تفسير الطبري تفسير الصفحة 10 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 10
011
009
 الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قال أبو جعفر: أما الذين آمنوا فهم الـمصدّقون رسول الله فـيـما أتاهم به من الـحقّ من عند الله, وإيـمانهم بذلك: تصديقهم به علـى ما قد بـيناه فـيـما مضى من كتابنا هذا. وأما الذين هادوا, فهم الـيهود, ومعنى هادوا: تابوا, يقال منه: هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً. وقـيـل: إنـما سميت الـيهود يهود من أجل قولهم: إنا هُدْنا إلَـيْكَ.
799ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاح, عن ابن جريج, قال: إنـما سميت الـيهود من أجل أنهم قالوا: إنّا هُدْنا إلَـيْكَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالنّصَارَى.
قال أبو جعفر: والنصارى جمع, واحدهم نَصْران, كما واحد سَكارى سكران, وواحد النّشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده علـى فعلان, فإن جمعه علـى فعالـى إلا أن الـمستفـيض من كلام العرب فـي واحد النصارى نصرانـيّ. وقد حُكي عنهم سماعا «نَصْرَان» بطرح الـياء, ومنه قول الشاعر:
تَرَاهُ إذَا زَارَ العَشِيّ مُـحَنّفـاويُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
وسمع منهم فـي الأنثى نصرانة, قال الشاعر:
فكِلْتاهُما خَرّتْ وأسْجَدَ رأسُهاكما سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لـمْ تَـحَنّفِ
يقال: أسجد: إذا مال. وقد سمع فـي جمعهم أنصار بـمعنى النصارى, قال الشاعر:
لَـمّا رأيْتُ نَبَطا أنْصَارَاشَمّرْتُ عَنْ رُكْبَتِـي الإزارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِن النّصَارَى جارَا
وهذه الأبـيات التـي ذكرتها تدل علـى أنهم سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بـينهم. وقد قـيـل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها «ناصرة».
800ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: النصارى إنـما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة.
ويقول آخرون: لقوله: مَنْ أنْصارِي إلـى اللّهِ.
وقد ذكر عن ابن عبـاس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول: إنـما سميت النصارى نصارى, لأن قرية عيسى ابن مريـم كانت تسمى ناصرة, وكان أصحابه يسمون الناصريـين, وكان يقال لعيسى: الناصري.
801ـ حدثت بذلك عن هشام بن مـحمد, عن أبـيه, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس.
802ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: إنـما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريـم, فهو اسم تسموا به ولـم يؤمروا به.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: الّذِين قالُوا إنا نَصَارَى قال: تسموا بقرية يقال لها ناصرة, كان عيسى ابن مريـم ينزلها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: والصّابِئِينَ قال أبو جعفر: والصابئون جمع صابىء, وهو الـمستـحدث سوى دينه دينا, كالـمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان علـيه إلـى آخر غيره تسميه العرب صابئا, يقال منه: صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً, ويقال: صبأت النـجوم: إذا طلعت, وصبأ علـينا فلان موضع كذا وكذا, يعنـي به طلع.
واختلف أهل التأويـل فـيـمن يـلزمه هذا الاسم من أهل الـملل. فقال بعضهم: يـلزم ذلك كل من خرج من دين إلـى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم. ذكر من قال ذلك:
803ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: الصّابِئُونَ لـيسوا بـيهود ولا نصارى ولا دين لهم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الـحجاج بن أرطاة, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد, مثله.
804ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حجام, عن عنبسة, عن الـحجاج, عن مـجاهد, قال: الصابئون بـين الـمـجوس والـيهود لا تؤكل ذبـائحهم ولا تنكح نساؤهم.
805ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن حجاج, عن قتادة, عن الـحسن مثل ذلك.
806ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح: الصابئين بـين الـيهود والـمـجوس لا دين لهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: الصابئين بـين الـمـجوس والـيهود, لا دين لهم.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: «الصابئين» زعموا أنها قبـيـلة من نـحو السواد لـيسوا بـمـجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك, وقد قال الـمشركون للنبـي صلى الله عليه وسلم: قد صبأ.
807ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: الصّابِئُون قال: الصابئون: دين من الأديان, كانوا بجزيرة الـموصل يقولون: «لا إلَه إلاّ الله», ولـيس لهم عمل ولا كتاب ولا نبـيّ إلا قول لا إلَه إلاّ الله. قال: ولـم يؤمنوا برسول الله, فمن أجل ذلك كان الـمشركون يقولون للنبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم.
وقال آخرون: هم قوم يعبدون الـملائكة, ويصلون إلـى القبلة. ذكر من قال ذلك:
808ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, عن الـحسن, قال: حدثنـي زياد: أن الصابئين يصلون إلـى القبلة ويصلون الـخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الـجزية. قال: فخُبّر بعد أنهم يعبدون الـملائكة.
809ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: والصّابِئِين قال: الصابئون قوم يعبدون الـملائكة, ويصلون إلـى القبلة, ويقرؤن الزبور.
810ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور.
قال أبو جعفر الرازي: وبلغنـي أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الـملائكة, ويقرءون الزبور, ويصلون إلـى القبلة.
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
811ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن سفـيان, قال: سئل السديّ عن الصابئين فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مَنْ آمَنَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وعمِل صَالِـحا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهمْ.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: مَنْ آمَنَ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ: من صدق وأقرّ بـالبعث بعد الـمـمات يوم القـيامة وعمل صالـحا فأطاع الله, فلهم أجرهم عند ربهم, يعنـي بقوله: فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ فلهم ثواب عملهم الصالـح عند ربهم.
فإن قال لنا قائل: فأين تـمام قوله: إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين؟ قـيـل: تـمامه جملة قوله: مَنْ آمَنَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ لأن معناه: من آمن منهم بـالله والـيوم الاَخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام علـيه استغناء بـما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟ قـيـل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بـالله والـيوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن الـمؤمن؟ قـيـل: لـيس الـمعنى فـي الـمؤمن الـمعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلـى دين كانتقال الـيهودي والنصرانـي إلـى الإيـمان, وإن كان قد قـيـل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب علـى إيـمانه بعيسى, وبـما جاء به, حتـى أدرك مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فآمن به وصدّقه, فقـيـل لأولئك الذين كانوا مؤمنـين بعيسى وبـما جاء به إذ أدركوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بـمـحمد وبـما جاء به, ولكن معنى إيـمان الـمؤمن فـي هذا الـموضع ثبـاته علـى إيـمانه وتركه تبديـله.
