تفسير الطبري تفسير الصفحة 339 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 339
340
338
 الآية : 56 - 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ }.
يقول تعالـى ذكره: السلطان والـمُلك إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له ولا ينازعه يومئذ منازع وقد كان فـي الدنـيا ملوك يُدعون بهذا الاسم ولا أحد يومئذ يدعي ملكا سواه. يَحْكُمُ بَـيْنهُمْ يقول: يفصل بـين خـلقه الـمشركين به والـمؤمنـين. فـالّذين آمَنُوا بهذا القرآن, وبـمن أنزله, ومن جاء به, وعملوا بـما فـيه من حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه فـي جَنّاتِ النعيـم يومئذ. والّذِينَ كَفَرُوا بـالله ورسوله, وكَذّبُوا بآيَات كتابه وتنزيـله, وقالوا: لـيس ذلك من عند الله, إنـما هو إفك افتراه مـحمد وأعانه علـيه قوم آخرون فأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقول: فـالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القـيامة عذاب مهين, يعنـي عذاب مذلّ فـي جهنـم.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: والذين فـارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك فـي رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك, لَـيْرُزَقّنُهُم الله يوم القـيامة فـي جناته رِزْقا حَسَنَا يعنـي بـالـحسن: الكريـم وإنـما يعنـي بـالرزق الـحسن: الثواب الـجزيـل. وَإنّ اللّهَ لَهُوَ خَيرُ الرّازِقِـينَ يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله علـى أهل طاعته وأكرمهم, وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فـي حكم من مات فـي سبـيـل الله, فقال بعضهم: سواء الـمقتول منهم والـميت, وقال آخرون: الـمقتول أفضل. فأنزل الله هذه الاَية علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم, يعلـمهم استواء أمر الـميت فـي سبـيـله والـمقتول فـيها فـي الثواب عنده. وقد:
19183ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن شريح, عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا علـى الأربـاع, فخرج بجنازتـي رجلـين, أحدهما قتـيـل والاَخر متوفـي فرأى ميـل الناس مع جنازة القتـيـل إلـى حفرته, فقال: أراكم أيها الناس تـميـلون مع القتـيـل وتفضلونه علـى أخيه الـمتوفـي؟ (فقالوا: هذا القتـيـل فـي سبـيـل الله. فقال) فوالذي نفسي بـيده ما أبـالـي من أيّ حفرتـيهما بُعثت اقرءوا قول الله تعالـى: وَالّذِينَ هاجَرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ ثمّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا... إلـى قوله: وَإنّ اللّهَ لَعَلِـيـمٌ حَلِـيـمٌ.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: لـيدخـلنّ الله الـمقتول فـي سبـيـله من الـمهاجرين والـميت منهم مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وذلك الـمدخـل هو الـجنة. وَإنّ اللّهَ لَعَلِـيـمٌ بـمن يهاجر فـي سبـيـله مـمن يخرج من داره طلب الغنـيـمة أو عَرَض من عروض الدنـيا. حَلِـيـمٌ عن عصاة خـلقه, بتركه معاجلتهم بـالعقوبة والعذاب.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلكَ لهذا لهؤلاء الذين هاجروا فـي سبـيـل الله, ثم قُتلوا أو ماتوا, ولهم مع ذلك أيضا أن الله يعدهم النصر علـى الـمشركين الذين بغوا علـيهم فأخرجوهم من ديارهم. كما:
19184ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: ذلكَ وَمَنْ عاقَبَ بِـمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ قال: هم الـمشركون بغَوْا علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فوعده الله أن ينصره, وقال فـي القصاص أيضا.
