؟ قيل: إن ذلك وإن كان كذلك, فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع استثقالاً للجمع بين حرفي عطف, إذ كان «أو» عندهم من حروف العطف, وكذلك الواو, فيقولون: لقيتني مملقا أو أنا مسافر, بمعنى: أو وأنا مسافر, فيحذفون الواو وهم مريدوها في الكلام لما وصفت.
الآية : 5
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُوَاْ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون, إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين وبربهم آثمين ولأمره ونهيه مخالفين. وعنى بقوله جلّ ثناؤه: دَعْواهُمْ في هذا الموضع دعاءهم. وللدعوى في كلام العرب وجهان: أحدهما الدعاء والاَخر الادّعاء للحقّ. ومن الدعوى التي معناها الدعاء قول الله تبارك وتعالى: فَمَا زَالَتْ تِلكَ دَعْوَاهُمْ ومنه قول الشاعر:
وَإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفيبدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِها فَيَهُونُ
وقد بيّنا فيما مضى قبل أن البأس والبأساء: الشدّة, بشواهد ذلك الدالة على صحته, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ». وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم.
11208ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن أبي سنان, عن عبد الملك بن ميسرة الزرّاد, قال: قال عبد الله بن مسعود, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ» قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الاَية: فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأسُنا... الاَية
فإن قال قائل: وكيف قيل: فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأْسُنا إلاّ أنْ قالُوا إنّا كُنّا ظالِمِينَ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك وقد جاءهم بأس الله بالهلاك, أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك, فإنهم قالوا قبل مجيء البأس, والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم لا قبل ذلك, أو قالوه بعد ما جاءهم فتلك حالة قد هلكوا فيها, فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله؟ قيل: ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مهل, بل كان منهم من غرق بالطوفان, فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون وبين آخره الذي عمّ جميعهم هلاكه المدّة التي لا خفاء بها على ذي عقل ومنهم من متع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أياما ثلاثة, كقوم صالح وأشباههم, فحينئذٍ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم, دعوا: يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِين فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم, فحذّر ربنا جلّ ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله, ما حلّ بمن كان قبلهم من الأمم, إذ عصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبار عنيد.
الآية : 6
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ }.
يقول تعالى ذكره: لنسألنّ الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي, هل عملوا بما أمرتهم به وانتهوا عما نهيتهم عنه وأطاعوا أمري, أم عصوني, فخالفوا ذلك؟ وَلَنَسْأَلَنّ المُرْسَلِينَ يقول: ولنسألنّ الرسل الذين أرسلتهم إلى الأمم, هل بلغتهم رسالاتي وأدّت إليهم ما أمرتهم بأدائه إليه, أم قصّروا في ذلك ففرّطوا ولم يبلغوهم؟.
وكذلك كان أهل التأويل يتأوّلونه. ذكر من قال ذلك:
11209ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسأَلَنّ المُرْسَلِينَ قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين, ويسأل المرسلين عما بلغوا.
11210ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فَلَنْسأَلَنَ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ... إلى قوله: غائِبِينَ قال: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
11211ـ حدثني محمد بن الحسين, قلا: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ ارْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنّ المُرْسَلِينَ يقول فلنسألن الأمم ما عملوا فيما جاءت به الرسل, ولنسألنّ الرسل هل بّلغوا ما أرسلوا به.
11212ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: قال مجاهد: فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الأمم, ولنسألنّ الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه, هل بّلغوا.
الآية : 7
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنّا غَآئِبِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فلنخبرنّ الرسل ومن أرسلتهم إليه بيقين علم بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به, وما كنت نهيتهم عنه, وما كنا غائبين عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.
فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم, وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟ قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم, وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر, كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟ وألم أصلك فقطعت؟ فكذلك مسألة الله المرسل إليهم بأن يقول لهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري؟ كما أُبر جلّ ثناؤه أنه قائل لهم يومئذٍ: ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ألاّ تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ وأنِ اعْبُدونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ونحو ذلك من القول الذي ظاهره مسألة, ومعناه الخبر والقصص وهو بعد توبيخ وتقرير. وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر, فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبّكُمْ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: ما جاءنامن بشير ولا نذير, فقيل للرسل: هل بلّغتم ما أُرْسلتم به؟ أو قيل لهم: ألم تبّلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكما قال جلّ ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم وللمرسل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ, وكلّ ذلك بمعنى القصص والخبر. فأما الذي هو عن الله منفىّ من مسألته خلقه, فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسئول, ليعلم السائل علم ذلك من قبله. فذلك غير جائز أن يوصف الله به لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها, وهي المسألة التي نفاها جلّ ثناؤه عن نفسه بقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جانّ, وبقوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ يعني: لا يسأل عن ذلك أحدا منهم علم مستثبت, ليعلم علم ذلك من قبل من سأل منه, لأنه العالم بذلك كله وبكلّ شيء غيره. وقد ذكرنا ما رُوي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته. وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: فَلَنقُصّنّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم. هذا قول غير بعيد من الحقّ, غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ سَيُكَلّمُهُ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ, فَيَقُولُ لَهُ: أتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا؟ حتى يُذَكّرَهُ ما فَعَلَ فِي الدّنْيا». والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره.