وأما إيـمان الـيهود والنصارى والصابئين, فـالتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به, فمن يؤمن منهم بـمـحمد, وبـما جاء به والـيوم الاَخر, ويعمل صالـحا, فلـم يبدّل ولـم يغير, حتـى توفـي علـى ذلك, فله ثواب عمله وأجره عند ربه, كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال: فلهم أجرهم عند ربهم, وإنـما لفظ من لفظ واحد, والفعل معه موحد؟ قـيـل: «مَنْ» وإن كان الذي يـلـيه من الفعل موحدا, فإن له معنى الواحد والاثنـين والـجمع والتذكير والتأنـيث, لأنه فـي كل هذه الأحوال علـى هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير, فـالعرب توحد معه الفعل وإن كان فـي معنى جمع للفظه, وتـجمع أخرى معه الفعل لـمعناه, كما قال جل ثناؤه: ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَـمِعُونَ إلَـيْكَ أفأنْتَ تُسْمع الصّمّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُون ومِنهم مَنْ يَنْظُرُ إلَـيْكَ أفأنْتَ تَهْدِي العُمْي وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فجمع مرة مع من الفعل لـمعناه, ووحد أخرى معه الفعل لأنه فـي لفظ الواحد, كما قال الشاعر:
ألِـمّا بسَلْـمَى عَنْكما إنْ عَرَضْتُـماوَقُولا لَهَا عُوجي علـى مَنْ تَـخَـلّفُوا
فقال: تـخـلفوا, وجعل «من» بـمنزلة الذين. وقال الفرزدق:
تَعالَ فإنْ عاهَدْتَنِـي لا تـخُونُنِـينَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبـانِ
فثنى يصطحبـان لـمعنى «من». فكذلك قوله: مَنْ آمَنَ بـاللّهِ والـيَوْمِ الاَخِرِ فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ ربّهِمْ وحد آمن وعمل صالـحا للفظ من, وجمع ذكرهم فـي قوله: فَلَهُمْ أجْرُهُمْ لـمعناه, لأنه فـي معنى جمع.
وأما قوله: ولا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون فإنه يعنـي به جل ذكره: ولا خوف علـيهم فـيـما قدموا علـيه من أهوال القـيامة, ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم من الدنـيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيـم الـمقـيـم عنده.
ذكر من قال عُنِـي بقوله: مَنْ آمَنَ بـاللّهِ: مؤمنوا أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
812ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السديّ: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هادُوا الآية, قال: نزلت هذه الآية فـي أصحاب سلـمان الفـارسي, وكان سلـمان من جُنْد يْسابور, وكان من أشرافهم, وكان ابن الـملك صديقا له مواخيا, لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه, وكانا يركبـان إلـى الصيد جميعا. فبـينـما هما فـي الصيد إذ رفع لهما بـيت من خبَـاء, فأتـياه فإذا هما فـيه برجل بـين يديه مصحف يقرأ فـيه وهو يبكي, فسألاه ما هذا, فقال: الذي يريد أن يعلـم هذا لا يقـف موقـفكما, فإن كنتـما تريدان أن تعلـما ما فـيه فـانزلا حتـى أعلـمكما, فنزلا إلـيه, فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله, أمر فـيه بطاعته, ونهى عن معصيته, فـيه: أن لا تزنـي, ولا تسرق, ولا تأخذ أموال الناس بـالبـاطل. فقصّ علـيهما ما فـيه, وهو الإنـجيـل الذي أنزله الله علـى عيسى. فوقع فـي قلوبهما وتابعاه فأسلـما, وقال لهما: إن ذبـيحة قومكما علـيكما حرام, فلـم يزالا معه كذلك يتعلـمان منه, حتـى كان عيد للـملك, فجعل طعاما, ثم جمع الناس والأشراف, وأرسل إلـى ابن الـملك فدعاه إلـى صنـيعه لـيأكل مع الناس, فأبى الفتـى وقال: إنـي عنك مشغول, فكل أنت وأصحابك, فلـما أكثر علـيه من الرسل, أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم, فبعث الـملك إلـى ابنه, فدعاه وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبـائحكم, إنكم كفـار لـيس تـحلّ ذبـائحكم, فقال له الـملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك, فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابنـي؟ قال: صدق ابنك, قال له: لولا أن الدم فـينا عظيـم لقتلتك, ولكن اخرج من أرضنا فأجّله أجلاً. فقال سلـمان: فقمنا نبكي علـيه, فقال لهما: إن كنتـما صادقـين, فإنا فـي بـيعة بـالـموصل مع ستـين رجلاً نعبد الله فـيها, فأتونا فـيها. فخرج الراهب, وبقـي سلـمان وابن الـملك فجعل يقول لابن الـملك: انطلق بنا, وابن الـملك يقول: نعم, وجعل ابن الـملك يبـيع متاعه يريد الـجهاز. فلـما أبطأ علـى سلـمان, خرج سلـمان حتـى أتاهم, فنزل علـى صاحبه وهو ربّ البـيعة, وكان أهل تلك البـيعة من أفضل الرهبـان, فكان سلـمان معهم يجتهد فـي العبـادة, ويتعب نفسه, فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبـادة ما لا تطيق, وأنا خائف أن تفتر وتعجز, فـارفق بنفسك وخفف علـيها فقال له سلـمان: أرأيت الذي تأمرنـي به أهو أفضل, أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع؟ قال: فخـلّ عنـي. ثم إن صاحب البـيعة دعاه فقال: أتعلـم أن هذه البـيعة لـي, وأنا أحقّ الناس بها, ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت؟ ولكنـي رجل أضعف عن عبـادة هؤلاء, وأنا أريد أن أتـحوّل من هذه البـيعة إلـى بـيعة أخرى هم أهون عبـادة من هؤلاء, فإن شئت أن تقـيـم ههنا فأقم, وإن شئت أن تنطلق معي فـانطلق. قال له سلـمان: أيّ البـيعتـين أفضل أهلاً؟ قال: هذه. قال سلـمان: فأنا أكون فـي هذه. فأقام سلـمان بها وأوصى صاحب البـيعة عالـم البـيعة بسلـمان, فكان سلـمان يتعبد معهم, ثم إن الشيخ العالـم أراد أن يأتـي بـيت الـمقدس, فقال لسلـمان: إن أردت أن تنطلق معي فـانطلق, وإن شئت أن تقـيـم فأقم. فقال له سلـمان: أيهما أفضل أنطلق معك أم أقـيـم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فـانطلق معه فمرّوا بـمقعد علـى ظهر الطريق ملقـى, فلـما رآهما نادى: يا سيد الرهبـان ارحمنـي يرحمك الله, فلـم يكلـمه, ولـم ينظر إلـيه, وانطلقا حتـى أتـيا بـيت الـمقدس, فقال الشيخ لسلـمان: اخرج فـاطلب العلـم فإنه يحضر هذا الـمسجد علـماء أهل الأرض. فخرج سلـمان يسمع منهم, فرجع يوما حزينا, فقال له الشيخ: مالك يا سلـمان؟ قال: أرى الـخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبـياء وأتبـاعهم, فقال له الشيخ: يا سلـمان لا تـحزن, فإنه قد بقـي نبـيّ لـيس من نبـيّ بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي يخرج فـيه, ولا أرانـي أدركه, وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه, وهو يخرج فـي أرض العرب, فإن أدركته فآمن به واتبعه فقال له سلـمان: فأخبرنـي عن علامته بشيء. قال: نعم, هو مختوم فـي ظهره بخاتـم النبوّة, وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتـى بلغا مكان الـمقعد, فناداهما فقال: يا سيد الرهبـان ارحمنـي يرحمك الله, فعطف إلـيه حماره, فأخذ بـيده فرفعه, فضرب به الأرض ودعا له, وقال: قم بإذن الله, فقام صحيحا يشتدّ, فجعل سلـمان يتعجب وهو ينظر إلـيه يشتدّ. وسار الراهب فتغيب عن سلـمان ولا يعلـم سلـمان. ثم إن سلـمان فزع فطلب الراهب, فلقـيه رجلان من العرب من كلب فسألهما: هل رأيتـما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته, قال: نعم راعي الصّرْمة هذا, فحمله فـانطلق به إلـى الـمدينة. قال سلـمان: فأصابنـي من الـحزن شيء لـم يصبنـي مثله قط. فـاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى علـيها هو وغلام لها يتراوحان الغنـم هذا يوما وهذا يوما, فكان سلـمان يجمع الدراهم ينتظر خروج مـحمد صلى الله عليه وسلم. فبـينا هو يوما يرعى, إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه, فقال: أشعرت أنه قد قدم الـيوم الـمدينة رجل يزعم أنه نبـيّ؟ فقال له سلـمان: أقم فـي الغنـم حتـى آتـيك. فهبط سلـمان إلـى الـمدينة, فنظر إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم ودار حوله, فلـما رآه النبـي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد, فأرسل ثوبه, حتـى خرج خاتـمه, فلـما رآه أتاه وكلـمه, ثم انطلق, فـاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا, ثم أتاه به, فقال: «ما هذا؟» قال سلـمان: هذه صدقة قال: «لا حاجة لـي بها فأخْرِجْها فلـيأْكُلْها الـمسلـمون». ثم انطلق فـاشترى بدينار آخر خبزا ولـحما, فأتـى به النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «ما هذا؟» قال: هذه هدية, قال: «فـاقْعُدْ», فقعد فأكلا جميعا منها. فبـينا هو يحدّثه إذ ذكر أصحابه, فأخبره خبرهم, فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبـيا فلـما فرغ سلـمان من ثنائه علـيهم قال له نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «يا سَلْـمانُ هُمْ مِنْ أهْلِ النّارِ». فـاشتدّ ذلك علـى سلـمان, وقد كان قال له سلـمان: لو أدركوك صدّقوك واتبعوك, فأنزل الله هذه الآية: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ.
فكان إيـمان الـيهود أنه من تـمسك بـالتوراة وسنة موسى حتـى جاء عيسى, فلـما جاء عيسى كان من تـمسك بـالتوراة وأخذ بسنة موسى فلـم يدعها ولـم يتبع عيسى كان هالكا. وإيـمان النصارى أنه من تـمسك بـالإنـجيـل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولاً منه, حتـى جاء مـحمد صلى الله عليه وسلم, فمن لـم يتبع مـحمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان علـيه من سنة عيسى والإنـجيـل كان هالكا.
813ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا الآية. قال سلـمان الفـارسي للنبـي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم, قال: لـم يـموتوا علـى الإسلام. قال سلـمان: فأظلـمت علـيّ الأرض. وذكر اجتهادهم, فنزلت هذه الآية, فدعا سلـمان فقال: «نزلت هذه الآية فـي أصحابك». ثم قال النبـي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ علـى دِينِ عِيسَى ومات علـى الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِـي فَهُوَ علـى خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِـي الـيَوْمَ وَلَـمْ يُؤْمِنْ بِـي فَقَدْ هَلَكَ».
وقال ابن عبـاس بـما:
814ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ إلـى قوله: ولا هُمْ يَحْزَنُونَ. فأنزل الله تعالـى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ مِنَ الـخَاسِرِينَ. وهذا الـخبر يدلّ علـى أن ابن عبـاس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالـحا من الـيهود والنصارى والصابئين علـى عمله فـي الاَخرة الـجنة, ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.
فتأويـل الآية إذا علـى ما ذكرنا عن مـجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة, والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من الـيهود والنصارى والصابئين بـالله والـيوم الاَخر, فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ علـيهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ.
والذي قلنا من التأويـل الأول أشبه بظاهر التنزيـل, لأن الله جل ثناؤه لـم يخصص بـالأجر علـى العمل الصالـح مع الإيـمان بعض خـلقه دون بعض منهم, والـخبر بقوله: مَنْ آمَنَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ عن جميع ما ذكر فـي أول الآية.
الآية :63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }
قال أبو جعفر: الـميثاق: الـمفعال من الوثـيقة إما بـيـمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.
ويعنـي بقوله: وَأذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ الـميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم فـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا الاَيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الـميثاق علـيهم فـيـما ذكره ابن زيد ما:
815ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: لـما رجع موسى من عند ربه بـالألواح قال لقومه بنـي إسرائيـل: إن هذه الألواح فـيها كتاب الله, وأمره الذي أمركم به, ونهيه الذي نهاكم عنه, فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتـى نرى الله جهرة حتـى يطلع الله علـينا فـيقول: هذا كتابـي فخذوه فما له لا يكلـمنا كما كلـمك أنت يا موسى فـيقول: هذا كتابـي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم, فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم, فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا: لا, قال: أيّ شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيـينا, قال: خذوا كتاب الله قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الـجبل فوقهم, فقـيـل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم, هذا الطور, قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه علـيكم قال: فأخذوه بـالـميثاق. وقرأ قول الله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدونَ إلاّ اللّهَ وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا حتـى بلغ: وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ قال: ولو كانوا أخذوه أوّل مرّة لأخذوه بغير ميثاق.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ.
قال أبو جعفر: وأما الطور فإنه الـجبل فـي كلام العرب, ومنه قول العجاج:
دَانَى جنَاحَيْهِ مِنَ الطّورِ فَمَرّتَقَضّيَ البـازِي إذا البـازِي كَسَرْ
وقـيـل إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الـجبل الذي ناجى الله علـيه موسى. وقـيـل: إنه من الـجبـال ما أنبت دون ما لـم ينبت. ذكر من قال: هو الـجبل كائنا ما كان.
816ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا البـاب سجدا ويقولوا حطة وطؤطىء لهم البـاب لـيسجدوا, فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أدبـارهم, وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الـجبل يقول: أخرج أصل الـجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة, والطور بـالسريانـية: الـجبل تـخويفـا أو خوفـا, شك أبو عاصم فدخـلوا سُجّدا علـى خوف وأعينهم إلـى الـجبل, وهو الـجبل الذي تـجلـى له ربه.
817ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: رفع الـجبل فوقهم كالسحابة, فقـيـل لهم: لتؤمننّ أو لـيقعنّ علـيكم, فآمنوا. والـجبل بـالسريانـية: الطور.
818ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ قال: الطور: الـجبل, كانوا بأصله فرفع علـيهم فوق رءوسهم, فقال: لتأخذُنّ أمري أو لأرمينكم به.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ قال: الطور: الـجبل اقتلعه الله فرفعه فوقهم, فقال: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ فأقرّوا بذلك.
819ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر عن الربـيع, عن أبـي العالـية: ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور قال: رفع فوقهم الـجبل يخوّفهم به.
820ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـيّ, عن النضر, عن عكرمة, قال: الطور: الـجبل.
