تفسير السعدي تفسير الصفحة 559 من المصحف


أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( 6 ) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( 7 ) .
تقدم أن الله نهى عن إخراج المطلقات عن البيوت وهنا أمر بإسكانهن وقدر الإسكان بالمعررف، وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها، بحسب وجد الزوج وعسره، ( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) أي: لا تضاروهن عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من البيوت قبل تمام العدة فتكونوا، أنتم المخرجين لهن، وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج، وأمر بسكناهن، على وجه لا يحصل عليهن ضرر ولا مشقة، وذلك راجع إلى العرف، ( وَإِنْ كُنَّ ) أي: المطلقات ( أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وذلك لأجل الحمل الذي في بطنها، إن كانت بائنًا، ولها ولحملها إن كانت رجعية، ومنتهى النفقة حتى يضعن حملهن فإذا وضعن حملهن، فإما أن يرضعن أولادهن أو لا ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) المسماة لهن، إن كان مسمى، وإلا فأجر المثل، ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) أي: وليأمر كل واحد من الزوجين ومن غيرهما الآخر بالمعروف، وهو كل ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا والآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف، يحصل فيه من الشر والضرر، ما لا يعلمه إلا الله، وفي الائتمار تعاون على البر والتقوى، ومما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة، خصوصًا إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لأجل النفقة عليها وعلى الولد مع الفراق، الذي في الغالب ما يصدر إلا عن بغض، ويتأثر منه البغض شيء كثير .
فكل منهما يؤمر بالمعروف، والمعاشرة الحسنة، وعدم المشاقة والمخاصمة ، وينصح على ذلك.
( وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ ) بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها، فلترضع له أخرى غيرها فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، ووجب عليها، وأجبرت إن امتنعت، وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا على مسمى، وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة الحمل، ليس له خروج منه ، عين تعالى على وليه النفقة، فلما ولد، وكان يمكن أن يتقوت من أمه ومن غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه كان بمنزلة الحمل، وتعينت أمه طريقًا لقوته، ثم قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج فقال: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ )
أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء.
( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ) أي: ضيق عليه ( فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) من الرزق.
( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا ) وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه، وخفف عن المعسر، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، في باب النفقة وغيرها. ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) وهذه بشارة للمعسرين، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ( 8 ) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ( 9 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ( 10 ) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ( 11 ) .
يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية، والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم وقوتهم، لم تنفعهم شيئًا، حين جاءهم الحساب الشديد، والعذاب الأليم، وأن الله أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة.
ومع عذاب الدنيا، فإن الله أعد لهم في الآخرة عذابا شديدًا، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي: يا ذوي العقول، التي تفهم عن الله آياته وعبره، وأن الذي أهلك القرون الماضية بتكذيبهم، أن من بعدهم مثلهم، لا فرق بين الطائفتين.
ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه، الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية، إلى نور العلم والإيمان والطاعة، فمن الناس، من آمن به، ومنهم من لم يؤمن [ به ] ، ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا ) من الواجبات والمستحبات. ( يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) فيها من النعيم المقيم، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) [ أي: ] ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ( 12 ) .
[ ثم ] أخبر [ تعالى ] أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن، وما بينهن، وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون.
[ تم تفسيرها والحمد لله ]