تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 343 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 343

342

18- "وأنزلنا من السماء ماء" هذا من جملة ما امتن الله سبحانه به على خلقه، والمراد بالماء ماء المطر، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون، والآباء المستخرجة من الأرض، فإن أصلها من ماء السماء. وقيل أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة: سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، ولا وجه لهذا التخصيص. وقيل المراد به الماء العذب، ولا وجه لذلك أيضاً فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، ومعنى "بقدر" بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرائع والثمار، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك، ومثله قوله سبحانه: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم" ومعنى "فأسكناه في الأرض" جعلناه مستقراً فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها "وإنا على ذهاب به لقادرون" أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى، وفي هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، ومثله قوله: "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين".
ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء فقال 19- " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين "لكم فيها" أي في هذه الجنات "فواكه كثيرة" تتفكهون بها وتتطمعون منها. وقيل المعنى: ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله: فلان يأكل من حرفة كذا، وهو بعيد، واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب، لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك. كذا قال ابن جرير وقيل لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعماً ولذة. قيل المعني بقوله: "لكم فيها فواكه" أن لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنت والنخيل. وقيل: المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه، لأن فيهما أنواعاً مختلفة متفاوتة في الطعم واللون. وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق؟ اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام. واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا؟
وانتصاب شجرة على العطف على جنات، وأجاز الفراء الرفع على تقدير: وثم شجرة، فتكون مرتفعة على الابتداء وخبرها محذوف مقدر قبلها، وهو الظرف المذكور. قال الواحدي: والمفسرون كلهم يقولون: إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون، وخصت بالذكر لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي، وهي التي يخرج الدهن منها، فذكرها الله سبحانه امتناناً منه على عباده بها، ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً وأكثرها بركة، ثم وصف سبحانه هذه الشجرة بأنها 20- "تخرج من طور سيناء" وهو جبل ببيت المقدس، والطور الجبل في كلام العرب، وقيل هو المبارك، وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل كما تقول جبل أحد. وقيل سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده، وقيل هو كل جبل يحمل الثمار. وقرأ الكوفيون "سيناء" بفتح السين، وقرأ الباقون بكسر السين، ولم يصرف لأنه جعل اسماً للبقعة، وزعم الأخفش أنه أعجمي. وقرأ الجمهور "تنبت بالدهن" بفتح المثناة وضم الباء الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم المثناة وكسر الباء الموحدة. والمعنى على القراءة الأولى: أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن، وعلى القراءة الثانية: الباء بمعنى مع، فهي للمصاحبة. قال أبو علي الفارسي: التقدير: تنبت جناحها ومعه الدهن. وقيل الباء زائدة. قاله أبو عبيدة، ومثله قول الشاعر: هن الحرائر لا ربات أحمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور وقال آخر: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقال الفراء والزجاج: إن نبت وأنبت بمعنى، والأصمعي ينكر أنبت، ويرد عليه قول زهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتي إذا أنيت البقل أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج تنبت بضم المثناة وفتح الموحدة. قال الزجاج وابن جني: أن تنبت ومعها الدهن، وقرأ ابن مسعود تخرج بالدهن، وقرأ زر بن حبيش تنبت الدهن بحذف حرف الجر. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان "وصبغ للآكلين" معطوف على الدهن: أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهناً يدهن به. وكونه صبغاً يؤتدم به. وقرأ الجمهور "صبغ" وقرأ قوم صباغ مثل لبس ولباس، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ، وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به.
21- "وإن لكم في الأنعام لعبرة" هذه من جملة النعم التي امتن الله بها عليهم، وقد تقدم تفسير الأنعام في سورة النحل. قال النيسابوري في تفسيره: ولعل القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة، ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر، كما أن الفلك سفائن البحر، وبين سبحانه أنها عبرة، لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال: "نسقيكم مما في بطونها" يعني سبحانه: اللبن المتكون في بطونها المنصب إلى ضروعها، فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ، والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين، وأكبر موعظة للمتعظين. قرئ "نسقيكم" بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام، ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالاً فقال: "ولكم فيها منافع كثيرة" يعني في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها، ثم ذكر منفعة خاصة فقال: "ومنها تأكلون" لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم.
كذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال: "وعليها وعلى الفلك تحملون" أي وعلى الأنعام، فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم، فالمراد وعلى بعض الأنعام، وهي الإبل خاصة، وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة، فالمعنى واضح. ثم لما كانت الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البر ضم إليها ما يكون الركوب عليه في البحر، فقال: "وعلى الفلك تحملون" تميماً للنعمة وتكميلاً للمنة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلالة صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في شعر وظفر فتمكث أربعين يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة. وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدمنا الإشارة إليها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ثم أنشأناه خلقاً آخر" قال: الشعر والأسنان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه "ثم أنشأناه خلقاً آخر" قال: نفخ فيه الروح، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع عن أنس والسدي والضحاك وابن زيد، واختاره ابن جرير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "ثم أنشأناه خلقاً آخر" قال: حين استوى به الشباب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" قال عمر: "فتبارك الله أحسن الخالقين" قال: والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجاباً فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت "عسى ربه إن طلقكن" الآية، ونزلت "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة" إلى قوله: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" فقلت أنا "فتبارك الله أحسن الخالقين". وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "ولقد خلقنا الإنسان" إلى قوله: "خلقاً آخر" فقال معاذ بن جبل "فتبارك الله أحسن الخالقين" فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت "فتبارك الله أحسن الخالقين" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً. قال ابن كثير: وفي خبره هذا نكارة شديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة والله أعلم. وأخرج ابن مردويه والخطيب قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار". سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعلها منافع للناس في أصنام معايشههم، فذلك قوله: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض" فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله: "وإنا على ذهاب به لقادرون" فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال: طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "تنبت بالدهن" قال: هو الزيت يؤكل ويدهن به.
لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح، لأنه أول من صنعه، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال: 23- "ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه" وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه، واللام جواب قسم محذوف "فقال يا قوم اعبدوا الله" أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً كما يستفاد من الآيات الآخرة، وجملة "ما لكم من إله غيره" واقعة موقع التعليل لما قبلها، وارتفاع غيره لكونه وصفاً لإله على المحل، لأنه مبتدأ خبره لكم: أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه، وقرئ بالجر اعتباراً بلفظ إله "أفلا تتقون" أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحق العبادة غيره، وليس لكم إله سواه. وقيل المعنى: أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم.
24- "فقال الملأ الذين كفروا من قومه" أي قال أشراف قومه الذين كفروا به "ما هذا إلا بشر مثلكم" أي من جنسكم في البشرية، لا فرق بينكم وبينه "يريد أن يتفضل عليكم" أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره، ثم صرحوا بأن البشر لا يكون رسولاً فقالوا: "ولو شاء الله لأنزل ملائكة" أي لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملائكة، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم " ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " أي بمثل دعوى هذا المدعي للنبوة من البشر، أو بمثل كلامه، وهو الأمر بعبادة الله وحده أو ما سمعنا ببشر يدعي هذه الدعوى في آبائنا الأولين: أي في الأمم الماضية قبل هذا. وقيل الباء في بهذا زائدة: أي ما سمعنا هذا كائناً في الماضين، قالوا هذا اعتماداً منهم على التقليد واعتصاماً بحبله.
ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت، والبهت الصراح فقالوا: 25- "إن هو إلا رجل به جنة" أي جنون لا يدري ما يقول: "فتربصوا به حتى حين" أي انتظروا به حتى يستبين أمره، بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى، أو حتى يموت فتستريحوا منه. قال الفراء: ليس يريد بالحين هنا وقتاً بعينه إنما هو كقولهم: دعه إلى يوم ما، فلما سمع عليه الصلاة والسلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه.
26- "قال رب انصرني" عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد، والباء في "بما كذبون" للسببية: أي بسبب تكذيبهم إياي.
27- " فأوحينا إليه " عند ذلك أي أرسلنا إليه رسولاً من السماء "أن اصنع الفلك" وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول "بأعيننا" أي متلبساً بحفظنا وكلاءتنا، وقد تقدم بيان هذا في هود. ومعنى "ووحينا" أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها، والفاء في قوله: "فإذا جاء أمرنا" لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب "وفار التنور" معطوف على الجملة التي قبله عطف النسق، وقيل عطف البيان: أي إن مجيء الأمر هو فور التنور: أي تنور آدم الصائر إلى نوح: أي إذا وقع ذلك "فاسلك فيها من كل زوجين اثنين" أي ادخل فيها، يقال سلكه في كذا أدخله، وأسلكته أدخلته. قرأ حفص "من كل" بالتنوين، وقرأ الباقون بالإضافة، ومعنى القراءة الأولى من كل أمة زوجين، ومعنى الثانية من كل زوجين، وهما أمة الذكر والأنثى إثنين، وانتاب "أهلك" بفعل معطوف على فاسلك، لا بالعطف على زوجين، أو على اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى: أي واسلك أهلك "إلا من سبق عليه القول منهم" أي القول بإهلاكهم منهم "ولا تخاطبني في الذين ظلموا" بالدعاء لهم بإنجائهم، وجملة "إنهم مغرقون" تعليل للنهي عن المخاطبة: أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم، ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له.