الآية : 8
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
الوزن: مصدر من قول القائل: وَزَنْت كذا وكذا, أَزِنُه وَزْنا وزَنةً, مثل: وَعَدْته أَعِدُه وَعْدا وعِدَةً, وهو مرفوع بالحقّ, والحقّ به. ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أُرسل إليهم والمرسلين, الحقّ. ويعني بالحقّ: العدل. وكان مجاهد يقول: الوزن في هذا الموضع: القضاء.
11213ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: والوزن يومئذٍ: القضاء.
وكان يقول أيضا: معنى الحقّ ههنا: العدل. ذكر الرواية بذلك:
11214ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَق قال العدل.
وقال آخرون: معنى قوله: والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ وزن الأعمال. ذكر من قال ذلك:
11215ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ توزن الأعمال.
11216ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ قال: قال عبيد بن عمير: يؤتي بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب, فلا يزن جناح بعوضة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ قال: قال عبيد بن عمير: يؤتي بالرجل الطويل العظيم, فلا يزن جناح بعوضة.
11217ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا يوسف بن صهيب, عن موسى, عن بلال بن يحيى, عن حذيفة, قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام, قال: يا جبريل زن بينهم, فرُدّ على المظلوم, وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من سيئات صاحبه فيرجع الرجل عليه مثل الجبال, فذلك قوله: والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته. ذكر من قال ذلك:
11218ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ قال: حسناته.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته, قالوا: وذلك هو الميزان الذي يعرفه الناس, له لسان وكفتان. ذكر من قال ذلك:
11219ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: قال لي عمرو بن دينار: قوله: والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ قال: إنا نرى ميزانا وكفتين, سمعت عبيد بن عمير يقول: يجعل الرجل العظيم الطويل في الميزان, ثم لا يقوم بجناح ذباب.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار من أن ذلك: هو الميزان المعروف الذي يوزن به, وأن الله جلّ ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات, كما قال جلّ ثناؤه: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ موازين عمله الصالح, فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح وأدركوا الفوز بالطلبات, والخلود والبقاء في الجنات, لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلمبقوله: «ما وُضِعَ فِي المِيزَانِ شَيْءٌ أثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ», ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزان يوزن به الأعمال على ما وصفت. فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن وجهته, وقال: وكيف توزن الأعمال, والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة, وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها وكثرتها من قلتها, وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة والكثرة والقلة؟ اقيل له في قوله: «وما وجه وزن الله الأعمال وهو العالم بمقاديرها قبل كونها»: وَزْن ذلك نظير إثباته إياه في أمّ الكتاب, واستنساخه ذلك في الكتاب من غير حاجة به إليه ومن غير خوف من نسيانه, وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده, بل ليكون ذلك حجة على خلقه, كما قال جلّ ثناؤه في تنزيله: كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كَنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بالحَقّ... الاَية, فكذلك وزنه تعالى أعمال خلقه بالميزان حجة عليهم ولهم, إما بالتقصير في طاعته والتضييع وإما بالتكميل والتتميم. وأما وجه جواز ذلك, فإنه كما:
11220ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي, عن عبد الله بن يزيد, عن عبد الله بن عمرو, قال: يؤتي بالرجل يوم القيامة إلى الميزن, فيوضع في الكفة, فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلاّ فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنملة, فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فتوضع في الكفة فترجح بخطاياه وذنوبه.
