سورة يس | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 444 من المصحف
** إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات, فنزلوا في روضات الجنات, أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم. قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: في شغل عما فيه أهل النار من العذاب. وقال مجاهد {في شغل فاكهون} أي في نعيم معجبون أي به, وكذا قال قتادة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فاكهون أي فرحون. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار, وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه {في شغل فاكهون} أي بسماع الأوتار, وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع, وإنما هوافتضاض الأبكار.
وقوله عز وجل: {هم وأزواجهم} قال مجاهد: وحلائلهم, {في ظلال} أي في ظلال الأشجار {على الأرائك متكئون}. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف {الأرائك} هي السرر تحت الحجال. (قلت) نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل: {لهم فيها فاكهة} أي من جميع أنواعها {ولهم ما يدّعون} أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى. حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا)هل مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سلامة, وفاكهة خضرة وخير ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها, قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله, وكذا رواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.
وقوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال ابن جريج: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة, وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما, كقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام}. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً, وفي إسناده نظر, فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عاصم العباداني, حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم, إذ سطع لهم نور, فرفعوا رؤوسهم, فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة, فذلك قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه, فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم». ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار, أقبل في ظلل من الغمام والملائكة, قال: فيسلم على أهل الجنة, فيردون عليه السلام, قال القرظي, وهذا في كتاب الله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فيقول الله عز وجل: سلوني, فيقولون: ماذا نسألك أي رب ؟ قال: بلى سلوني, قالوا: نسألك أي رب رضاك, قال: رضائي أحلكم دار كرامتي, قالوا: يا رب فما الذي نسألك, فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لاينقصنا ذلك شيئاً. قال تعالى إن لدي مزيداً, قال: فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه, قال: ثم تأتيهم التحف من الله عز وجل, تحملهم إليهم الملائكة, ثم ذكر نحوه. وهذا خبر غريب, أورده ابن جرير من طرق, والله أعلم.
** وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم, كقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم} وقال عز وجل: {ويوم تقوم الساعة يومئذن يتفرقون} {يومئذ يصدعون} أي يصيرون صدعين فرقتين {احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.
وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم, الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين, وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم, ولهذا قال تعالى: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان, وأمرتكم بعبادتي, وهذا هو الصراط المستقيم, فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل: {ولقد أضل منكم جبلاً كثير} يقال: جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام, ويقال جبلاً بضم الجيم والباء وتخفيف اللام, ومنهم من يسكن الباء, والمراد بذلك الخلق الكثير, قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة.
وقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له, وعدولكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة, أمر الله تعالى جهنم, فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} فيتميز الناس ويجثون, وهي التي يقول الله عز وجل: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعلمون}».
** هَـَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً {هذه جهنم التي كنتم توعدون} أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} كما قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}. وقوله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ممّ أضحك ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم , قال صلى الله عليه وسلم: «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي, كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر, عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي, عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه, رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل, قال فيه: «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ ـ قال ـ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه» ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله.
ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى» وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال».
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
وقوله تبارك وتعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة: أعميناهم: وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي: يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي: فاستبقوا الصراط, يعني الطريق. وقال ابن زيد: يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فأنى يبصرون} لا يبصرون الحق.
وقوله عز وجل: {ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي: يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فما استطاعوا مضي} أي إلى أمام {ولا يرجعون} إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون.
** وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره, رد إلى الضعف بعد القوة, والعجز بعد النشاط, كما قال تبارك وتعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} وقال عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئ} والمراد من هذا ـ والله أعلم الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال, لا دار دوام واسقرار, ولهذا قال عز وجل: {أفلا يعقلون} أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم, ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة, ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها, وهي الدار الاَخرة.
وقوله تبارك وتعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يقول عز وجل مخبراً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعر {وما ينبغي له} أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته, ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله, يقول تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه «أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فقال: إنما هو عيينة والأقرع, فقال صلى الله عليه وسلم: «الكل سواء» يعني في المعنى, صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب فيها, حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك, والله أعلم, وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول «نفلق هاماً» فيقول الصديق رضي الله عنه متمماً للبيت:
من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما
وهذا لبعض الشعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم: حدثنا مغيرة عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ـ وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضاً من حديث المقدام بن شريح بن هانىء عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أسامة عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: * ويأتك بالأخبار من لم تزود * ثم قال, ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها, هذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة, وهذا المذكور منها أوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع لهبتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه, غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس, فيجعل أوله آخره, وآخره أوله, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهذا لفظه. وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت رضي الله عنها: لا. إلا بيت طرفة.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: «من لم تزود بالأخبار» فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا, فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد, حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير, حدثنا علي بن عمرو الأنصاري, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلمايقال لشيء كان إِلا تحققا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر, ولم يعرف شيخ الحاكم و لا الضرير, وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم, فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا عليناإذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته بقوله أبينا ويمدها, وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً, وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
)شعأنا النبي لا كذبأنا ابن عبد المطلب)
لكن قالوا هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر, بل جرى على اللسان من غير قصد إليه, وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار, فنكبت أصبعه, فقال صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا أصبع دميتوفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي عند قوله تعالى {إلا اللمم} إنشاد:
إن تغفر اللهم تغفر جماًوأي عبد لك ما ألما
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له, فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش, ولا كهانة, ولا مفتعل, ولا سحر يؤثر, كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال, وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً, كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقاً, أو تعلقت تميمة, أو قلت الشعر من قبل نفسي» تفرد به أبو داود
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر ؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة رضي عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء, ويدع ما بين ذلك: وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً» انفرد به من هذا الوجه, وإسناده على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاص بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب, فقال عن أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرض بيت شعر بعد العشاء الاَخرة, لم تقبل له صلاة تلك الليلة,» وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والمراد بذلك نظمه لا إنشاده, والله أعلم, على أن الشعر ما هو مشروع, وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام, كحسان بن ثابت رضي الله عنه, وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين, ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب, كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية, ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره, وكفر قلبه» وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول عقب كل بيت «هيه» يعني يستطعمه, فيزيده من ذلك, وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريده بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحراً, وإن من الشعر حكماً» ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر «وما ينبغي له} أي وما يصلح له {إن هو ذكر وقرآن مبين} أي ما هذا الذي علمناه {إلا ذكر وقرآن مبين} أي بيّن واضح جلي لمن تأمله وتدبره, ولهذا قال تعالى: {لينذر من كان حي} أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض, كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال جل وعلا: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة, كما قال قتادة: حي القلب حي البصر. وقال الضحاك يعني عاقلاً {ويحق القول على الكافرين} أي هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 444
444 : تفسير الصفحة رقم 444 من القرآن الكريم** إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات, فنزلوا في روضات الجنات, أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم. قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: في شغل عما فيه أهل النار من العذاب. وقال مجاهد {في شغل فاكهون} أي في نعيم معجبون أي به, وكذا قال قتادة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فاكهون أي فرحون. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار, وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه {في شغل فاكهون} أي بسماع الأوتار, وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع, وإنما هوافتضاض الأبكار.
وقوله عز وجل: {هم وأزواجهم} قال مجاهد: وحلائلهم, {في ظلال} أي في ظلال الأشجار {على الأرائك متكئون}. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف {الأرائك} هي السرر تحت الحجال. (قلت) نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل: {لهم فيها فاكهة} أي من جميع أنواعها {ولهم ما يدّعون} أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى. حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا)هل مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سلامة, وفاكهة خضرة وخير ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها, قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله, وكذا رواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.
وقوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال ابن جريج: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة, وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما, كقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام}. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً, وفي إسناده نظر, فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عاصم العباداني, حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم, إذ سطع لهم نور, فرفعوا رؤوسهم, فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة, فذلك قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه, فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم». ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار, أقبل في ظلل من الغمام والملائكة, قال: فيسلم على أهل الجنة, فيردون عليه السلام, قال القرظي, وهذا في كتاب الله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فيقول الله عز وجل: سلوني, فيقولون: ماذا نسألك أي رب ؟ قال: بلى سلوني, قالوا: نسألك أي رب رضاك, قال: رضائي أحلكم دار كرامتي, قالوا: يا رب فما الذي نسألك, فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لاينقصنا ذلك شيئاً. قال تعالى إن لدي مزيداً, قال: فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه, قال: ثم تأتيهم التحف من الله عز وجل, تحملهم إليهم الملائكة, ثم ذكر نحوه. وهذا خبر غريب, أورده ابن جرير من طرق, والله أعلم.
** وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم, كقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم} وقال عز وجل: {ويوم تقوم الساعة يومئذن يتفرقون} {يومئذ يصدعون} أي يصيرون صدعين فرقتين {احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.
وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم, الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين, وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم, ولهذا قال تعالى: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان, وأمرتكم بعبادتي, وهذا هو الصراط المستقيم, فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل: {ولقد أضل منكم جبلاً كثير} يقال: جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام, ويقال جبلاً بضم الجيم والباء وتخفيف اللام, ومنهم من يسكن الباء, والمراد بذلك الخلق الكثير, قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة.
وقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له, وعدولكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة, أمر الله تعالى جهنم, فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} فيتميز الناس ويجثون, وهي التي يقول الله عز وجل: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعلمون}».
** هَـَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً {هذه جهنم التي كنتم توعدون} أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} كما قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}. وقوله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ممّ أضحك ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم , قال صلى الله عليه وسلم: «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي, كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر, عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي, عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه, رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل, قال فيه: «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ ـ قال ـ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه» ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله.
ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى» وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال».
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
وقوله تبارك وتعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة: أعميناهم: وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي: يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي: فاستبقوا الصراط, يعني الطريق. وقال ابن زيد: يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فأنى يبصرون} لا يبصرون الحق.
وقوله عز وجل: {ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي: يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فما استطاعوا مضي} أي إلى أمام {ولا يرجعون} إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون.
** وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره, رد إلى الضعف بعد القوة, والعجز بعد النشاط, كما قال تبارك وتعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} وقال عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئ} والمراد من هذا ـ والله أعلم الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال, لا دار دوام واسقرار, ولهذا قال عز وجل: {أفلا يعقلون} أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم, ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة, ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها, وهي الدار الاَخرة.
وقوله تبارك وتعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يقول عز وجل مخبراً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعر {وما ينبغي له} أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته, ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله, يقول تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه «أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فقال: إنما هو عيينة والأقرع, فقال صلى الله عليه وسلم: «الكل سواء» يعني في المعنى, صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب فيها, حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك, والله أعلم, وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول «نفلق هاماً» فيقول الصديق رضي الله عنه متمماً للبيت:
من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما
وهذا لبعض الشعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم: حدثنا مغيرة عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ـ وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضاً من حديث المقدام بن شريح بن هانىء عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أسامة عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: * ويأتك بالأخبار من لم تزود * ثم قال, ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها, هذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة, وهذا المذكور منها أوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع لهبتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه, غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس, فيجعل أوله آخره, وآخره أوله, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهذا لفظه. وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت رضي الله عنها: لا. إلا بيت طرفة.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: «من لم تزود بالأخبار» فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا, فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد, حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير, حدثنا علي بن عمرو الأنصاري, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلمايقال لشيء كان إِلا تحققا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر, ولم يعرف شيخ الحاكم و لا الضرير, وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم, فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا عليناإذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته بقوله أبينا ويمدها, وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً, وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
)شعأنا النبي لا كذبأنا ابن عبد المطلب)
لكن قالوا هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر, بل جرى على اللسان من غير قصد إليه, وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار, فنكبت أصبعه, فقال صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا أصبع دميتوفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي عند قوله تعالى {إلا اللمم} إنشاد:
إن تغفر اللهم تغفر جماًوأي عبد لك ما ألما
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له, فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش, ولا كهانة, ولا مفتعل, ولا سحر يؤثر, كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال, وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً, كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقاً, أو تعلقت تميمة, أو قلت الشعر من قبل نفسي» تفرد به أبو داود
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر ؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة رضي عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء, ويدع ما بين ذلك: وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً» انفرد به من هذا الوجه, وإسناده على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاص بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب, فقال عن أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرض بيت شعر بعد العشاء الاَخرة, لم تقبل له صلاة تلك الليلة,» وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والمراد بذلك نظمه لا إنشاده, والله أعلم, على أن الشعر ما هو مشروع, وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام, كحسان بن ثابت رضي الله عنه, وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين, ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب, كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية, ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره, وكفر قلبه» وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول عقب كل بيت «هيه» يعني يستطعمه, فيزيده من ذلك, وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريده بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحراً, وإن من الشعر حكماً» ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر «وما ينبغي له} أي وما يصلح له {إن هو ذكر وقرآن مبين} أي ما هذا الذي علمناه {إلا ذكر وقرآن مبين} أي بيّن واضح جلي لمن تأمله وتدبره, ولهذا قال تعالى: {لينذر من كان حي} أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض, كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال جل وعلا: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة, كما قال قتادة: حي القلب حي البصر. وقال الضحاك يعني عاقلاً {ويحق القول على الكافرين} أي هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
الصفحة رقم 444 من المصحف تحميل و استماع mp3