تفسير السعدي تفسير الصفحة 212 من المصحف


لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 26 )
ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها، فأخبر عنها بقوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.
فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم « الحسنى » وهي الجنة الكاملة في حسنها و « زيادة » وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون.
ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.
وأما هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) الملازمون لها ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 27 ) .
لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي، فجزاؤهم سيئة مثلها أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم.
( وَتَرْهَقُهُمْ ) أي: تغشاهم ( ذِلَّةٌ ) في قلوبهم وخوف من عذاب الله، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه .
( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( 28 ) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ( 29 ) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 30 ) .
يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم، ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.
( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.
( فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد، فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة.
وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: ( مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.
( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .
وقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ .
فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك، فحينئذ يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال، وما أسلفوا من رديء الخصال، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين، وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم، واضمحلت معبوداتهم، وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.
ولهذا قال تعالى: ( هُنَالِكَ ) أي: في ذلك اليوم ( تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي: تتفقد أعمالها وكسبها، وتتبعه بالجزاء، وتجازي بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وضل عنهم ما كانوا يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 31 ) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 ) .
أي: ( قُلْ ) لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا - محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية- ( مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟
( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟، وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما.
( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك، ( وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) عكس هذه المذكورات، ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) في العالم العلوي والسفلي، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية، فإنك إذا سألتهم عن ذلك ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) لأنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.
( فَقُلْ ) لهم إلزامًا بالحجة ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) الله فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.
( فَذَلِكُمُ ) الذي وصف نفسه بما وصفها به ( اللَّهُ رَبُّكُم ) أي: المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو: ( الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ) .
فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.
( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) عن عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
فليس له من الملك مثقال ذرة، ولا شركة له بوجه من الوجوه، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه، فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به، لقد عدموا عقولهم، بعد أن عدموا أديانهم، بل فقدوا دنياهم وأخراهم.
ولهذا قال تعالى عنهم: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات، ما فيه عبرة لأولي الألباب، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.