تفسير الطبري تفسير الصفحة 444 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 444
445
443
 الآية : 54 -55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فـالْـيَوْمَ يعنـي يوم القـيامة لا تُظْلَـمُ نَفْسٌ شَيْئا كذلك ربنا لا يظلـم نفسا شيئا, فلا يوفـيها جزاء عملها الصالـح, ولا يحمل علـيها وِزْر غيرها, ولكنه يوفـي كل نفس أجر ما عملت من صالـح, ولا يعاقبها إلا بـما اجترمت واكتسبت من شيء وَلا تُـجْزَوْنَ إلاّ ما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ يقول: ولا تكافؤون إلا مكافأة أعمالكم التـي كنتـم تعملونها فـي الدنـيا.
وقوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الشغل الذي وصف الله جلّ ثناؤه أصحاب الـجنة أنهم فـيه يوم القـيامة, فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارَى. ذكر من قال ذلك:
22340ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن حفص بن حميد, عن شَمِر بن عطية, عن شقـيق بن سلـمة, عن عبد الله بن مسعود, فـي قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: شغلهم افتضاض العذارى.
22341ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـيه, عن أبـي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عبـاس إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: افتضاض الأبكار.
حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن عكرمة, عن ابن عبـاس إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُون قال: افتضاض الأبكار.
حدثنـي الـحسن بن زُرَيْق الطّهَوِيّ, قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد, عن أبـيه, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
22342ـ حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصّدائي, قال: حدثنا أبو النضر, عن الأشجعيّ, عن وائل بن داود, عن سعيد بن الـمسيب, فـي قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: فـي افتضاض العذارَى. وقال آخرون: بل عُنِى بذلك: أنهم فـي نعمة. ذكر من قال ذلك:
22343ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الْـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ قال: فـي نعمة.
22344ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا مروان, عن جُوَيبر, عن أبـي سهل, عن الـحسن, فـي قول الله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ... الاَية, قال: شَغلَهم النعيـمُ عما فـيه أهل النار من العذاب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم فـي شغل عما فـيه أهل النار. ذكر من قال ذلك:
22345ـ حدثنا نصر بن علـيّ الـجَهْضَمِيّ, قال: حدثنا أبـي, عن شعبة, عن أبـان بن تغلب, عن إسماعيـل بن أبـي خالد إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ... الاَية, قال: فـي شغل عما يـلقـى أهلُ النار.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال الله جل ثناؤه إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ وهم أهلها فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ بنعم تأتـيهم فـي شغل, وذلك الشغل الذي هم فـيه نعمة, وافتضاض أبكار, ولهو ولذّة, وشغل عما يَـلْقـى أهل النار.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: فـي شُغُلٍ, فقرأت ذلك عامة قرّاء الـمدينة وبعض البصريـين علـى اختلاف عنه: «فِـي شُغْلٍ» بضم الشين وتسكين الغين. وقد رُوي عن أبـي عمرو الضمّ فـي الشين والتسكين فـي الغين, والفتـح فـي الشين والغين جميعا فـي شغل. وقرأ ذلك بعض أهل الـمدينة والبصرة وعامة قرّاء أهل الكوفة فِـي شُغُلٍ بضم الشين والغين.
والصواب فـي ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين, أو بضم الشين وسكون الغين, بأيّ ذلك قرأه القارىء فهو مصيب, لأن ذلك هو القراءة الـمعروفة فـي قرّاء الأمصار مع تقارب معنـيـيهما. وأما قراءته بفتـح الشين والغين, فغير جائزة عندي, لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافها.
واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله: فـاكِهُونَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار فـاكِهُونَ بـالألف. وذُكر عن أبـي جعفر القارىء أنه كان يقرؤه: «فَكِهُونَ» بغير ألف.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأه بـالألف, لأن ذلك هو القراءة الـمعروفة.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: فَرِحون. ذكر من قال ذلك:
22346ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ يقول: فرحون.
وقال آخرون: معناه: عجبون. ذكر من قال ذلك:
22347ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فـاكِهُونَ قال: عجبون.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَكِهُونَ قال: عَجِبون.
واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي ذلك, فقال بعض البصريـين: منهم الفكه الذي يتفكّه. وقال: تقول العرب للرجل الذي يتفكّه بـالطعام أو بـالفـاكهة, أو بأعراض الناس: إن فلانا لفكِه بأعراض الناس, قال: ومن قرأها فـاكِهُونَ جعله كثـير الفواكه صاحب فـاكهة, واستشهد لقوله ذلك ببـيت الـحُطَيئة:
وَدَعَوْتَنِـي وَزَعَمْتَ أنّكَلابنٌ بـالصّيْفِ تامِرْ
أي عنده لبن كثـير, وتـمرٌ كثـير, وكذلك عاسل, ولاحم, وشاحم. وقال بعض الكوفـيـين: ذلك بـمنزلة حاذرون وحذرون, وهذا القول الثانـي أشبه بـالكلـمة.
الآية : 56 -58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ }.
يعنـي تعالـى بقوله: هُمُ أصحاب الـجنة وأزْوَاجُهُمْ من أهل الـجنة فـي الـجنة, كما:
22348ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: هُمْ وأزْوَاجُهُمْ فـي ظِلالٍ قال: حلائلهم فـي ظُلَل.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: «فِـي ظُلَلٍ» بـمعنى: جمع ظلة, كما تُـجمع الْـحُلة حُللاً. وقرأه آخرون: فِـي ظِلالٍ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان: أحدهما أن يكون مُرادا به جمع الظّلَل الذي هو بـمعنى الكِنّ, فـيكون معنى الكلـمة حينئذٍ: هم وأزواجهم فـي كنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنـيا, لأنه لا شمس فـيها. والاَخر: أن يكون مرادا به جمع ظلة, فـيكون وجه جمعها كذلك نظير جمعهم الـحلة فـي الكثرة: الـخِلال, والقُلّة: قِلال.
وقوله: عَلـى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ والأرائك: هي الـحِجال فـيها السُرر والفُرُش: واحدتها أريكة, وكان بعضهم يزعم أن كلّ فِراش فأريكة, ويستشهد لقوله ذلك بقول ذي الرمة:
ت.كأنّـما تُبـاشِرْنَ بـالـمَعزاءِ مَسّ الأَرَائِكِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22349ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حُصَيْن, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, فـي قوله: عَلـى الأَرَائِكِ مُتّكِئِونَ قال: هي السّرُر فـي الـحِجال.
22350ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن حصين, عن مـجاهد, فـي قول الله: عَلـى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ قال: الأرائك: السّرر علـيها الـحِجال.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, قال: حدثنا حصين, عن مـجاهد, فـي قوله: مُتّكِئِينَ عَلـى الأرَائِكِ قال: الأرائك: السّرُر فـي الـحِجال.
حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا حُصَيْن, عن مـجاهد, فـي قوله: عَلـى الأرَائك قال: سُرُر علـيها الـحِجال.
22351ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـيه, قال: زعم مـحمد أن عكرمة قال: الأرائك: السّرُر فـي الـحِجال.
22352ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, قال: سمعت الـحسن, وسأله رجل عن الأرائك قال: هي الـحجال. أهل الـيـمن يقولون: أريكة فلان. وسمعت عكرمة وسئل عنها فقال: هي الـحجال علـى السّرُر.
22353ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة علـى الأرائِكِ مُتّكِئُونَ قال: هي الـحِجال فـيها السرر.
وقوله: لَهُمْ فِـيها فـاكِهَةٌ يقول لهؤلاء الذين ذكرهم تبـارك وتعالـى من أهل الـجنة فـي الـجنة فـاكهة وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ يقول: ولهم فـيها ما يتَـمّنون. وذُكر عن العرب أنها تقول: دع علـيّ ما شئت: أي تـمنّ علـيّ ما شئت.
وقوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ فـي رفع سلامٌ وجهان فـي قول بعض نـحويـيّ الكوفة أحدهما: أن يكون خبرا لـما يدّعون, فـيكون معنى الكلام: ولهم ما يدّعون مسلّـم لهم خالص. وإذا وُجّه معنى الكلام إلـى ذلك كان القول حينئذٍ منصوبـا توكيدا خارجا من السلام, كأنه قـيـل: ولهم فـيها ما يدّعون مسلّـم خالص حقا, كأنه قـيـل: قاله قولاً. والوجه الثانـي: أن يكون قوله: سَلامٌ مرفوعا علـى الـمدح, بـمعنى: هو سلام لهم قولاً من الله. وقد ذُكر أنها فـي قراءة عبد الله: «سَلاما قَوْلاً» علـى أن الـخبر متناه عند قوله: وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ, ثم نصب سلاما علـى التوكيد, بـمعنى: مسلـما قولاً. وكان بعضُ نـحويـيّ البصرة يقول: انتصب قولاً علـى البدل من اللفظ بـالفعل, كأنه قال: أقول ذلك قولاً. قال: ومن نصبها نصبها علـى خبر الـمعرفة علـى قوله: وَلهُمْ فِـيها ما يَدّعُونَ.
والذي هو أولـى بـالصواب علـى ما جاء به الـخبر عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ, أن يكون سَلامٌ خبرا لقوله: وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ فـيكون معنى ذلك: ولهم فـيها ما يدّعون, وذلك هو سلام من الله علـيهم, بـمعنى: تسلـيـم من الله, ويكون سلام ترجمة ما يدّعون, ويكون القول خارجا من قوله: سلام. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب لـما:
22354ـ حَدّثنا به إبراهيـم بن سعيد الـجوهريّ, قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري عن حرملة, عن سلـيـمان بن حميد, قال: سمعت مـحمد بن كعب, يحدّث عمر بن عبد العزيز, قال: إذا فرغ الله من أهل الـجنة وأهل النار, أقبل يـمشي فـي ظُلَل من الغمام والـملائكة, فـيقـف علـى أوّل أهل درجة, فـيسلـم علـيهم, فـيردّون علـيه السلام, وهو فـي القرآن: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ فـيقول: سَلُوا, فـيقولون: ما نسألك وعزّتك وجلالك, لو أنك قسمت بـيننا أرزاق الثّقَلـين لأطعمناهم وسقـيناهم وكسوناهم, فـيقول: سَلُوا, فـيقولون: نسألك رضاك, فـيقول: رضائي أحلّكم دار كرامتـي, فـيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتـى ينتهي, قال: ولو أن امرأة من الـحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوارَيْها الشمس والقمر, فكيف بـالـمُسَوّرة.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا حرملة, عن سلـيـمان بن حميد, قال: سمعت مـحمد بن كعب القرظيّ يحدّث عمر بن عبد العزيز, قال: إذا فرغ الله من أهل الـجنة والنار, أقبل فـي ظُلَل من الغمام والـملائكة, قال: فـيسلـم علـى أهل الـجنة, فـيردُون علـيه السلام, قال القُرظيّ: وهذا فـي كتاب الله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ؟ فـيقول: سَلُونـي, فـيقولون: ماذا نسألك, أي رَبّ؟ قال: بل سلونـي قالوا: نسألك أي ربّ رضاك, قال: رضائي أحلكم دار كرامتـي, قالوا: يا ربّ وما الذي نسألك فوعزّتك وجلالك, وارتفـاع مكانك, لو قسمت علـينا رزق الثقلـين لأطعمناهم, ولأسقـيناهم, ولألبسناهم ولأخدمناهم, لا يُنقصنا ذلك شيئا, قال: إن لديّ مزيدا, قال: فـيفعل الله ذلك بهم فـي درجهم حتـى يستوي فـي مـجلسه, قال: ثم تأتـيهم التـحف من الله تـحملها إلـيهم الـملائكة. ثم ذكر نـحوه.
حدثنا ابن سنان القزاز, قال: حدثنا أبو عبد الرحمن, قال: حدثنا حرملة, قال: حدثنا سلـيـمان بن حميد, أنه سمع مـحمد بن كعب القرظي يحدّث عمر بن عبد العزيز, قال: إذا فرغ الله من أهل الـجنة وأهل النار, أقبل يـمشي فـي ظُلل من الغمام ويقـف, قال: ثم ذكر نـحوه, إلا أنه قال: فـيقولون: فماذا نسألك يا ربّ, فوعزّتك وجلالك وارتفـاع مكانك, لو أنك قسمت علـينا أرزاق الثقلـين, الـجنّ والإنس, لأطعمناهم, ولسقـيناهم, ولأخدمناهم, من غير أن ينتقص ذلك شيئا مـما عندنا, قال: بلـى فسلونـي, قالوا: نسألك رضاك, قال: رضائي أحلّكم دار كرامتـي, فـيفعل هذا بأهل كلّ درجة, حتـى ينتهي إلـى مـجلسه. وسائر الـحديث مثله.
فهذا القول الذي قاله مـحمد بن كعب, ينبىء عن أن «سلام» بـيان عن قوله: ما يَدّعُونَ, وأن القول خارج من السلام. وقوله: مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ يعنـي: رحيـم بهم إذ لـم يعاقبهم بـما سلف لهم من جُرْم فـي الدنـيا.

الآية : 59 -61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ }.
يعنـي بقوله: وَامْتازُوا: تَـميزوا وهي افتعلوا, من ماز يـميز, فعل يفعل منه: امتاز يـمتاز امتـيازا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22355ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَامْتَازوا الـيَوْمَ أيّها الـمُـجْرِمُونَ قال: عُزِلوا عن كلّ خير.
22356ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي, عن إسماعيـل بن رافع, عمن حدثه, عن مـحمد بن كعب القرظيّ, عن أبـي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا كانَ يَوْمُ القِـيامَةِ أمَرَ اللّهُ جَهَنّـمَ فَـيَخْرُجُ مِنْها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِـمٌ, ثُمّ يَقُولُ: ألَـمْ أعْهَدْ إلَـيْكُمْ يا بَنِـي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ... الاَية, إلـى قوله: هَذِهِ جَهَنّـمُ التـي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ وَامْتازُوا الْـيَوْمَ أيّها الـمُـجْرِمُونَ, فـيَتَـمَيّزُ النّاسُ وَيجْثُونَ, وَهِيَ قَوْلُ اللّهِ: وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ... الاَية».
فتأويـل الكلام إذن: وتـميزوا من الـمؤمنـين الـيوم أيها الكافرون بـالله, فإنكم واردون غير موردهم, داخـلون غير مدخـلهم.
وقوله: ألَـمْ أعْهَدْ إلَـيْكُمْ يا بَنِـي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِـينٌ, وفـي الكلام متروك استغنـي بدلالة الكلام علـيه منه, وهو: ثم يقال: ألـم أعهد إلـيكم يا بنـي آدم, يقول: ألـم أوصكم وآمركم فـي الدنـيا أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه فـي معصية الله إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِـينٌ يقول: وأقول لكم: إن الشيطان لكم عدوّ مبـين, قد أبـان لكم عَداوته بـامتناعه من السجود, لأبـيكم آدم, حسدا منه له, علـى ما كان الله أعطاه من الكرامة, وغُروره إياه, حتـى أخرجه وزوجته من الـجنة.
وقوله: وَأنِ اعْبُدُونِـي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ يقول: وألـم أعهد إلـيكم أن اعبدونـي دون كلّ ما سواي من الاَلهة والأنداد, وإياي فأطيعوا, فإن إخلاص عبـادتـي, وإفراد طاعتـي, ومعصية الشيطان, هو الدين الصحيح, والطريق الـمستقـيـم.
الآية : 62 -64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ * هَـَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلَقَدْ أضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِـيرا: ولقد صدّ الشيطان منكم خـلقا كثـيرا عن طاعتـي, وإفرادي بـالألوهة حتـى عبدوه, واتـخذوا من دونـي آلهة يعبدونها, كما:
22357ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَلَقَدْ أضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ قال: خـلقا.
واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة وبعض الكوفـيـين جِبِلاّ بكسر الـجيـم وتشديد اللام, وكان بعض الـمكّيـين وعامة قرّاء الكوفة يقرؤونه: «جُبُلاً» بضم الـجيـم والبـاء وتـخفـيف اللام. وكان بعض قرّاء البصرة يقرؤه: «جُبْلاً» بضم الـجيـم وتسكين البـاء, وكل هذه لغات معروفـات, غير أنـي لا أحبّ القراءة فـي ذلك إلا بإحدى القراءتـين اللتـين إحداهما بكسر الـجيـم وتشديد اللام, والأخرى: ضم الـجيـم والبـاء وتـخفـيف اللام, لأن ذلك هو القراءة التـي علـيها عامة قرّاء الأمصار.
وقوله: أفَلَـمْ تَكُونُوا تَعْقلُونَ يقول: أفلـم تكونوا تعقلون أيها الـمشركون, إذ أطعتـم الشيطان فـي عبـادة غير الله, أنه لا ينبغي لكم أن تطيعوا عدوّكم وعدوّ الله, وتعبدوا غير الله. وقوله: هَذِهِ جَهَنّـم التـي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ يقول: هذه جهنـم التـي كنتـم توعدون بها فـي الدنـيا علـى كفركم بـالله, وتكذيبكم رسله, فكنتـم بها تكذّبون. وقـيـل: إن جهنـم أوّل بـاب من أبواب النار. وقوله: اصْلَوْها الـيَوْمَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ يقول: احترقُوا بها الـيوم ورِدُوها يعنـي بـالـيوم: يوم القـيامة بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ: يقول: بـما كنتـم تَـجْحدونها فـي الدنـيا, وتكذّبون بها.

الآية : 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: الْـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ: الـيوم نطبع علـى أفواه الـمشركين, وذلك يوم القـيامة وَتُكَلّـمُنا أيْدِيهِمْ بـما عملوا فـي الدنـيا من معاصي الله وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ قـيـل: إن الذي ينطق من أرجلهم: أفخاذهم من الرجل الـيُسرى بَـمَا كانُوا يَكْسِبُونَ فـي الدنـيا من الاَثام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22358ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا يونس بن عبـيد, عن حميد بن هلال, قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: يدعى الـمؤمن للـحساب يوم القـيامة, فـيعرض علـيه ربّه عمله فـيـما بـينه وبـينه, فـيعترف فـيقول: نعم أي ربّ عملت عملت عملت, قال: فـيغفر الله لهم ذنوبه, ويستره منها, فما علـى الأرض خـلـيقة ترى من تلك الذنوب شيئا, وتبدو حسناته, فودّ أن الناس كلهم يرونها ويدَعى الكافر والـمنافق للـحساب, فـيعرض علـيه ربه عمله فـيجحده, ويقول: أي ربّ, وعزّتك لقد كتب علـيّ هذا الـملك ما لـم أعمل, فـيقول له الـملك: أما عملت كذا فـي يوم كذا فـي مكان كذا؟ فـيقول: لا وعزّتك أي ربّ, ما عملته, فإذا فعل ذلك ختـم علـى فـيه. قال الأشعري: فإنـي أحسب أوّل ما ينطق منه لفخذه الـيـمنى, ثم تلا: الـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ وتُكَلّـمُنا أيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ بِـمَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
22359ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنـي يحيى, عن أبـي بكر بن عياش, عن الأعمش, عن الشعبـيّ, قال: يقال للرجل يوم القـيامة: عملت كذا وكذا, فـيقول: ما عملت, فـيختـم علـى فـيه, وتنطق جوارحه, فـيقول لـجوارحه: أبعدكنّ الله, ما خاصمت إلا فـيكنّ.
