تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 31 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 31

030

قوله: 197- "الحج أشهر" فيه حذف، والتقدير: وقت الحج أشهر، أي وقت عمل الحج، وقيل التقدير: الحج في أشهر، وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع. قال الفراء: الأشهر رفع لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات، وقيل التقدير: الحج حج أشهر معلومات. وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبه قال مالك. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد روي أيضاً عن مالك. ويظهر فائدة الخلاف في ما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت لم يلزمه دم التأخير، ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزم دم التأخير. وقد استدل بهذه الآية من قال إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو عطاء وطاوس ومجاهد والأوزاعي والشافعي وأبو ثور قالوا: فمن أحرم بالحج قبلها أحل بعمرة، ولا يجزيه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنها لا تجزيه. وقال أحمد وأبو حنيفة: إنه مكروه فقط. وروي نحوه عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة. وروى مثله عن أبي حنيفة. وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية. وقد قيل: إن النص عليها لزيادة فضلها. وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد، واحتج لهم بقوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة الأشهر، ويجاب بأن هذه الآية عامة، وتلك خاصة، والخاص مقدم على العام. ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنص القرآني فهو باطل، فالحق ما ذهب إليه الأولون إن كانت الأشهر المذكورة في قوله: "الحج أشهر" مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع، فإن لم يكن كذلك فالأشهر جمع شهر، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة، والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها، ومعنى قوله: "معلومات" أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدم عليها ولا التأخر عنها. وقوله: "فمن فرض فيهن الحج" أصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقوس، وقيل معنى فرض: أبان، وهو أيضاً يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره. والمعنى في الآية: فمن ألزم نفسه فيهن الحج بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاً ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً. وقال أبو حنيفة: إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه. وقال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. والرفث قال ابن عباس وابن جرير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: هو الجماع. وقال ابن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث: الإفحاش بالكلام. قال أبو عبيدة: الرفث: اللغاء من الكلام، وأنشد: ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم يقال: رفث يرفث بكسر الفاء وضمها. والفسوق: الخروج عند حدود الشرع، وقيل: هو الذبح للأصنام، وقيل: التنابز بالألقاب، وقيل: السباب. والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة، وإنما خصصه من خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق، كما قال سبحانه في الذبح للأصنام: "أو فسقاً أهل لغير الله به". وقال في التنابز: "بئس الاسم الفسوق". وقال صلى الله عليه وسلم في السباب: "سباب المسلم فسوق". ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به. والجدال مشتق من الجدل وهو القتل، والمراد به هنا المماراة، وقيل: السباب، وقيل: الفخر بالآباء. والظاهر الأول. وقد قرىء بنصب الثلاثة ورفعها، ورفع الأولين، ونصب الثالث، وعكس ذلك، ومعنى النفي لهذه الأمور النهي عنها. وقوله: "وما تفعلوا من خير يعلمه الله" حث على الخير بعد ذكر الشر، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء. وقوله: "وتزودوا" فيه الأمر باتخاذ الزاد، لأن بعض العرب كانوا يقولون: كيف نحج بيت ربنا ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون: نحن متوكلون على الله سبحانه، وقيل المعنى: تزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة "فإن خير الزاد التقوى" والأول أرجح كما يدل على ذلك سبب نزول الآية، وسيأتي. وقوله: "فإن خير الزاد التقوى" إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى، وقيل المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف. وقوله: "واتقون يا أولي الألباب" فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد على التقوى، لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها، ولب كل شيء خالصه.