فكذلك وزن الله أعمال خلقه بأن يوضع العبد وكتب حسناته في كفة من كفتي الميزان, وكتب سيئاته في الكفة الأخرى, ويحدث الله تبارك وتعالى ثقلاً وخفة في الكفة التي الموزون بها أولى احتجاجا من الله بذلك على خلقه كفعله بكثير منهم من استنطاق أيديهم وأرجلهم, استشهادا بذلك عليهم, وما أشبه ذلك من حججه. ويسئل من أنكر ذلك, فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة ويخفف موازين آخرين, وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك, فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل؟ فقد يقال: وجه صحته من جهة العقل, وليس في موزن الله جلّ ثناؤه خلقه وكتب أعمالهم, لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان خروج من حكمة, ولا دخول في جور في قضية, فما الذي أحال ذلك عندك من حجة أو عقل أو خبر؟ إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرت ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين وضوح فساد قوله وصحة ما قاله أهل الحقّ في ذلك. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته, إذ كان قصدنا في هذا الكتاب البيان عن تأويل القرآن دون غيره, ولولا ذلك لقرنّا إلى ما ذكرنا نظائره, وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وفّق لفهمه إن شاء الله.
الآية : 9
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: ومن خفت موازين أعماله الصالحة فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله والإيمان به وبرسوله واتباع أمره ونهيه, فأولئك الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بِمَا كانَوا بآياتِنا يَظْلِمُونَ يقول: بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون, فلا يقرّون بصحتها, ولا يوقنون بحقيقتها. كالذي:
11221ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ قال: حسناته.
وقيل: «فأولئك» و«مَنْ» في لفظ الواحد, لأن معناه الجمع, ولو جاء موحدا كان صوابا فصيحا.
الآية : 10
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد وطّأنا لكم أيها الناس في الأرض, وجعلناها لكم قرارا تستقرّون فيها, ومهادا تمتهدونها, وفراشا تفترشونها. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها أيام حياتكم, من مطاعم ومشارب, نعمة مني عليكم وإحسانا مني إليكم. قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول: وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري, واتخاذكم إلها سواي. والمعايش: جمع معيشة. واختلفت القرّاء في قراءتها, فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: مَعايِشَ بغير همز, وقرأه عبد الرحمن الأعرج: «مَعائِشَ» بالهمز.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: مَعايِشَ بغير همز, لأنها مفاعل من قول القائل: عشت تعيش, فالميم فيها زائدة والياء في الحكم متحرّكة, لأن واحدها مَفْعَلَة مَعْيَشَة متحركة الياء, نُقلت حركة الياء منها إلى العين في واحدها فلما جمعت ردّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها. وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال مفاعل, وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال فعائل التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل, فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال فالعرب تهمزه كقولهم: هذه مدائن وصحائف ونظائر, لأن مدائن جمع مدينة, والمدينة: فعيلة من قولهم: مدنت المدينة, وكذلك صحائف جمع صحيفة, والصحيفة فعيلة من قولك: صحفت الصحيفة, فالياء في واحدها زائدة ساكنة, فإذا جمعت همزت لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها, وذلك أنها كانت في واحدها ساكنة, وهي في الجمع متحركة, ولو جعلت مدينة مَفْعلة من دان يدين, وجمعت على مفاعل, كان الفصيح ترك الهمز فيها وتحريك الياء. وربما همزت العرب جمع مفعلة في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها, إذا جاءت على مفاعل تشبيها منهم جمعها بجمع فعيلة, كما تشبه مَفْعلاً بفَعِيل, فتقول: مَسِيل الماء, من سَال يسيل, ثم تجمعها جمع «فعيل», فتقول: هي أَمْسِلَة في الجمع تشبيها منهم لها بجمع بعير وهو فعيل, إذ تجمعه أبْعِرة, وكذلك يجمع المصير وهو مَفْعل مُصْران, تشبيها له بمع بعير وهو فعيل, إذ تجمعه بُعران, وعلى هذا همز الأعرج: مَعائِشَ, وذلك ليس بالفصيح في كلامها. وأولى ما قرىء به كتاب الله من الألسن, أفصحها وأعرفها دون أنكرها وأشذّها.
الآية : 11
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: تأويل ذلك: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ في ظهر آدم أيها الناس, ثُمّ صَوّرْناكُمْ في أرحام النساء خلقا مخلوقا ومثالاً ممثّلاً في صورة آدم. ذكر من قال ذلك:
11222ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ, قوله: خَلَقْناكُمْ يعني آدم, وأما صوّرناكم فذرّيته.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ... الاَية, قال: أما خلقناكم فآدم, وأما صوّرناكم: فذرّية آدم من بعده.
11223ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني: آدم, ثُمّ صَوّرْناكُمْ يعني: في الأرحام.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ يقول: خلقناكم خلق آدم, ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم.
11224ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ يقول: خلقنا آدم ثم صوّرنا الذرية في الأرحام.
