تفسير السعدي تفسير الصفحة 339 من المصحف


الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 56 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 57 ) .
( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ) أي: يوم القيامة ( لِلَّهِ ) تعالى، لا لغيره، ( يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) بحكمه العدل، وقضائه الفصل، ( فَالَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسله، وما جاءوا به ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ليصدقوا بذلك إيمانهم ( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) نعيم القلب والروح والبدن، مما لا يصفه الواصفون، ولا تدركه العقول.
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله ورسله وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها، أو عاندوها، ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) لهم، من شدته، وألمه، وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته، أهانهم الله بالعذاب.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 58 ) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 59 ) .
هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله، ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدا في سبيل الله، ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ) في البرزخ، وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح والريحان، والحسن والإحسان، ونعيم القلب والبدن، ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل الله، قد تكفل برزقه في الدنيا، رزقا واسعا حسنا، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه، أو يقتل شهيدا، فكلهم مضمون له الرزق، فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله، سيفتقر ويحتاج، فإن رازقه هو خير الرازقين، وقد وقع كما أخبر، فإن المهاجرين السابقين، تركوا ديارهم وأبناءهم وأموالهم، نصرة لدين الله، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى فتح الله عليهم البلاد، ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها، ما كانوا به من أغنى الناس، ويكون على هذا القول، قوله: ( لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ) إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصا فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزق الدنيا، ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ) بالأمور، ظاهرها، وباطنها، متقدمها، ومتأخرها، ( حَلِيمٌ ) يعصيه الخلائق، ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله.
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 60 ) .
ذلك بأن من جني عليه وظلم، فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته، فإن فعل ذلك، فليس عليه سبيل، وليس بملوم، فإن بغي عليه بعد هذا، فإن الله ينصره، لأنه مظلوم، فلا يجوز أن يبغي عليه، بسبب أنه استوفى حقه، وإذا كان المجازي غيره، بإساءته إذا ظلم بعد ذلك، نصره الله، فالذي بالأصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه، فالنصر إليه أقرب.
( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) أي: يعفو عن المذنبين، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر ذنوبهم فيزيلها، ويزيل آثارها عنهم، فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي، ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو والمغفرة، فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم، أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم الله كما تعاملون عباده فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 61 ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 62 ) .
ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة، هو حسن التصرف، في تقديره وتدبيره، الذي ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ) أي: يدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فيأتي بالليل بعد النهار، وبالنهار بعد الليل، ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر، ثم بالعكس، فيترتب على ذلك، قيام الفصول، ومصالح الليل والنهار، والشمس والقمر، التي هي من أجل نعمه على العباد، وهي من الضروريات لهم. ( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف، اللغات، على تفنن الحاجات، ( بَصِيرٌ ) يرى دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
( ذَلِكَ ) صاحب الحكم والأحكام ( بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ) أي: الثابت، الذي لا يزال ولا يزول، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، كامل الأسماء والصفات، صادق الوعد، الذي وعده حق ولقاؤه حق، ودينه حق، وعبادته هي الحق، النافعة الباقية على الدوام.
( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) من الأصنام والأنداد، من الحيوانات والجمادات، ( هُوَ الْبَاطِلُ ) الذي هو باطل في نفسه، وعبادته باطلة، لأنها متعلقة بمضمحل فان، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها، ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) العلي في ذاته، فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره، فهو كامل الصفات، وفي قهره لجميع المخلوقات، الكبير في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه، أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، ومن كبريائه، أن كرسيه وسع السماوات والأرض، ومن عظمته وكبريائه، أن نواصي العباد بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيئته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته.
وحقيقة الكبرياء التي لا يعلمها إلا هو، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أنها كل صفة كمال وجلال وكبرياء وعظمة، فهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها وأكملها، ومن كبريائه، أن العبادات كلها، الصادرة من أهل السماوات والأرض، كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 63 ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 64 ) .
هذا حث منه تعالى، وترغيب في النظر بآياته الدالات على وحدانيته، وكماله فقال: ( أَلَمْ تَرَ ) أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك ( أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) وهو: المطر، فينزل على أرض خاشعة مجدبة، قد اغبرت أرجاؤها، ويبس ما فيها، من شجر ونبات، فتصبح مخضرة قد اكتست من كل زوج كريم، وصار لها بذلك منظر بهيج، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.
( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفياتها، وسرائرها، الذي يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه، أنه يري عبده عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، ومن لطفه، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات، ( خَبِيرٌ ) بسرائر الأمور، وخبايا الصدور، وخفايا الأمور.
( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في الأرْضِ ) خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره، ليس لأحد غيره من الأمر شيء.
( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ) بذاته الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه، ومن غناه، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة، ومن غناه، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ومن غناه، أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه، فهو يطعم ولا يطعم، ومن غناه، أن الخلق كلهم مفتقرون إليه، في إيجادهم، وإعدادهم وإمدادهم، وفي دينهم ودنياهم، ومن غناه، أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض، الأحياء منهم والأموات، في صعيد واحد، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته، فأعطاهم فوق أمانيهم، ما نقص ذلك من ملكه شيء، ومن غناه، أن يده سحاء بالخير والبركات، الليل والنهار، لم يزل إفضاله على الأنفاس، ومن غناه وكرمه، ما أودعه في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
( الْحَمِيدُ ) أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه، لكونها حسنى، وفي صفاته، لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله، لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه، لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض، وما بينهما، وما شاء بعدها، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهو المحمود على توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله، وهو الغني في حمده، الحميد في غناه.