قوله: 198- "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فيه الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى: "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" أي لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلاً من ربكم. مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ماء حتى ينصب من نواحيه، ورجل فياض: أي متدفقة يداه بالعطاء، ومعناه: أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا. وعرفات: اسم لتلك البقعة: أي موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء تشبيهاً بتاء فاطمة، وأنشدوا: تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي وقال في الكشاف: فإن قلت هلا منعت الصرف، وفيها السببان التعريف والتأنيث، قلت: لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها انتهى، وسميت عرفات لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: إن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة. لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير، وسمي المشعر مشعراً من الشعار، وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل: المراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعاً. وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاج بينهما فيها. والمشعر: هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر. قوله: "واذكروه كما هداكم" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية أو كافة أي اذكروه ذكراً حسناً، كما هداكم هداية حسنة، وكرر الأمر بالذكر تأكيداً- وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص- وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم، وإن في قوله: "وإن كنتم من قبله" مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر- وقيل هي بمعنى قد: أي قد كنتم، والضمير في قوله: "من قبله" عائد إلى الهدى، وقيل: إلى القرآن. وقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "الحج أشهر معلومات" شوال وذو القعدة وذو الحجة. وأخرج الطبراني في الأوسط أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وأخرج الخطيب عن ابن عباس مرفوعاً مثله أيضاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثله. وأخرج الشافعي في الأم وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر موقوفاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وعطاء والضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طرق ابن عمر في قوله: "الحج أشهر معلومات" قال: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وأخرجوا إلا الحاكم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس من طرق مثله. وأخرج ابن المنذر والدارقطني والطبراني والبيهقي عن عبد الله بن الزبير مثله أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد وإبراهيم مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمر في قوله: "فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل فيهن بحج. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الفرض: الإحرام. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير قال: الإهلال. وأخرج عنه ابن المنذر والدارقطني والبيهقي قال: فرض الحج الإحرام. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرض الإهلال. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى: "الحج أشهر معلومات". وأخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" قال: "الرفث: التعريض للنساء بالجماع، والفسوق: المعاصي كلها، والجدال: جدال الرجل صاحبه". وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا رفث: لا جماع، ولا فسوق: المعاصي والكذب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال: الرفث الجماع، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: الرفث: غشيان النساء، والفسوق: السباب، والجدال: المراء. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وروي نحو ما تقدم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زاداً آخر، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال: كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد فأمرهم الله أن يتزودوا. وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدم عن الصحابة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ويقولون: أيام ذكر الله، فنزلت "ليس عليكم جناح" الآية. وقد أخرج نحوه عنه البخاري وغيره. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة التميمي قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وبين الصفا والمروة، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قلت: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية وقال: وأنتم حجاج. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه قرأها كما قرأها ابن عباس. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن ابن مسعود قرأها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إنما سمي عرفات لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليه السلام حين رأى المناسك عرفت. وأخرج مثله ابن أبي حاتم عن ابن عمر. وأخرج مثله عبد الرزاق وابن جرير عن علي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه سئل عن المشعر الحرام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أنه قال: المشعر الحرام: المزدلفة كلها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عنه قال: هو الجبل وما حوله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه قال: ما بين الجبلين الذي بجمع مشعر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن الزبير في قوله: "واذكروه كما هداكم" قال: ليس هذا بعام. هذا لأهل البلد كانوا يفيضون من جمع ويفيض سائر الناس من عرفات، فأبى الله لهم ذلك، فأنزل: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس". وأخرج عبد بن حميد عن سفيان في قوله: "وإن كنتم من قبله" قال: من قبل القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قال: لمن الجاهلين.
قيل: الخطاب في قوله: 199- "ثم أفيضوا" للحمس من قريش لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك- وعلى هذا تكون ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب- وقيل: الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس إبراهيم: أي ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون ثم على بابها أي للترتيب. وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري، وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة- وقيل: إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة.
والمراد بالمناسك أعمال الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" أي فإذا فرغتم من أعمال الحج فاذكروا الله، وقيل: المراد بالمناسك الذبائح، وإنما قال سبحانه 200- "كذكركم آباءكم" لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج: إن قوله: "أو أشد" في موضع خفض عطفاً على ذكركم، والمعنى: أو كأشد ذكراً، ويجوز أن يكون في موضع نصب: أي اذكروه أشد ذكراً. وقال في الكشاف: إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: "كذكركم" كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً. قوله: "فمن الناس من يقول" الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين: أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعاً، ومفعول الفعل، أعني قوله: "آتنا" محذوف: أي ما نريد أو ما نطلب، والواو في قوله: "وما له" واو الحال، والجملة بعدها حالية. والخلاق: النصيب: أي وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده.
وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية، فقيل: هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية وما لا بد منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا، وقيل المراد بحسنة الدنيا: الزوجة الحسناء، وحسنة الآخرة: الحور العين، وقيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وقيل غير ذلك. قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال: وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع انتهى. قوله: 201- "وقنا" أصله أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقاً بين اللازم والمتعدي.
وقوله 202- "أولئك" إشارة إلى الفريق الثاني "لهم نصيب من" جنس "ما كسبوا" من الأعمال: أي من ثوابها، ومن جملة أعمالهم الدعاء، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا، وقيل: إن معنى قوله: "مما كسبوا" التعليل: أي من أجل ما كسبوا، وهو بعيد، وقيل: إن قوله: "أولئك" إشارة إلى الفريقين جميعاً: أي للأولين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة. وسريع من سرع يسرع كعظم يعظم سرعاً وسرعة، والحساب مصدر كالمحاسبة، وأصله العدد، يقال: حسب يحسب حساباً، وحسابة وحسباناً وحسباً. والمراد هنا المحسوب، سمي حساباً تسمية للمفعول بالمصدر، والمعنى: أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه، فبادروا ذلك بأعمال الخير، أو أنه وسف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة".