تفسير السعدي تفسير الصفحة 444 من المصحف


إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 ) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 ) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 ) .
[ لما ذكر تعالى ] أن كل أحد لا يجازى إلا ما عمله، ذكر جزاء الفريقين، فبدأ بجزاء أهل الجنة، وأخبر أنهم في ذلك اليوم ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي: في شغل مفكه للنفس، مُلِذِّ لها، من كل ما تهواه النفوس، وتلذه العيون، ويتمناه المتمنون.
ومن ذلك افتضاض العذارى الجميلات، كما قال: ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) من الحور العين، اللاتي قد جمعن حسن الوجوه والأبدان وحسن الأخلاق. ( فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ ) أي: على السرر المزينة باللباس المزخرف الحسن. ( مُتَّكِئُونَ ) عليها، اتكاء على كمال الراحة والطمأنينة واللذة.
( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) كثيرة، من جميع أنواع الثمار اللذيذة، من عنب وتين ورمان، وغيرها، ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) أي: يطلبون، فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه.
ولهم أيضا ( سَلامٌ ) حاصل لهم ( مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله: ( قَوْلا ) وإذا سلم عليهم الرب الرحيم، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه، وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها، فما ظنك بتحية ملك الملوك، الرب العظيم، الرءوف الرحيم، لأهل دار كرامته، الذي أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا، فلولا أن اللّه تعالى قدر أن لا يموتوا، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور، لحصل ذلك.
فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 ) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 ) .
لما ذكر تعالى جزاء المتقين، ذكر جزاء المجرمين ( و ) أنهم يقال لهم يوم القيامة ( امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) أي: تميزوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، ليوبخهم ويقرعهم على رءوس الأشهاد قبل أن يدخلهم النار، فيقول لهم: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ) أي: آمركم وأوصيكم، على ألسنة رسلي، [ وأقول لكم: ] ( يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) أي: لا تطيعوه؟ وهذا التوبيخ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي، لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له، ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) فحذرتكم منه غاية التحذير، وأنذرتكم عن طاعته، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه، ( و ) أمرتكم ( أَنِ اعْبُدُونِي ) بامتثال أوامري وترك زواجري، ( هَذَا ) أي: عبادتي وطاعتي، ومعصية الشيطان ( صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع إلى هذين الأمرين، أي: فلم تحفظوا عهدي، ولم تعملوا بوصيتي، فواليتم عدوكم، فـ ( أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا ) أي: خلقا كثيرا.
( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) أي: فلا كان لكم عقل يأمركم بموالاة ربكم ووليكم الحق، ويزجركم عن اتخاذ أعدى الأعداء لكم وليا، فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك، فإذا أطعتم الشيطان، وعاديتم الرحمن، وكذبتم بلقائه، ووردتم القيامة دار الجزاء، وحق عليكم القول بالعذاب فـ ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) وتكذبون بها، فانظروا إليها عيانا، فهناك تنزعج منهم القلوب، وتزوغ الأبصار، ويحصل الفزع الأكبر.
ثم يكمل ذلك، بأن يؤمر بهم إلى النار، ويقال لهم: ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) أي: ادخلوها على وجه تصلاكم، ويحيط بكم حرها، ويبلغ منكم كل مبلغ، بسبب كفركم بآيات اللّه، وتكذيبكم لرسل اللّه.
قال الله تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) بأن نجعلهم خرسا فلا يتكلمون، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب. ( وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي: تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه، وينطقها الذي أنطق كل شيء.
( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) بأن نُذْهِبَ أبصارهم، كما طمسنا على نطقهم. ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) أي: فبادروا إليه، لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة، ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمست أبصارهم.
( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) أي: لأذهبنا حركتهم ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا ) إلى الأمام ( وَلا يَرْجِعُونَ ) إلى ورائهم ليبعدوا عن النار. والمعنى: أن هؤلاء الكفار، حقت عليهم كلمة العذاب، ولم يكن بُدٌّ من عقابهم.
وفي ذلك الموطن، ما ثَمَّ إلا النار قد برزت، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط، وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان، الذين يمشون في نورهم، وأما هؤلاء، فليس لهم عند اللّه عهد في النجاة من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه، وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر. المقصود: أنهم لا يعبرونه، فلا تحصل لهم النجاة.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 ) .
يقول تعالى: ( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ) من بني آدم ( نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) أي: يعود إلى الحالة التي ابتدأ حالة الضعف، ضعف العقل، وضعف القوة. ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أن الآدمي ناقص من كل وجه، فيتداركوا قوتهم وعقولهم، فيستعملونها في طاعة ربهم.
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 ) .
ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم، عما رماه به المشركون، من أنه شاعر، وأن الذي جاء به شعر فقال: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أن يكون شاعرا، أي: هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا، لأنه رشيد مهتد، والشعراء غاوون، يتبعهم الغاوون، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له، ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب، جميع المطالب الدينية، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال، وهو يذكر العقول، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح.
( وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: مبين لما يطلب بيانه. ولهذا حذف المعمول، ليدل على أنه مبين لجميع الحق، بأدلته التفصيلية والإجمالية، والباطل وأدلة بطلانه، أنزله اللّه كذلك على رسوله.
( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) أي: حي القلب واعيه، فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل، ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية. ( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) لأنهم قامت عليهم به حجة اللّه، وانقطع احتجاجهم، فلم يبق لهم أدنى عذر وشبهة يُدْلُونَ بها.