تفسير السعدي تفسير الصفحة 343 من المصحف


وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( 18 ) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 19 ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ( 20 ) .
( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم، فلا ينقصه، بحيث لا يكفي الأرض والأشجار، فلا يحصل منه المقصود، ولا يزيده زيادة لا تحتمل، بحيث يتلف المساكن، ولا تعيش معه النباتات والأشجار، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من دوامه، ( فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ ) أي: أنزلناه عليها، فسكن واستقر، وأخرج بقدرة منزله، جميع الأزواج النباتية، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض، بحيث لم يذهب نازلا حتى لا يوصل إليه، ولا يبلغ قعره، ( وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ) إما بأن لا ننزله، أو ننزله، فيذهب نازلا لا يوصل إليه، أو لا يوجد منه المقصود منه، وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته، ويقدروا عدمها، ماذا يحصل به من الضرر، كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
( فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ ) أي: بذلك الماء ( جَنَّاتٍ ) أي: بساتين ( مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) خص تعالى هذين النوعين، مع أنه ينشئ منه غيرهما من الأشجار، لفضلهما ومنافعهما، التي فاقت بها الأشجار، ولهذا ذكر العام في قوله: ( لَكُمُ فيها ) أي: في تلك الجنات ( فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) من تين، وأترج، ورمان، وتفاح وغيرها ، ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) وهي شجرة الزيتون، أي: جنسها، خصت بالذكر، لأن مكانها خاص في أرض الشام، ولمنافعها، التي ذكر بعضها في قوله: ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ) أي: فيها الزيت، الذي هو دهن، يستعمل استعماله من الاستصباح به، واصطباغ الآكلين، أي: يجعل إداما للآكلين، وغير ذلك من المنافع.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 21 ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 22 ) .
أي: ومن نعمه عليكم، أن سخر لكم الأنعام، الإبل والبقر، والغنم، فيها عبرة للمعتبرين، ومنافع للمنتفعين ( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ) من لبن، يخرج من بين فرث ودم، خالص سائغ للشاربين، ( وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ) من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) أفضل المآكل من لحم وشحم.
( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) أي: جعلها سفنا لكم في البر، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم، وتحمل متاعكم، قليلا [ كان ] أو كثيرا، فالذي أنعم بهذه النعم، وصنف أنواع الإحسان، وأدر علينا من خيره المدرار، هو الذي يستحق كمال الشكر، وكمال الثناء، والاجتهاد في عبوديته، وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 23 - 30 ) إلى آخر القصة .
وهي قوله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه السلام، أول رسول أرسله لأهل الأرض، فأرسله إلى قومه، وهم يعبدون الأصنام، فأمرهم بعبادة الله وحده، فقال: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) أي: أخلصوا له العبادة، لأن العبادة لا تصح إلا بإخلاصها. ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) فيه إبطال ألوهية غير الله، وإثبات الإلهية لله تعالى، لأنه الخالق الرازق، الذي له الكمال كله، وغيره بخلاف ذلك. ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) ما أنتم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، التي صورت على صور قوم صالحين، فعبدوها مع الله، فاستمر على ذلك، يدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا، ألف سنة إلا خمسين عاما، وهم لا يزدادون إلا عتوا ونفورا.
فَقَالَ الْمَلأُ من قومه الأشراف والسادة المتبوعون - على وجه المعارضة لنبيهم نوح، والتحذير من اتباعه - : مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: ما هذا إلا بشر مثلكم، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة، ليكون متبوعا، وإلا فما الذي يفضله عليكم، وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة لا زالت موجودة في مكذبي الرسل، وقد أجاب الله عنها بجواب شاف، على ألسنة رسله كما في قوله: ( قالوا ) أي: لرسلهم إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته فليس لكم أن تحجروا على الله وتمنعوه من إيصال فضله علينا
وقالوا هنا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملائكة فإنه حكيم رحيم حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين لأن الملك لا قدرة لهم على مخاطبته ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم كما كان
وقولهم مَا سَمِعْنَا بِهَذَا أي بإرسال الرسول فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا علما بما تقدم فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم وعلى تقدير أنه لم يرسل فيهم رسولا فإما أن يكونوا على الهدى فلا حاجة لإرسال الرسول إذ ذاك وإما أن يكونوا على غيره فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم ولا شعروا بها ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم سببا لكفرهم للإحسان إليهم
إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي مجنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ أي انتظروا به حَتَّى حِينٍ إلى أن يأتيه الموت
وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم دالة على شدة كفرهم وعنادهم وعلى أنهم في غاية الجهل والضلال فإنها لا تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه كما ذكرنا بل هي في نفسها متناقضة متعارضة فقوله مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أثبتوا أن له عقلا يكيدهم به ليعلوهم ويسودهم ويحتاج - مع هذا- أن يحذر منه لئلا يغتر به فكيف يلتئم مع قولهم إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ وهل هذا إلا من مشبه ضال منقلب عليه الأمر قصده الدفع بأي طريق اتفق له غير عالم بما يقول؟
ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله .
فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فاستنصر ربه عليهم غضبا لله حيث ضيعوا أمره وكذبوا رسوله وقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا قال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ .
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ عند استجابتنا له، سببا ووسيلة للنجاة، قبل وقوع أسبابه، أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أي: السفينة بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا أي: بأمرنا لك ومعونتنا، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا بإرسال الطوفان الذي عذبوا به وَفَارَ التَّنُّورُ أي: فارت الأرض، وتفجرت عيونا، حتى محل النار، الذي لم تجر العادة إلا ببعده عن الماء، فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات، ذكرا وأنثى، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض، وَأَهْلَكَ أي: أدخلهم إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كابنه، وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: لا تدعني أن أنجيهم، فإن القضاء والقدر، قد حتم أنهم مغرقون.