22360ـ حدثنا بشر, قلا: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الْـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ... الاَية, قال: قد كانت خصومات وكلام, فكان هذا آخره, وَخَتَـمَ علـى أفْوَاهِهِمْ.
22361ـ حدثنـي مـحمد بن عوف الطائي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن عياش, عن ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبـيد, عن عقبة بن عامر, أنه سمع النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أوّلُ شَيْءٍ يَتَكَلّـمُ مِنَ الإنْسانِ, يَوْمَ يَخْتِـمُ اللّهُ علـى الأَفْوَاهِ, فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ الـيُسْرَى».
الآية : 66 - 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ فقال بعضهم: معنى ذلك: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى, وأضللناهم عن قصد الـمَـحَجّة. ذكر من قال ذلك:
22362ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ يقول: أضللتهم وأعميتهم عن الهدى.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولو نشاء لتركناهم عميا. ذكر من قال ذلك:
22363ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ قال: لو يشاء لطمس علـى أعينهم فتركهم عميا يتردّدون.
22364ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فأنّى يُبْصِرُونَ يقول: لو شئنا لتركناهم عميا يتردّونه.
وهذا القول الذي ذكرناه عن الـحسن وقتادة أشبه بتأويـل الكلام, لأن الله إنـما تهدّد به قوما كفـارا, فلا وجه لأن يقال: وهم كفـار, لو نشاء لأضللناهم وقد أضلهم, ولكنه قال: لو نشاء لعاقبناهم علـى كفرهم, فطمسنا علـى أعينهم فصيرّناهم عميا لا يبصرون طريقا, ولا يهتدون له والطّمْس علـى العين: هو أن لا يكون بـين جفنـي العين غرّ, وذلك هو الشقّ الذي بـين الـجفنـين, كما تطمس الريح الأثر, يقال: أعمى مطموس وطميس.
وقوله: فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ يقول: فـابتدروا الطريق, كما:
22365ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فـاسْتَبَقَوا الصّرَاطَ قال الطريق.
22366ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ: أي الطريق.
22367ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ قال: الصراط, الطريق.
وقوله: فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول: فأيّ وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق, وقد طمسنا علـى أعينهم, كما:
22368ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَأنّى يُبْصِرُون وقد طمسنا علـى أعينهم.
وقال الذين وجهوا تأويـل قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ إلـى أنه معنـيّ به العَمَى عن الهدى, تأويـل قوله: فَأنّى يُبْصِرُونَ: فأنى يهتدون للـحقّ. ذكر من قال ذلك:
22369ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس فَأتّـى يُبْصِرُونَ يقول: فكيف يهتدون.
22370ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول: لا يبصرون الـحقّ.
وقوله: وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ علـى مَكانَتِهمْ يقول تعالـى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء الـمشركين من أرجلهم فـي منازلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول: فلا يستطيعون أن يـمضوا أمامهم, ولا أن يرجعوا وراءهم.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
22371ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكانَتِهِمْ قال: لو نشاء لأقعدناهُمْ.
22372ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكانَتِهِمْ: أي لأقعدناهم علـى أرجلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ فلـم يستطيعوا أن يتقدّموا ولا يتأخروا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم فـي منازلهم. ذكر من قال ذلك:
22373ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول: ولو نشاء أهلكناهم فـي مساكنهم.
والـمكانة والـمكان بـمعنى واحد. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى قبل.
