تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 212 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 212

211

27- "والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها" هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة، وهو معطوف على "للذين أحسنوا" كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أو يقدر وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها: أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها، وهذا أولى من الأول لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين، والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان: الباء زائدة، والمعنى: جزاء سيئة مثلها، وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها كقولك إنما أنا بك، ويجوز أن يتعلق بجزاء والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن فحذف خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون "جزاء" مرفوعاً على تقدير فلهم جزاء سيئة فيكون مثل قوله: "فعدة من أيام أخر" أي فعليه عدة، والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة. قوله: "ترهقهم ذلة" أي يغشاهم هوان وخزي. وقرئ يرهقهم بالتحتية "ما لهم من الله من عاصم" أي لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين، والأول أولى، والجملة في محل نصب على الحالية، أو مستأنفة "كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً" قطعاً جمع قطعة، وعلى هذا يكون مظلماً منتصباً على الحال من الليل: أي أعشيت وجوههم قطعاً من الليل في حالة ظلمته. وقد قرأ بالجمع جمهور القراء. وقرأ الكسائي وابن كثير "قطعاً" بإسكان الطاء، فيكون مظلماً على هذا صفة لقطعاً، ويجوز أن يكون حالاً من الليل. قال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل "أولئك" أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة "أصحاب النار هم فيها خالدون" وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين.
قوله: 28- "ويوم نحشرهم جميعاً" الحشر الجمع، و "جميعاً" منتصب على الحال و "يوم" منصوب بمضمر: أي أنذرهم يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة. والمعنى: أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم "ثم نقول للذين أشركوا" في حالة الحشر ووقت الجمع تقريعاً لهم على رؤوس الأشهاد، وتوبيخاً لهم من حضور من يشاركهم في العبادة وحضور معبوداتهم "مكانكم" أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم "أنتم وشركاؤكم" على أن الواو واو مع. قوله: "فزيلنا بينهم": أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا: يقال زيلته فتزيل: أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة، يقال: زايله مزايلة وزيالاً إذا فارقه، والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم "فزيلنا" والمراد بالشركاء هنا الملائكة، وقيل الشياطين، وقيل الأصنام، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت. وقيل المسيح، وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان، وجملة "وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون" في محل نصب على الحال بتقدير قد، والمعنى: وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية، وقيل: لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة.
29- "فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم" إن كنا أمرنا بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم "إن كنا عن عبادتكم لغافلين"، إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والقائل لهذا الكلام هم المعبودون. قالوا: لمن عبدهم من المشركين: إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين، والمراد بالغفلة هنا: عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، ويمكن أن يكونوا من الشياطين، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها.
30- "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت" أي في ذلك المكان وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل، فمعنى "تبلو" تذوق وتختبر، وقيل تعلم، وقيل تتبع، وهذا على قراءة من قرأ يتلو بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس، وأما على قراءة من قرأ نبلو بالنون، فالمعنى: أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها، ويكون ما أسلفت بدلاً من كل نفس. والمعنى: أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها. قوله: "وردوا إلى الله مولاهم الحق" معطوف على "زيلنا"، والضمير في ردوا عائد إلى الذين أشركوا: أي ردوا إلى جزائه، وما أعد لهم من عقابه، ومولاهم: ربهم، والحق صفة له: أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولهم: الحمد لله أهل الحمد، " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي له حقيقة بالعبادة لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه. والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق، ويعترفون به، ويقرون به، ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً، ولكن حين لا ينفعهم ذلك. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فاختلط به نبات الأرض" قال: اختلط فنبت بالماء كل لون "مما يأكل الناس" كالحنطة والشعير، وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وازينت" قال: أنبتت وحسنت، وفي قوله: "كأن لم تغن بالأمس" قال: كأن لم تعش كأن لم تنعم. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب وابن عباس ومروان بن الحكم أنهم كانوا يقرأون بعد قوله: "وظن أهلها أنهم قادرون عليها" وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كان يقرأ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، "كذلك نفصل الآيات". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها" إلى "يتفكرون"، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، فمحيت. وأخرج أبو نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "والله يدعو إلى دار السلام" يقول: يدعو إلى عمل الجنة. والله: السلام، والجنة: داره. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "ويهدي من يشاء" قال: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل وجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً" " والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى " إلى قوله: "للعسرى". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي وتلا: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدثني جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها". وقد روي معنى هذا من طرق. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله يدعو إلى دار السلام" قال: ذكر لنا أن في التوراة مكتوباً: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر اتقه. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه كان إذا قرأ "والله يدعو إلى دار السلام" قال: لبيك ربنا وسعديك. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار، قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الرؤية وابن مردويه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة" فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الرؤية عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: الزيادة النظر إلى وجه الرحمن. وأخرج هؤلاء والدارقطني وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: الذين أحسنوا: أهل التوحيد، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن أبي بكر الصديق في الآية قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن مردويه من طريق الحرث عن علي بن أبي طالب في الآية مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن حذيفة في الآية قال: الزيادة النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن أبي موسى نحوه. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم واللالكائي عن ابن مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن علي قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلة واحدة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وزيادة" قال: هو مثل قوله: "ولدينا مزيد" يقول يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه. وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق حينئذ لقائل مقال، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم، والله المستعان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يرهق وجوههم" قال: لا يغشاهم "قتر" قال: سواد الوجوه. وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال: القتر سواد الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: خزي. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" قال: بعد نظرهم إليه عز وجل. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "والذين كسبوا السيئات" قال: الذين عملوا الكبائر "جزاء سيئة بمثلها" قال: النار "كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً" القطع: السواد نسختها الآية في البقرة "بلى من كسب سيئة" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وترهقهم ذلة" قال: تغشاهم ذلة وشدة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "ما لهم من الله من عاصم" يقول: من مانع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ويوم نحشرهم" قال: الحشر الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "فزيلنا بينهم" قال: فرقنا بينهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تنصب الآلههة التي كانوا يعبدونها من دون الله، فيقول: هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون: نعم هؤلاء الذين كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا، فيقولون: بلى والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: "فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله، فيتبعونهم حتى يؤدوهم النار، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت"" وأخرج أبو الشيخ عن السدي "هنالك تبلو" يقول تتبع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "تبلو" تختبر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد "تبلو" قال: تعاين "كل نفس ما أسلفت" ما عملت "وضل عنهم ما كانوا يفترون" ما كانوا يدعون معه من الأنداد. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وردوا إلى الله مولاهم الحق" قال: نسخها قوله: "الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم".
لما بين فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد والهدى، وبنى سبحانه الحج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس، فقال: 31- "قل" يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك "من يرزقكم من السماء والأرض" من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن، فإن اعترفوا حصل المطلوب، وإن لم يعترفوا فلا بد أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما " أمن يملك السمع والأبصار " أم هي المنقطعة، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال، وخص السمع والبصر بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة والقدرة الباهرة العظيمة: أي من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين، ثم انتقل إلى حجة ثالثة، فقال: "ومن يخرج الحي من الميت" الإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والنبات من الحبة، أو المؤمن من الكافر "ويخرج الميت من الحي" أي النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن، والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيي ويميت ثم انتقل إلى حجة رابعة، فقال: "ومن يدبر الأمر" أي يقدره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عم ما تقدم وغيره "فسيقولون الله" أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم، وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي الله يفعل ذلك، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم "أفلا تتقون" والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر: أي تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال.
32- "فذلكم الله ربكم الحق" أي فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق لا ما جعلتموهم شركاء له، والاستفهام في قوله: "فماذا بعد الحق إلا الضلال" للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام، والمعنى: أي شيء بعد الحق إلا الضلال، فإن ثبوت ربوبية الرب سبحانه حق بإقرارهم فكان غيره باطلاً لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته "فأنى تصرفون" أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب.
33- "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون" أي كما حق وثبت أن الحق بعد الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة ربك: أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا: أي خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عناداً ومكابرة، وجملة "أنهم لا يؤمنون" بدل من الكلمة. قال الزجاج: أي حقت عليهم هذه الكلمة، وهي عدم إيمانهم، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام: أي لأنهم لا يؤمنون. وقال الفراء: إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف، وقد قرأ نافع وابن عامر " لكلمات ربي " بالجمع. وقرأ الباقون بالإفراد.