تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 10 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 10

10 : تفسير الصفحة رقم 10 من القرآن الكريم

** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال, نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى, وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم, فذكرت من صلاتهم وعبادتهم, فنزلت {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر} إلى آخر الاَية, وقال السدي {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر وعمل صالح} الاَية, نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم, فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبيا, فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «يا سلمان هم من أهل النار», فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الاَية وفكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كان من تمسك بالتوارة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً وإيمان النصارى أن من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً. قال ابن أبي حاتم, وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا, قلت وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر} الاَية ـ قال ـ فأنزل الله بعد ذلك {ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاَخرة من الخاسرين} فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به, فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة, فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوارة في زمانهم. واليهود من الهوادة وهي المودة, أو التهود وهي التوبة, كقول موسى عليه السلام {إنا هدنا إليك} أي تبنا, فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض, وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب, وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة, فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له, فأصحابه وأهل دينه هم النصارى, سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم, وقد يقال لهم أنصار أيضاً, كما قال عيسى عليه السلام {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة, قاله قتادة وابن جريج, وروي عن ابن عباس أيضاً, والله أعلم. والنصارى جمع نصران, كنشاوى جمع نشوان, وسكارى جمع سكران, ويقال للمرأة نصرانة وقال الشاعر:
* نصرانة لم تحَذّف*

فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين, ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق, وجب عليهم تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر, والانكفاف عما عنه زجر, وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم, وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الاَتية, وأماالصابئون فقد اختلف فيهم, فقال سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد, قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى و ليس لهم دين, وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه, وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء, جابر بن زيد, والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور, ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحم ومناكحتهم, وقال هشيم, عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة, فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس فقال الحكم, ألم أخبركم بذلك, وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحسن, قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة, ويصلون الخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية, قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة, وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة, ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة, وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى, وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوماً, ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفراً, وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان, كانوا بجزيرة الموصل, يقولون: لا إله إلا الله, وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله, قال: ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم, يعني في قول لا إله إلا الله, وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب, يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام, وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن نجيح, أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس, ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم, قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم, وأنها فاعلة, ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء, أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها, قال وهذا القول هو المنسوب إلى الكثرابنين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم وأظهر الأقوال والله أعلم, قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين, وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه, ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابىء, أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذلك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي, والله أعلم.

** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ
يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له, واتباع رسله, وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق, رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه, ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال, كما قال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف, ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد, وهذا ظاهر, في رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال, وما لم ينبت فليس بطور, وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الاَخر فرحمهم الله فكشفه عنهم, فقالوا والله ما سجدة أحب إلى اللهمن سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك, وذلك قول الله تعالى {ورفعنا فوقكم الطور} وقال الحسن في قوله {خذوا ما آتيناكم بقوة} يعني التوارة وقال أبو العالية والربيع بن أنس: بقوة أي بطاعة, وقال مجاهد بقوة بعمل ما فيه, وقال قتادة {خذوا ما آتيناكم بقوة} القوة: الجد وإلا قذفته عليكم, قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا به بقوة, ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم, يعني الجبل, وقال أبو العالية والربيع {واذكروا ما فيه} يقول: اقرؤوا ما في التوارة واعملوا به, وقوله تعالى {ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتهم ونقضتموه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لكنتم من الخاسرين} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والاَخرة.

** وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ
يقول تعالى: {ولقد علمتم} يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم, فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل, فلم تخلص منها يومها ذلك, فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت, فلما فعلوا ذلك, مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة وفكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن, كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} القصة بكمالها, وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيله, وكذا قال قتادة, وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة, وقوله تعالى: {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله {كمثل الحمار يحمل أسفار} ورواه ابن جرير عن المثنى, عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به, وهذا سند جيد عن مجاهد, وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره, قال الله تعالى: {قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} الاَية, وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير وقال شيبان النحوي عن قتادة {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} فصار القوم قردة تعاوى, لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساءً وقال عطاء الخراساني: نودوا يا أهل القرية {كونوا قردة خاسئين} فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم ؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية, حدثنا محمد بن مسلم, يعني الطائفي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً, ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل, وقال الضحاك, عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام, قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام, ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسلوا وقد خلق اللهالقردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه, فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة, وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء, ويحوله كما يشاء, وقال أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله {كونوا قردة خاسئين} قال: يعني أذلة صاغرين, وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه, وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة, قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به, فلما أبو إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه, فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره, وكانوا في قرية بين أيلة والطور, يقال لها: مدين, فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها, وكانوا إذا كان يوم السبت, أقبلت إليهم شرعاً إلى ساحل بحرهم, حتى إذا ذهب السبت, ذهبن فلم يروا حوتاً صغيراً ولا كبيراً, حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعاً, حتى إذا ذهب السبت, ذهبن فكانوا كذلك, حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان, عمد رجل منهم فأخذ حوتاً سراً يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتداً في الساحل فأوثقه تم تركه, حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت, فانطلق به فأكله, حتى إذا كان يوم السبت الاَخر عاد لمثل ذلك, ووجد الناس ريح الحيتان, فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان, ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل, قال: ففعلوا كما فعل, وصنعوا سراً زماناً طويلاً لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق, فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون, فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان, ولم تنه القوم عما صنعوا, {لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ قالوا: معذرة إلى ربكم} بسخطنا أعمالهم {ولعلهم يتقون}, قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك, أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم, قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس شأناً, فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم, فوجدوها مغلقة عليهم, قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم, فأصبحوا فيها قردة, وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, والمرأة وإنها لقردة, والصبي بعينه وإنه لقرد, قال : قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم, قال: وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} الاَية, وروى الضحاك عن ابن عباس نحواً من هذا, وقال السدي في قوله تعالى {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قال: هم أهل أيلة, وهي القرية التي كانت حاضرة البحر, فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت, وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً, فلم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء, فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت, فذلك قوله تعالى {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} فاشتهى بعضهم السمك, فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر, فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة, فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر, فيمكث فيها, فإذا كان يوم الأحد, جاء فأخذه, فجعل الرجل يشوي السمك, فيجد جاره روائحه, فيسأله فيخبره, فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك, فقال لهم علماؤهم: ويحكم, إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم, فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه, قال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل, قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض {لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديد} يقول: لمَ تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعونكم ؟ فقال بعضهم {معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} فلما أبوا, قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة, فقسموا القرية بجدار وففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام, فجعل المسلمون يخرجون من بابهم, والكفار من بابهم, فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطؤوا عليهم, تسور المسلمون عليهم الحائط, فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض, ففتحوا عنهم فذهبوافي الأرض, فذلك قول الله تعالى: {فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} وذلك حين يقول {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} الاَية: فهم القردة (قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة, بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله, من أن مسخهم إنما كان معنوياً لا صورياً, بل الصحيح أنه معنوي وصوري, والله أعلم. وقوله تعالى: {فجعلناها نكال} قال بعضهم: الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية, أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم {نكال} أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون {فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى} وقوله تعالى {لما بين يديها وما خلفه} أي من القرى, قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الاَيات لعلهم يرجعون} منه قوله تعالى {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافه} الاَية, على أحد الأقوال, في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى فالمراد لما بين يديها وما خلفها من القرى, وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها, قال: من بحضرتها من الناس يومئذٍ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي {جعلناها نكالاً لما بين يديه} قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت, وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم, وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم, وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الاَية به, وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان, وهو ما حولها من القرى, كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير, والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفه} أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم, وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية. لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها, لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب, وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها, من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى, جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده, وهو قول الحسن (قلت) وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها, من بحضرتها من القرى, يبلغهم خبرها وما حل بها, كما قال تعالى {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} الاَية, وقال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} الاَية, وقال تعالى {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافه} فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم, وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم, ولهذا قال {وموعظة للمتقين} وقوله تعالى: {وموعظة للمتقين} قال محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس {وموعظة للمتقين} الذين من بعدهم إلى يوم القيامة, وقال الحسن وقتادة {وموعظة للمتقين} بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها, وقال السدي وعطية العوفي {وموعظة للمتقين} قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت) المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله, وما تحيلوا به من الحيل, فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم, كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم, حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا محمد بن عمر, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وهذا إسناد جيد, وأحمد بن محمد بن مسلم هذا, وثقة الحافظ أبو بكر البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح, والله أعلم.

** وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة, وبيان القاتل من هو بسببها, وإحياء الله المقتول, ونصه على من قتله منهم.
ذكر بسط القصة
قال: ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني, قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له, وكان له مال كثير, وكان ابن أخيه وارثه, فقتله ثم احتمله ليلاً, فوضعه على باب رجل منهم, ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضا, وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام, فذكروا ذلك له, فقال {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة, ولكنهم شددوا, فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها, فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها, فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً, فأخذوها بملء جلدها ذهباً, فذبحوها, فضربوه ببعضها, فقام: فقالوا: من قتلك ؟ فقال: هذا ـ لابن أخيه, ثم مال ميتاً, فلم يعطِ من ماله شيئاً, فلم يورث قاتل بعد, ورواه ابن جرير من حديث أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة بنحو من ذلك, والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به, ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره, عن أبي جعفر هو الرازي, عن هشام بن حسان به, وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قال: كان رجل من بني إسرائيل, وكان غنياً, ولم يكن له ولد, وكان له قريب, وكان وارثه, فقتله ليرثه, ثم القاه على مجمع الطريق, وأتى موسى عليه السلام فقال له: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم, وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله, قال: فنادى موسى في الناس, فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا, فلم يكن عندهم علم, فأقبل القاتل على موسى عليه السلام, فقال له: أنت نبي الله, فسل لنا ربك أن يبين لنا, فسأل ربه, فأوحى الله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} فعجبوا من ذلك, فقالوا: {أتتخذنا هزوا ؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال أنه يقول إنها بقرة لا فارض} يعني لا هرمة {ولا بكر} يعني ولا صغيرة {عوان بين ذلك} أي نصف بين البكر والهرمة {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونه} أي صاف لونها {تسر الناظرين} أي تعجب الناظرين {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول} أي لم يذللها العمل {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} يعني وليست بذلول, تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث {مسلمة} يعني مسلمة من العيوب {لا شية فيه} يقول: لا بياض فيها {قالوا الاَن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة, استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها, ولكن شددوا على أنفسهم, فشدد الله عليهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: إنا إن شاء الله لمهتدون, لما هدوا إليها أبداً, فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم, فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها, أضعفت عليهم الثمن, فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة, وأنها سألت أضعاف ثمنها, فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم, فشددتم على أنفسكم, فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها, فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا القتيل, ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله, ثم عاد ميتاً كما كان, فأخذ قاتله, وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام, فشكا إليه, فقتله الله على أسوأ عمله, وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعيد, حدثني أبي, حدثني عمي, حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله في شأن البقرة, وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام كان مكثراً من المال, وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته فقالوا ليت عمنا قد مات فورثنا ماله, وإنه لما تطاول عيهم ألا يموت عمهم, أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله, وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته, وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما, وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين, قيس ما بين القتيل والقريتين, فأيتهما كانت أقرب إليه, غرمت الدية, وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك, وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم, عمدوا إليه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها, فلما أصبح أهل المدينة, جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم, فوالله لتغرمن لنا دية عمنا, قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا, وإنهم عمدوا إلى موسى عليه السلام, فلما أتوه, قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم, وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا, وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه السلام, فقال: قل لهم: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} فتضربوه ببعضها, وقال السدي: {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال, فكانت له ابنة, وكان له ابن أخ محتاج, فخطب إليه ابن أخيه ابنته, فأبى أن يزوجه, فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي ولاَخذن ماله, ولأنكحن ابنته, ولاَكلن ديته, فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل, فقال يا عم, انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها, فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلاً فملا بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى, ثم رجع إلى أهله, فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه, كأنه لا يدري أين هو, فلم يجده, فانطلق نحوه, فإذا بذلك السبط مجتمعين عليه, فأخذهم وقال: قتلتم عمي, فأدوا إليّ ديته, فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه, فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية, فقالوا له: يارسول اللهادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية, فوالله إن ديته علينا لهينة, ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون} فقال لهم موسى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله, وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكن شددوا وتعنتوا على موسى, فشدد الله عليهم, فقالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} والفارض: الهرمة التي لا تولد, والبكر التي لم تلد إلا ولداً واحداً, والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها {فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونه} قال: نقي لونها {تسر الناظرين} قال: تعجب الناظرين {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيه} من بياض ولا سواد ولا حمرة {قالوا الاَن جئت بالحق} فطلبوها فلم يقدروا عليها, وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه, وإن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبيعه, وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح, فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً ؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستقيظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفاً, قال الاَخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً, فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً, وزاد الاَخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف, فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبداً, وأبى أن يوقظ أباه, فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة, فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة, وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة, فأبى, فأعطوه اثنتين فأبى, فزادوه حتى بلغوا عشراً, فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك, فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام, فقالوا: يا نبي الله, إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمناً, فقال له موسى: أعطهم بقرتك, فقال يا رسول الله, أنا أحق بمالي, فقال: صدقت, وقال للقوم: ارضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهباً, فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً, فباعهم إياها وأخذ ثمنها, فذبحوها, قال: اضربوه ببعضها, فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين, فعاش, فسألوه: من قتلك ؟ فقال لهم: ابن أخي, قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه, وقال سنيد: حدثنا حجاج هو ابن محمد, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ـ دخل حديث بعضهم في حديث بعض ـ, قالوا: إن سبطاً من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس, بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحداً منهم خارجاً إلا أدخلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف, فإذا لم يرَ شيئاً فتح المدينة, فكانوا مع الناس حتى يمسوا, قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير, ولم يكن له وارث غير أخيه, فطال عليه حياته, فقتله ليرثه, ثم حمله فوضعه على باب المدينة, ثم كمن في مكان هو وأصحابه, قال: فأشرف رئيس المدينة فنظر, فلم يرَ شيئاً ففتح الباب, فلما رأى القتيل رد الباب, فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب, وكان موسى لما رأى القتل كثيراً في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض, فأتوا موسى, فذكروا له شأنهم, قالوا: يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب, قال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور, وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس, والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً, فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم, فيها اختلاف ما, والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل, وهي مما يجوز نقلها, ولكن لا تصدق ولا تكذب, فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا, والله أعلم.