الآية : 68 -70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَمَنْ نُعَمّرْهُ فنـمُدّ له فـي العمر نُنَكّسْهُ فِـي الـخَـلْقِ نردّه إلـى مثل حاله فـي الصبـا من الهرم والكبر, وذلك هو النكس فـي الـخـلق, فـيصير لا يعلـم شيئا بعد العلـم الذي كان يعلـمه. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22374ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَمَنْ نُعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِـي الـخَـلْقِ يقول: من نَـمُدّ له فـي العمر ننكسه فـي الـخـلق, لكيلا يعلـم بعد علـم شيئا, يعنـي الهَرَم.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: نُنَكّسْهُ فقرأه عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: «نَنْكِسْهُ» بفتـح النون الأولـى وتسكين الثانـية, وقرأته عامة قرّاء الكوفة: نُنَكّسْهُ بضم النون الأولـى وفتـح الثانـية وتشديد الكاف.
والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان فـي قرّاء الأمصار, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن التـي علـيها عامة قرّاء الكوفـيـين أعجبُ إلـيّ, لأن التنكيس من الله فـي الـخـلق إنـما هو حال بعد حال, وشيء بعد شيء, فذلك تأيـيد للتشديد.
وكذلك اختلفوا فـي قراءة قوله: أفَلا يَعْقِلُونَ فقرأته قراء الـمدينة: «أفَلا تَعْقِلُونَ» بـالتاء علـى وجه الـخطاب. وقرأته قرّاء الكوفة بـالـياء علـى الـخبر, وقراءة ذلك بـالـياء أشبه بظاهر التنزيـل, لأن احتـجاج من الله علـى الـمشركين الذين قال فـيهم وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ فإخراج ذلك خبرا علـى نـحو ما خرج قوله: لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ أعجب إلـيّ, وإن كان الاَخر غير مدفوع.
ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: أفَلا يَعْقِلُونَ: أفلا يعقل هؤلاء الـمشركون قُدْرة الله علـى ما يشاء بـمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خـلقه فـيـما شاء وأحبّ من صغر إلـى كبر, ومن تنكيس بعد كبر فـي هرم.
وقوله: وَما عَلّـمْناهُ الشّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ يقول تعالـى ذكره: وما علّـمنا مـحمدا الشعر, وما ينبغي له أن يكون شاعرا. كما:
22375ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما عَلّـمْناهُ الشّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ قال: قـيـل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتـمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كانت أَبغض الـحديث إلـيه, غير أنه كان يتـمثّل ببـيت أخي بنـي قـيس, فـيجعل آخره أوّله, وأوّله آخره, فقال له أبو بكر: إنه لـيس هكذا, فقال نبـيّ الله: «إنّـي وَاللّهِ ما أنا بِشاعِرٍ, وَلا يَنْبَغِي لـي».
وقوله: إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ يقول تعالـى ذكره: ما هو إلا ذكر, يعنـي بقوله: إنْ هُوَ: أي مـحمد إلا ذكر لكم أيها الناس, ذكركم الله بإرساله إياه إلـيكم, وَنّبهكم به علـى حظكم وَقُرآنٌ مُبِـينٌ يقول: وهذا الذي جاءكم به مـحمد قرآن مبـين, يقول: يَبِـين لـمن تدبّره بعقل ولبّ, أنه تنزيـل من الله أنزله إلـى مـحمد, وأنه لـيس بشعر ولا مع كاهن, كما:
22376ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وقُرآنٌ مُبِـينٌ قال: هذا القرآن.
وقوله: لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا يقول: إن مـحمد إلا ذكر لكم لـينذر منكم أيها الناس من كان حيّ القلب, يعقل ما يقال له, ويفهم ما يُبـيّن له, غير ميت الفؤاد بلـيد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22377ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن رجل, عن أبـي رَوْق, عن الضحاك, فـي قوله: لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا قال: من كان عاقلاً.
22378ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا: حيّ القلب, حيّ البصر.
قوله: وَيَحِقّ القَوْلُ علـى الكافِرِينَ يقول: ويحقّ العذاب علـى أهل الكفر بـالله, الـمولّـين عن اتبـاعه, الـمعرضين عما أتاهم به من عند الله. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22379ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيحِقّ القَوْلُ علـى الكافِرِينَ بأعمالهم