821ـ وحدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: لـما قال الله لهم: ادْخُـلُوا البـاب سُجدا وقُولُوا حِطّة فأبوا أن يسجدوا أمر الله الـجبل أن يقع علـيهم, فنظروا إلـيه وقد غشيهم, فسقطوا سجدا علـى شقّ, ونظروا بـالشق الاَخر. فرحمهم الله, فكشفه عنهم. فذلك قوله: وإذْ نَتَقْنَا الـجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّة وقوله: ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور.
822ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الـجبل بـالسريانـية: الطور.
وقال آخرون: الطور: اسم للـجبل الذي ناجى الله موسى علـيه. ذكر من قال ذلك:
823ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس الطور: الـجبل الذي أنزلت علـيه التوراة, يعنـي علـى موسى, وكانت بنو إسرائيـل أسفل منه.
قال ابن جريج: وقال لـي عطاء: رفع الـجبل علـى بنـي إسرائيـل فقال: لتؤمننّ به أو لـيقعن علـيكم, فذلك قوله: كأنّهُ ظُلّة.
وقال آخرون: الطور من الـجبـال: ما أنبت خاصة. ذكر من قال ذلك:
824ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: الطّورَ قال: الطور من الـجبـال: ما أنبت, وما لـم ينبت فلـيس بطور.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بقُوّةٍ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربـية فـي تأويـل ذلك, فقال بعض نـحويـي أهل البصرة: هو مـما استغنـي بدلالة الظاهر الـمذكور عما ترك ذكره له, وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور وقلنا لكم خذوا ما آتـيناكم بقوة, وإلا قذفناه علـيكم.
وقال بعض نـحويـي أهل الكوفة: أخذ الـميثاق قول فلا حاجة بـالكلام إلـى إضمار قول فـيه, فـيكون من كلامين غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بـمعنى القول أن يكون معه أن كما قال الله جل ثناؤه: إنّا أرْسَلْنا نُوحا إلـى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ قال: ويجوز أن تـحذف أن.
والصواب فـي ذلك عندنا أن كل كلام نطق به مفهوم به معنى ما أريد ففـيه الكفـاية من غيره, ويعنـي بقوله: خُذُوا ما آتَـيْناكُمْ: ما أمرناكم به فـي التوراة, وأصل الإيتاء: الإعطاء. ويعنـي بقوله: بِقُوّةٍ بجدّ فـي تأدية ما أمركم فـيه وافترض علـيكم. كما:
825ـ حدثت عن إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا ابن عيـينة, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: تعملوا بـما فـيه.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
826ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: خُذُوا مَا آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: بطاعة.
827ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: القوّة: الـجدّ, وإلا قذفته علـيكم. قال: فأقرّوا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوّة.
828ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بِقُوةً: يعنـي بجدّ واجتهاد.
829ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد وسألته عن قول الله: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحقّ.
فتأويـل الآية إذا: خذوا ما افترضناه علـيكم فـي كتابنا من الفرائض فـاقبلوه واعملوا بـاجتهاد منكم فـي أدائه من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إيّاه بقوّة بجدّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاذْكُرُوا ما فِـيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ.
قال أبو جعفر: يعنـي: واذكروا ما فـيـما آتـيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد وترغيب وترهيب, فـاتلوه واعتبروا به وتَدبّرُوه إذا فعلتـم ذلك كي تتقوا وتـخافوا عقابـي بإصراركم علـى ضلالكم فتنتهوا إلـى طاعتـي وتنزّعوا عما أنتـم علـيه من معصيتـي. كما:
830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة عن ابن عبـاس: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: تنزعون عما أنتـم علـيه.
والذي آتاهم الله هو التوراة. كما:
831ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَاذْكُرُوا ما فِـيهِ يقول: اذكروا ما فـي التوراة.
832ـ كما حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: اذْكُرُوا ما فِـيهِ يقول: أمروا بـما فـي التوراة.
وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله: وَذْكُرُوا ما فِـيهِ قال: اعملوا بـما فـيه طاعةٍ لله وصدق, قال: وقال اذكروا ما فـيه لا تنسوه ولا تُغفلوه.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ }
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ ثم أعرضتـم. وإنـما هو «تفعّلتـم» من قولهم: ولانـي فلان دبره: إذا استدبر عنه وخـلفه خـلف ظهره, ثم يستعمل ذلك فـي كل تارك طاعة أمر بها عزّ وجل معرض بوجهه, يقال: قد تولـى فلان عن طاعة فلان, وتولـى عن مواصلته. ومنه قول الله جل ثناؤه: فَلَـمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بخِـلُوا بِهِ وَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون يعنـي بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِـحِينَ ونبذوا ذلك وراء ظهورهم, ومن شأن العرب استعارة الكلـمة ووضعها مكان نظيرها, كما قال أبو ذؤيب الهذلـي:
فَلَـيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يا أُمّ مالِكٍولَكِنْ أحاطَتْ بـالرّقابِ السّلاسِلُ
وَعادَ الفَتَـى كالكَهْلِ لَـيْسَ بقائِلٍسِوَى الـحَقّ شَيْئا واسْتَرَاح العَواذِلُ
يعنـي بقوله: «أحاطت بـالرقاب السلاسل» أن الإسلام صار فـي منعه إيانا ما كنا نأتـيه فـي الـجاهلـية مـما حرّمه الله علـينا فـي الإسلام بـمنزلة السلاسل الـمـحيطة برقابنا التـي تـحول بـين من كانت فـي رقبته مع الغلّ الذي فـي يده وبـين ما حاول أن يتناوله. ونظائر ذلك فـي كلام العرب أكثر من أن تـحصى, فكذلك قوله: ثُمّ تَولـيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ذلك يعنـي بذلك أنكم تركتـم العمل بـما أخذنا ميثاقكم وعهودكم علـى العمل به بجدّ واجتهاد بعد إعطائكم ربكم الـمواثـيق علـى العمل به والقـيام بـما أمركم به فـي كتابكم فنبذتـموه وراء ظهوركم. وكنـي بقوله جلّ ذكره: «ذلك» عن جميع ما قبله فـي الآية الـمتقدمة, أعنـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ذكره: فَلَوْلاَ فَضْل اللّهِ عَلَـيْكُمْ فلولا أن الله تفضل علـيكم بـالتوبة بعد نكثكم الـميثاق الذي واثقتـموه, إذ رفع فوقكم الطور, بأنكم تـجتهدون فـي طاعته, وأداء فرائضه, والقـيام بـما أمركم به, والانتهاء عما نهاكم عنه فـي الكتاب الذي آتاكم, فأنعم علـيكم بـالإسلام ورحمته التـي رحمكم بها, وتـجاوز عنكم خطيئتكم التـي ركبتـموها بـمراجعتكم طاعة ربكم لكنتـم من الـخاسرين. وهذا وإن كان خطابـا لـمن كان بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنـما هو خبر عن أسلافهم, فأخرج الـخبر مخرج الـمخبر عنهم علـى نـحو ما قد بـينا فـيـما مضى من أن القبـيـلة من العرب تـخاطب القبـيـلة عند الفخار أو غيره بـما مضى من فعل أسلاف الـمخاطب بأسلاف الـمخاطب, فتضيف فعل أسلاف الـمخاطب إلـى نفسها, فتقول: فعلنا بكم, وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد فـي ذلك من شعرهم فـيـما مضى.