وكان بعضهم يزعم أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـمشركين لقوا قوما من الـمسلـمين للـيـلتـين بقـيتا من الـمـحرّم, وكان الـمسلـمون يكرهون القتال يومئذ فـي الأشهر الـحرم, فسأل الـمسلـمون الـمشركين أن يكفّوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر, فأبى الـمشركون ذلك, وقاتلوهم فبغَوْا علـيهم, وثبت الـمسلـمون لهم فنُصروا علـيهم, فأنزل الله هذه الاَية: ذلكَ وَمَنْ عاقَبَ بِـمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَـيْهِ بأن بدىء بـالقتال وهو له كاره, لَـيَنْصُرَنّهُ اللّهُ. (وقوله: إنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ يقول تعالـى ذكره: إن الله لذو عفو وصفح لـمن انتصر مـمن ظلـمه من بعد ما ظلـمه الظالـم بحقّ, غفور لـما فعل ببـادئه بـالظلـم مثل الذي فعل به غير معاقبه علـيه.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلكَ هذا النصر الذي أنصره علـى من بغى علـيه علـى البـاغي, لأنـي القادر علـى ما أشاء. فمن قُدرته أن الله يُولِـجُ اللّـيْـلَ فـي النّهارِ يقول: يدخـل ما ينقص من ساعات اللـيـل فـي ساعات النهار, فما نقص من هذا زاد فـي هذا. وَيُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيْـلِ ويدخـل ما انتقص من ساعات النهار فـي ساعات اللـيـل, فما نقص من طول هذا زاد فـي طول هذا, وبـالقُدرة التـي يَفْعَلُ ذلك ينصر مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه علـى الذين بغوا علـيهم فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم. وأنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول: وفعل ذلك أيضا بأنه ذو سمع لـما يقولون من قول لا يخفـى علـيه منه شيء, بصير بـما يعملون, لا يغيب عنه منه شيء, كل ذلك منه بـمرأى ومسمع, وهو الـحافظ لكل ذلك, حتـى يجازى جميعهم علـى ما قالوا وعملوا من قول وعمل جزاءه.
الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذَلكَ هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي اللـيـل فـي النهار وإيلاجِي النهار فـي اللـيـل لأنـي أنا الـحقّ الذي لا مثل لـي ولا شريك ولا ندّ, وأن الذي يدعوه هؤلاء الـمشركون إلها من دونه هو البـاطل الذي لا يقدر علـى صنعة شيء, بل هو الـمصنوع يقول لهم تعالـى ذكره: أفتتركون أيها الـجهال عبـادة من منه النفع وبـيده الضر وهو القادر علـى كل شيء وكلّ شيء دونه, وتعبدون البـاطل الذي لا تنفعكم عبـادته. وقوله: وأنّ اللّهَ هُوَ العَلِـيّ الكَبـيرُ يعنـي بقوله: العَلِـيّ ذو العلوّ علـى كل شيء, هو فوق كلّ شيء وكل شيء دونه. الكَبِـيرُ يعنـي العظيـم, الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه.
وكان ابن جُرَيج يقول فـي قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البـاطلُ ما:
19185ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, فـي قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البـاطِلُ قال: الشيطان.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأته عامة قرّاء العراق والـحجاز: تَدْعُونَ بـالتاء علـى وجه الـخطاب وقرأته عامة قرّاء العراق غير عاصم بـالـياء علـى وجه الـخبر, والـياء أعجب القراءتـين إلـيّ, لأن ابتداء الـخبر علـى وجه الـخطاب.
الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ألَـمْ تَرَ يا مـحمد أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً يعنـي مطرا, فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً بـما ينبت فـيها من النبـات. إنّ اللّهَ لَطِيفٌ بـاستـخراج النبـات من الأرض بذلك الـماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه. خَبِـيرٌ بـما يحدث عن ذلك النبت من الـحبّ وبه. قال: فَتُصْبِحُ الأرْضُ فرفع, وقد تقدمه قوله: ألَـمْ تَرَ وإنـما قـيـل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الـخبر, كأنه قـيـل: أعلـم يا مـحمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض ونظير ذلك قول الشاعر:
ألَـمْ تَسْأَلِ الرّبْعَ القَدِيـمَ فـيَنْطِقُوهلْ تُـخْبِرَنْكَ الـيوْمَ بَـيْداءُ سَمْلَقُ
لأن معناه: قد سألته فنطق.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ }.
يقول تعالـى ذكره: له مُلك ما فـي السموات وما فـي الأرض من شيء هم عبـيده ومـمالـيكه وخـلقه, لا شريك له فـي ذلك ولا فـي شيء منه, وإن الله هو الغنـيّ عن كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من خـلقه وهم الـمـحتاجون إلـيه, الـحميد عند عبـاده فـي إفضاله علـيهم وأياديه عندهم