11225ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: خلق الله آدم من طين, ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق, علقة ثم مضغة ثم عظاما, ثم كسا العظام لحما, ثم أنشأناه خلقا آخر.
11226ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: خلق الله آدم ثم صوّر ذرّيته من بعده.
11227ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمر بن هارون, عن نصر بن مشارس, عن الضحاك: خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: ذرّيته.
حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني آم, ثُمّ صَوّرْناكُمْ, يعني: ذرّيته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد خلقناكم في أصلاب آبائكم ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم. ذكر من قال ذلك:
11228ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شريك, عن سماك, عن عكرمة: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُم صَوّرْناكُمْ قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, وصوّرناكم في أرحام النساء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة, مثله.
11229ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت الأعمش يقرأ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, ثم صوّرناكم في أرحام النساء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خَلَقْناكُمْ يعني آدم, ثُمّ صَوّرْناكُمْ يعني في ظهره. ذكر من قال ذلك:
11230ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ قال: آدم, ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: في ظهر آدم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ في ظهر آدم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد, قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: صورّناكم في ظهر آدم.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: سمعت مجاهدا في قوله: ولقَد خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: في ظهر آدم لما تصيرون إليه من الثواب في الاَخرة.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم, ثم صورناكم فيها. ذكر من قال ذلك:
11231ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عمن ذكره, قال: خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال: خلق الله الإنسان في الرحم, ثم صوّره فشقّ سمعه وبصره وأصابعه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ولقد خلقنا آدم, ثُمّ صَوّرْناكُمْ بتصويرنا آدم, كما قد بيّنا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه, والمعنىّ في ذلك سلفه, وكما قال جلّ ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ وما أشبه ذلك من الخطاب الموجّه إلى الحيّ الموجود والمراد به السلف المعدوم, فكذلك ذلك في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم, ثم صوّرناه.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الذي يتلو ذلك قوله: ثُمّ قُلْنا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لاَدم قبل أن يصوّر ذرّيته في بطون أمهاتهم, بل قبل أن يخلق أمهاتهم, و«ثم» في كلام العرب لا تأي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها, وذلك كقول القائل: قمت ثم قعدت, لا يكون القعود إذ عطف به ب«ثم» على قوله: «قمت» إلا بعد القيام, وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها, وذلك كقول القائل: قمت وقعدت, فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل القيام, لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفا لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها من غير دلالة منها بنفسها, على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين, أو إن كانا في وقتين أيهما المتقدّم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إن قوله: ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ لا يصحّ تأويله إلا على ما ذكرنا. فإن ظنّ ظانّ أن العرب إذا كانت ربما نطقت ب«ثم» في موضع الواو في ضرورة شعر كما قال بعضهم:
سألْتُ رَبِيَعَةَ مَنْ خَيْرُهاأبا ثُمّ أمّا فَقالَتْ لِمَهْ
بمعنى: أبا وأما, فإن ذلك جائز أن يكون نظيره, فإن ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أن كتاب الله جلّ ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب, وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها وله في الأفصح الأشهر معنى مفهوم ووجه معروف. وقد وجّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم, وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم, ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لاَدم, ثم صوّرناكم. وذلك غير جائز في كلام العرب, لأنها لا تدخل «ثم» في الكلام وهي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر, وإن كانوا قد يقدّمونها في الكلام, إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير, وذلك كقولهم: قام ثم عبد الله عمرو فأما إذا قيل: قام عبد الله ثم قعد عمرو, فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله, إذا كان الخبر صدقا, فقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ ثُمّ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا نظير قول القائل: قام عبد الله ثم قعد عمرو في أنه غير جائز أن يكون أمر الله الملائكة بالسجود لاَدم كان إلا بعد الخلق والتصوير لما وصفنا قبل. وأما قوله: للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فإنه يقول جلّ ثناؤه: فلما صوّرنا آدم وجعلناه خلقا سويّا, ونفخنا فيه من روحنا, قلنا للملائكة: اسجدوا لاَدم, ابتلاءً منا واختبارا لهم بالأمر, ليعلم الطائع منهم من العاصي فَسَجَدُوا يقول: فسجد الملائكة إلاّ إبْلِيسَ فإنه لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ لاَدم حين أمره الله مع من أمر من سائر الملائكة غيره بالسجود. وقد بيّنا فيما مضى المعنى الذي من أجله امتحن جلّ جلاله ملائكته بالسجود لاَدم, وأمر إبليس وقصصه, وبما أغنى عن إعادته في هذا الموضع