وقد زعم بعضهم أن الـخطاب فـي هذه الاَيات إنـما أخرج بإضافة الفعل إلـى الـمخاطبـين به والفعل لغيرهم لأن الـمخاطبـين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بنـي إسرائيـل, فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك كذلك, لأن سامعيه كانوا عالـمين, وإن كان الـخطاب خرج خطابـا للأحياء من بنـي إسرائيـل وأهل الكتاب إذ الـمعنى فـي ذلك إنـما هو خبر عما قصّ الله من أنبـاء أسلافهم, فـاستغنى بعلـم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثّل ذلك بقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنا لَـمْ تَلِدْنِـي لَئِيـمَةٌولَـمْ تَـجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا
فقال: «إذا ما انتسبنا», و«إذا» تقتضي من الفعل مستقبلاً. ثم قال: «لـم تلدنـي لئيـمة», فأخبر عن ماض من الفعل, وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنـما فعل ذلك عند الـمـحتـجّ به لأن السامع قد فهم معناه, فجعل ما ذكرنا من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إلـيهم نظير ذلك. والأول الذي قلنا هو الـمستفـيض من كلام العرب وخطابها. وكان أبو العالـية يقول فـي قوله: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فـيـما ذكر لنا نـحو القول الذي قلناه.
833ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو النضر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ قال: فضل الله: الإسلام, ورحمته: القرآن.
834ـ وحدثت عن عمار, حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بـمثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لَكُنْتُـمْ مِنَ الـخاسِرِينَ.
قال أبو جعفر: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم بـانقاذه إياكم بـالتوبة علـيكم من خطيئتكم وجرمكم, لكنتـم البـاخسين أنفسكم حظوظها دائما, الهالكين بـما اجترمتـم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته. وقد تقدم بـياننا قبل بـالشواهد عن معنى الـخسار بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
يعنـي بقوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمْ ولقد عرفتـم, كقولك: قد علـمت أخاك ولـم أكن أعلـمه, يعنـي عرفته ولـم أكن أعرفه, كما قال جل ثناؤه: وآخَرِين مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَـمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَـمُهُمْ يعنـي: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وقوله: الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ أي الذين تـجاوزوا حدى وركبوا ما نهيتهم عنه فـي يوم السبت وعصوا أمري. وقد دللت فـيـما مضى علـى أن الاعتداء أصله تـجاوز الـحدّ فـي كل شيء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
قال: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها, مـما عدّد جل ثناؤه فـيها علـى بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين خلال دور الأنصار زمان النبـي صلى الله عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم فـي أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود, وحذّر الـمخاطبـين بها أن يحلّ بهم بإصرارهم علـى كفرهم ومقامهم علـى جحود نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم وتركهم أتبـاعه والتصديق بـما جاءهم به من عند ربه مثل الذي حلّ بأوائلهم من الـمسخ والرّجْف والصّعْق, وما لا قِبَل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:
835ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنُكُمْ فِـي السّبْتِ يقول: ولقد عرفتـم وهذا تـحذير لهم من الـمعصية, يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصونـي, اعتدوا يقول اجترءوا فـي السبت. قال: لـم يبعث الله نبـيا إلا أمره بـالـجمعة وأخبره بفضلها وعظمها فـي السموات وعند الـملائكة, وأن الساعة تقوم فـيها, فمن اتبع الأنبـياء فـيـما مضى كما اتبعت أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم مـحمدا قبل الـجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت علـيها بـما أمره الله تعالـى به ونبـيه صلى الله عليه وسلم, ومن لـم يفعل ذلك كان بـمنزلة الذين ذكر الله فـي كتابه, فقال: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمْ الّذِينَ اعْتَدُوا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ. وذلك أن الـيهود قالت لـموسى حين أمرهم بـالـجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى كيف تأمرنا بـالـجمعة وتفضلها علـى الأيام كلها, والسبت أفضل الأيام كلها لأن الله خـلق السموات والأرض والأقوات فـي ستة أيام وسَبَت له كل شيء مطيعا يوم السبت, وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريـم حين أمرهم بـالـجمعة, قالوا له: كيف تأمرنا بـالـجمعة, وأوّل الأيام أفضلها وسيدها, والأول أفضل, والله واحد, والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلـى عيسى أن دعهم والأحد, ولكن لـيفعلوا فـيه كذا وكذا مـما أمرهم به. فلـم يفعلوا, فقصّ الله تعالـى قصصهم فـي الكتاب بـمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لـموسى حين قالت له الـيهود ما قالوا فـي أمر السبت: أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فـيه سمكا ولا غيره, ولا يعملون شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الـحيتان علـى الـماء فهو قوله: إذْ تأتِـيهمْ حِيتانُهُمْ يَوْم سَبتِهمْ شُرّعا يقول: ظاهرة علـى الـماء, ذلك لـمعصيتهم موسى. وإذا كان غير يوم السبت صارت صيدا كسائر الأيام, فهو قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تأتِـيهِمْ. ففعلت الـحيتان ذلك ما شاء الله فلـما رأوها كذلك طمعوا فـي أخذها وخافوا العقوبة, فتناول بعضهم منها فلـم تـمتنع علـيه, وحذر العقوبة التـي حذّرهم موسى من الله تعالـى. فلـما رأوا أن العقوبة لا تـحلّ بهم عادوا وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولـم يصبهم شيء, فكثروا فـي ذلك وظنوا أن ما قال لهم موسى كان بـاطلاً, وهو قول الله جل ثناؤه: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ يقول لهؤلاء الذين صادوا السمك, فمسخهم الله قردة بـمعصيتهم, يقول: إذا لـم يحيوا فـي الأرض إلا ثلاثة أيام, ولـم تأكل, ولـم تشرب, ولـم تنسل, وقد خـلق الله القردة والـخنازير وسائر الـخـلق فـي الستة الأيام التـي ذكر الله فـي كتابه, فمسخ هؤلاء القوم فـي صورة القردة, وكذلك يفعل بـمن شاء كما يشاء, ويحوّله كما يشاء.
836ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس, قال: قال ابن عبـاس: إن الله إنـما افترض علـى بنـي إسرائيـل الـيوم الذي افترض علـيكم فـى عيدكم يوم الـجمعة, فخالفوا إلـى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به, فلـما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فـيه, فحرّم علـيهم ما أحلّ لهم فـي غيره. وكانوا فـي قرية بـين أيـلة والطور يقال لها «مَدْيَن», فحرّم الله علـيهم فـي السبت الـحيتان صيدها وأكلها, وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إلـيهم شُرّعا إلـى ساحل بحرهم, حتـى إذا ذهب السبت ذهبن, فلـم يروا حوتا صغيرا ولا كبـيرا. حتـى إذا كان يوم السبت أتـين إلـيهم شرّعا, حتـى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك, حتـى إذا طال علـيهم الأمد وقَرِموا إلـى الـحيتان, عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت فخَزَمه بخيط, ثم أرسله فـي الـماء, وأوتَد له وتدا فـي الساحل, فأوثقه ثم تركه. حتـى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إنـي لـم آخذه فـي يوم السبت, ثم انطلق به فأكله. حتـى إذا كان يوم السبت الاَخر عاد لـمثل ذلك. ووجد الناس ريح الـحيتان. فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الـحيتان. ثم عثروا علـى ما صنع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل, وأكلوا سرّا زمانا طويلاً لـم يعجل الله علـيهم بعقوبة حتـى صادوها علانـية وبـاعوها بـالأسواق, وقالت طائفة منهم من أهل التقـية: ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لـم تأكل الـحيتان ولـم تنه القوم عما صنعوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرة إلـى ربّكُمْ لسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون.
