تفسير السعدي تفسير الصفحة 31 من المصحف


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ( 197 ) .
يخبر تعالى أن ( الْحَجَّ ) واقع في ( أشهر معلومات ) عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) أي: أحرم به, لأن الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [ بالحج ] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.
وقوله: ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) أتى بـ « من » لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال: ( وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( 198 ) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 199 ) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ( 200 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 201 ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 202 ) .
لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ « مزدلفة »
( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس, من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ « منى » ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت [ هذه ] الإفاضة, يقصد بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت, ورد الفعل، كما أن الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: ( مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.