قال ابن عبـاس: فبـينـما هم علـى ذلك أصبحت تلك البقـية فـي أنديتهم ومساجدهم, وفقدوا الناس فلا يرونهم, فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا فـانظروا ما هو فذهبوا ينظرون فـي دورهم, فوجدوها مغلقة علـيهم, قد دخـلوا لـيلاً فغلقوها علـى أنفسهم كما تغلق الناس علـى أنفسهم, فأصبحوا فـيها قردة, إنهم لـيعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, والـمرأة بعينها وإنها لقردة, والصبـي بعينه وإنه لقرد.
قال: يقول ابن عبـاس: فلولا ما ذكر الله أنه أنـجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الـجميع منهم. قالوا: وهي القرية التـي قال الله لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: واسألْهُمْ عنِ القَرْيَةِ الّتِـي كانَتْ حاضرةَ البَحْرِ الآية.
837ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قردة خاسِئِينَ أحلت لهم الـحيتان وحرمت علـيهم يوم السبت بلاءً من الله لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن الـمعصية, وأما صنف فأمسك عن حرمة الله, وأما صنف فـانتهك حرمة الله ومرَد علـى الـمعصية, فلـما أبوا إلا الاعتداء إلـى ما نهوا عنه, قال الله لهم: كُونُوا قِرَدَة خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذنابٌ, تَعَاوَى, بعد ما كانوا رجالاً ونساء.
838ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْت قال: نُهوا عن صيد الـحيتان يوم السبت, فكانت تشرع إلـيهم يوم السبت, وبُلوا بذلك فـاعتدوا فـاصطادوها, فجعلهم الله قردة خاسئين.
839ـ حدثنـي موسى قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: ولَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِردة خاسِئِينَ قال: فهم أهل أيـلة, وهي القرية التـي كانت حاضرة البحر. فكانت الـحيتان إذا كان يوم السبت وقد حرّم الله علـى الـيهود أن يعملوا فـي السبت شيئا لـم يبق فـي البحر حوت إلا خرج حتـى يخرجن خراطيـمهن من الـماء, فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلـم ير منهن شيء حتـى يكون يوم السبت. فذلك قوله: وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتِـي كانَتْ حاضِرَة البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِـي السّبْتِ إذْ تأتِـيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا ويَوْمَ لا يَسْبِتُون لا تأتِـيهِمْ. فـاشتهى بعضهم السمك, فجعل الرجل يحفر الـحفـيرة ويجعل لها نهرا إلـى البحر, فإذا كان يوم السبت فتـح النهر, فأقبل الـموج بـالـحيتان يضربها حتـى يـلقـيها فـي الـحفـيرة, ويريد الـحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر, فـيـمكث, فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك, فـيجد جاره ريحه, فـيسأله فـيخبره فـيصنع مثل ما صنع جاره. حتـى إذا فشا فـيهم أكل السمك قال لهم علـماؤهم: ويحكم إنـما تصطادون السمك يوم السبت, وهو لا يحلّ لكم فقالوا: إنـما صدناه يوم الأحد حين أخذناه, فقال الفقهاء: لا, ولكنكم صدتـموه يوم فتـحتـم له الـماء فدخـل فقالوا: لا. وعتوا أن ينتهوا, فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا يقول: لـم تعظونهم وقد وعظتـموهم فلـم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرةً إلَـى رَبّكُمْ ولعلّهم يَتّقُون. فلـما أبوا قال الـمسلـمون: والله لا نساكنكم فـي قرية واحدة فقسموا القرية بجدار, ففتـح الـمسلـمون بـابـا والـمعتدون فـي السبت بـابـا, ولعنهم داود. فجعل الـمسلـمون يخرجون من بـابهم والكفـار من بـابهم فخرج الـمسلـمون ذات يوم ولـم يفتـح الكفـار بـابهم, فلـما أبطئوا علـيهم تسوّر الـمسلـمون علـيهم الـحائط, فإذا هم قردة يثب بعضهم علـى بعض, ففتـحوا عنهم فذهبوا فـي الأرض. فذلك قول الله عز وجل: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فذلك حين يقول: لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ علـى لِسانِ دَاوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ فهم القردة.
840ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال: لـم يـمسخوا إنـما هو مثل ضربه الله لهم مثل ما ضرب مثل الـحمار يحمل أسفـارا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسِئِينَ قال: مسخت قلوبهم, ولـم يـمسخوا قردة, وإنـما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الـحمار يحمل أسفـارا.
وهذا القول الذي قاله مـجاهد قول لظاهر ما دل علـيه كتاب الله مخالف, وذلك أن الله أخبر فـي كتابه أنه جعل منهم القردة والـخنازير وعبد الطاغوت, كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبـيـم: أرِنا اللّهَ جَهْرَةً وأن الله تعالـى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم وأنهم عبدوا العجل, فجعل توبتهم قتل أنفسهم, وأنهم أُمروا بدخول الأرض الـمقدسة, فقالوا لنبـيهم: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ فـابتلاهم بـالتـيه. فسواء قال قائل: هم لـم يـمسخهم قردة, وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير, وآخر قال: لـم يكن شيء مـما أخبر الله عن بنـي إسرائيـل أنه كان منهم من الـخلاف علـى أنبـيائهم والعقوبـات والأنكال التـي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقرّ بآخر منه, سئل البرهان علـى قوله وعورض فـيـما أنكر من ذلك بـما أقرّ به, ثم يسأل الفرق من خبر مستفـيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مـجاهد قول جميع الـحجة التـي لا يجوز علـيها الـخطأ والكذب فـيـما نقلته مـجمعة علـيه, وكفـى دلـيلاً علـى فساد قول إجماعها علـى تـخطئته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ.
يعنـي بقوله: فَقُلْنَا لَهُمْ أي فقلنا للذين اعتدوا فـي السبت يعنـي فـي يوم السبت. وأصل السبت الهدوّ السكون فـي راحة ودعة, ولذلك قـيـل للنائم مسبوت لهدوّه وسكون جسده واستراحته, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُبـاتا أي راحة لأجسادكم, وهو مصدر من قول القائل: سبت فلان يسبُتُ سَبْتا. وقد قـيـل إنه سمي سبتا لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الـجمعة, وهو الـيوم الذي قبله, من خـلق جميع خـلقه.
وقوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِين أي صيروا كذلك. والـخاسىء: الـمبعد الـمطرود كما يخسأ الكلب, يقال منه: خسأته أخسؤه خَسْأً وخُسوءا, وهو يخسأ خُسوءا, قال: ويقال خسأته فخسأ وانـخسأ, ومنه قول الراجز:
كالكَلْبِ إنْ قُلْتَ لَهُ اخْسأ انْـخَسأْ
يعنـي إن طردته انطرد ذلـيلاً صاغرا. فكذلك معنى قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مبعدين من الـخير أذلاء صغراء. كما:
841ـ حدثنا بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال: صاغرين.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
842ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: خاسِئِينَ قال: صاغرين.
843ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين.
844ـ وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: خاسئا: يعنـي ذلـيلاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الهاء والألف فـي قوله: فَجَعَلْناها وعلام هي عائدة, فروي عن ابن عبـاس فـيها قولان: أحدهما ما:
845ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس: فَجَعَلْنَاها فجعلنا تلك العقوبة وهي الـمسخة نكالاً. فـالهاء والألف من قوله: فَجَعَلْناها علـى قول ابن عبـاس هذا كناية عن الـمسخة, وهي «فَعْلَة» من مَسَخَهم الله مَسْخَةً. فمعنى الكلام علـى هذا التأويـل: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ فصاروا قردة مـمسوخين فَجَعَلْناها فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وما خَـلْفَها وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ. والقول الاَخر من قولـي ابن عبـاس ما:
846ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فجَعَلْناها يعنـي الـحيتان. والهاء والألف علـى هذا القول من ذكر الـحيتان, ولـم يجر لها ذكر. ولكن لـما كان فـي الـخبر دلالة كنـي عن ذكرها, والدلالة علـى ذلك قوله: ولَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فـي السّبْتِ.
وقال آخرون: فجعلنا القرية التـي اعتدى أهلها فـي السبت. فـالهاء والألف فـي قول هؤلاء كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: فجعلنا القردة الذين مسخوا نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها, فجعلوا الهاء والألف كناية عن القردة.
وقال آخرون: فجَعَلْناها يعنـي به: فجعلنا الأمة التـي اعتدت فـي السبت نكالاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: نَكالاً.
والنكال مصدر من قول القائل: نكل فلان بفلان تنكيلاً ونكالاً, وأصل النكال: العقوبة, كما قال عديّ بن زيد العبـادي:
لا يَسخُطّ الضّلّـيـلُ ما صَنَعَ الْعَبْدُ وَلا فِـي نَكالِهِ تَنْكِيرُ
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن ابن عبـاس:
847ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, قال: حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: نَكالاً يقول: عقوبة.
848ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي إسحاق, قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: فجَعَلْناها نَكالاً أي عقوبة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك. فقال بعضهم بـما:
849ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: لِـمَا بـينَ يَدَيْها يقول: لـيحذر من بعدهم عقوبتـي, وَما خَـلْفَها يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
850ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: لِـمَا بـينَ يَدَيْهَا وَما خَـلْفَها لـما خلا لهم من الذنوب, وما خـلفها: أي عبرة لـمن بقـي من الناس. وقال آخرون بـما:
851ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس, قال: قال ابن عبـاس: فجَعلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها أي من القرى. وقال آخرون بـما:
852ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله: فَجَعَلْناها نَكالاً لِـما بـينَ يَدَيْها من ذنوب القوم, وَما خَـلْفَها أي للـحيتان التـي أصابوا.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لِـمَا بـينَ يَدَيْها من ذنوبها وَما خَـلْفَها من الـحيتان.
853ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله تعالـى: لِـمَا بـينَ يَدَيْها ما مضى من خطاياهم إلـى أن هلكوا به.
حدثنـيالـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها يقول: بـين يديها ما مضى من خطاياهم, وما خـلفها: خطاياهم التـي هلكوا بها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله إلا أنه قال: وَما خَـلْفَها خطيئتهم التـي هلكوا بها. وقال آخرون بـما:
854ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فجَعَلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها قال: أما ما بـين يديها: فما سلف من عملهم, وماخـلفها: فمن كان بعدهم من الأمـم أن يعصوا فـيصنع الله بهم مثل ذلك. وقال آخرون بـما:
855ـ حدثنـي به ابن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: فَجَعَلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها ومَا خَـلْفَها يعنـي الـحيتان جعلها نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها من الذنوب التـي عملوا قبل الـحيتان, وما عملوا بعد الـحيتان, فذلك قوله: ما بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها.
وأولـى هذه التأويلات بتأويـل الآية ما رواه الضحاك عن ابن عبـاس وذلك لـما وصفنا من أن الهاء والألف فـي قوله: فجَعَلْناها نَكالاً بأن تكون من ذكر العقوبة والـمَسْخة التـي مسخها القوم أولـى منها بأن تكون من ذكر غيرها, من أجل أن الله جل ثناؤه إنـما يحذّر خـلقه بأسه وسطوته, وبذلك يخوّفهم. وفـي إبـانته عز ذكره بقوله: نَكالاً أنه عنى به العقوبة التـي أحلها بـالقوم ما يعلـم أنه عنى بقوله: فجَعَلْناهَا نَكالاً لِـمَا بَـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها: فجعلنا عقوبتنا التـي أحللناها بهم عقوبة لـما بـين يديها وما خـلفها, دون غيره من الـمعانـي. وإذا كانت الهاء والألف بأن تكون من ذكر الـمسخة والعقوبة أولـى منها بأن تكون من ذكر غيرها, فكذلك العائد فـي قوله: لِـمَا بـينَ يَدَيها وَما خَـلْفَها من الهاء والألف أن يكون من ذكر الهاء والألف اللتـين فـي قوله: فَجَعَلْناها أولـى من أن يكون من غيره.
فتأويـل الكلام إذا كان الأمر علـى ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين, فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لـما بـين يديها من ذنوبهم السالفة منهم مسخنا إياهم وعقوبتنا لهم, ولـما خـلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم, أن يعمل بها عامل, فـيـمسخوا مثل ما مسخوا, وأن يحلّ بهم مثل الذي حلّ بهم تـحذيرا من الله تعالـى ذكره عبـاده أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتـى الـمـمسوخون فـيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال فـي تأويـل ذلك: فجَعَلْناها يعنـي الـحيتان عقوبة لـما بـين يدي الـحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم, فإنه أبْعَدَ فـي الانتزاع وذلك أن الـحيتان لـم يجر لها ذكر فـيقال: فجَعَلْناها فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز وإن لـم يكن جرى للـحيتان ذكر, لأن العرب قد تكنـي عن الاسم ولـم يجر له ذكر, فإن ذلك وإن كان كذلك, فغير جائز أن يترك الـمفهوم من ظاهر الكتاب والـمعقول به ظاهر فـي الـخطاب والتنزيـل إلـى بـاطن لا دلالة علـيه من ظاهر التنزيـل ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول ولا فـيه من الـحجة إجماع مستفـيض.
وأما تأويـل من تأوّل ذلك: لـما بـين يديها من القرى وما خـلفها, فـينظر إلـى تأويـل من تأول ذلك بـما بـين يدي الـحيتان وما خـلفها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَوْعِظَةً.
والـموعظة مصدر من قول القائل: وعظت الرجل أعظه وَعْظا وموعظة: إذا ذكّرته.
فتأويـل الآية: فجعلناها نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها, وتذكرة للـمتقـين, لـيتعظوا بها, ويعتبروا, ويتذكروا بها, كما:
856ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَمَوْعِظَةً يقول: وتذكرة وعبرة للـمتقـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى للْـمَتّقِـينَ.
وأما الـمتقون فهم الذين اتقوا بأداء فرائضه واجتناب معاصيه كما:
857ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, قال: حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ يقول: للـمؤمنـين الذين يتقون الشرك, ويعملون بطاعتـي. فجعل تعالـى ذكره ما أحلّ بـالذين اعتدوا فـي السبت من عقوبته موعظة للـمتقـين خاصة وعبرة للـمؤمنـين دون الكافرين به إلـى يوم القـيامة.
858ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس, عن عبد الله بن عبـاس فـي قوله: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ إلـى يوم القـيامة.
859ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ: أي بعدهم.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
860ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما موعظة للـمتقـين, فهم أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
861ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ قال: فكانت موعظة للـمتقـين خاصة.
862ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج فـي قوله: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ: أي لـمن بعدهم.
الآية : 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ }
وهذه الآية مـما وبخ الله بها الـمخاطبـين من بنـي إسرائيـل فـي نقض أوائلهم الـميثاق الذي أخذه الله علـيهم بـالطاعة لأنبـيائه, فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقـي, إذ قال موسى لقومه, وقومه بنو إسرائيـل, إذ ادّارءوا فـي القتـيـل الذي قتل فـيهم إلـيه
الآية : 67-68
تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }
والهزو: اللعب والسخرية, كما قال الراجز:
قَدْ هَزِئَتْ مِنّـي أُمّ طَيْسَلَهْقالَتْ أرَاهُ مُعْدِما لا شَيْءَ لَهْ
يعنـي بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت. ولا ينبغي أن يكون من أنبـياء الله فـيـما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب. فظنوا بـموسى أنه فـي أمره إياهم عن أمر الله تعالـى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم فـي القتـيـل إلـيه أنه هازىء لاعب, ولـم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبـيّ الله, وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة, وحذفت الفـاء من قوله: أتَتّـخِذُنا هُزُوا وهو جواب, لاستغناء ما قبله من الكلام عنه, وحسن السكوت علـى قوله: إنّ اللّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فجاز لذلك إسقاط الفـاء من قوله: أتَتّـخِذُنا هُزُوا كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالـى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أيّها الـمُرْسَلُونَ قالُوا إنّا أُرْسِلْنا ولـم يقل: فقالوا إنا أرسلنا, ولو قـيـل: «فقالوا», كان حسنا أيضا جائزا, ولو كان ذلك علـى كلـمة واحدة لـم تسقط منه الفـاء وذلك أنك إذا قلت قمت وفعلت كذا وكذا ولـم تقل: قمت فعلت كذا وكذا, لأنها عطف لا استفهام يوقـف علـيه, فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إن الـمخبر عن الله جل ثناؤه بـالهزء والسخرية من الـجاهلـين وبرأ نفسه مـما ظنوا به من ذلك, فقال: أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ يعنـي من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والبـاطل. وكان سبب قـيـل موسى لهم: إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ما:
863ـ حدثنا به مـحمد بن عبد الأعلـى قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أيوب, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة, قال: كان فـي بنـي إسرائيـل رجل عقـيـم أو عاقر, قال: فقتله ولـيه, ثم احتـمله, فألقاه فـي سبط غير سبطه. قال: فوقع بـينهم فـيه الشرّ, حتـى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النّهَى: أتقتتلون وفـيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأتوا نبـيّ الله, فقال: اذبحوا بقرة فقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجَاهِلـينَ قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هي قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة إلـى قوله: فَذَبَحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: فضُرب فأخبرهم بقاتله. قال: ولـم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبـا. قال: ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم, فلـم يورث قاتل بعد ذلك.
864ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنـي أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قول الله إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قال: كان رجل من بنـي إسرائيـل, وكان غنـيا ولـم يكن له ولد, وكان له قريب وكان وارثه, فقتله لـيرثه, ثم ألقاه علـى مـجمع الطريق, وأتـى موسى, فقال له: إن قريبـي قتل, وأتـى إلـيّ أمرٌ عظيـم, وإنـي لا أجد أحدا يبـين لـي من قتله غيرك يا نبـيّ الله. قال: فنادى موسى فـي الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علـم إلا بـينه لنا فلـم يكن عندهم علـمه, فأقبل القاتل علـى موسى فقال: أنت نبـيّ الله, فـاسأل لنا ربك أن يبـين لنا فسأل ربه فأوحى الله إلـيه: إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فعجبوا وقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّه يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة لا فـارِض يعنـي هرمة وَلا بكْر يعنـي ولا صغيرة عَوَان بـينَ ذلكَ أي نصف بـين البكر والهرمة, قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما لَوْنُها قال إنهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فـاقِع لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرّ النَاظِرِينَ أي تعجب الناظرين. قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَـيْنَا وَإنَا إنْ شاءَ الله لـمهتدون قال أنه يقول أنها بقرة لا ذلول أي يذللها العمل تثـير الأرض يعنـي يسق بذلول فتثـير الأرض ولا تسقـي الـحرث يقول ولا تعمل فـي الـحرب مسلـمة يعنـي مسلـمة من العيوب لاشية فـيها. يقول لا بـياض فـيها. قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ. قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا علـى أنفسهم, فشدّد الله علـيهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء الله لـمهتدون لـما هدوا إلـيها أبدا فبلغنا أنهم لـم يجدوا البقرة التـي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القـيـمة علـيهم فلـما علـمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت علـيهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لـم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألتهم أضعاف ثمنها فقال لهم موسى أن الله قد كان خفف علـيكم فشددتـم علـى أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فـيضربو به القتـيـل ففعلوا فرجع إلـيه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتـى موسى فشكى إلـيه فقتله الله علـى أسوء عمله. حدثنـي موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسبـاط عن السدي وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قال كان رجل من بنـي إسرائيـل مكثرا من الـمال, وكانت له ابنة وكان له ابن أخ مـحتاج. فخطب إلـيه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوّجه إياها, فغضب الفتـى وقال: والله لأقتلنّ عمي ولاَخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ولاَكلنّ ديته فأتاه الفتـى وقد قدم تـجار فـي بعض أسبـاط بنـي إسرائيـل, فقال: يا عم انطلق معي فخذ لـي من تـجارة هؤلاء القوم لعلـي أصيب منها, فإنهم إذا رأوك معي أعطونـي. فخرج العم مع الفتـى لـيلاً, فلـما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتـى ثم رجع إلـى أهله. فلـما أصبح جاء كأنه يطلب عمه, كأنه لا يدري أين هو فلـم يجده, فـانطلق نـحوه فإذا هو بذلك السبط مـجتـمعين علـيه, فأخذهم وقال: قتلتـم عمي فأدّوا إلـيّ ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب علـى رأسه وينادي واعماه. فرفعهم إلـى موسى, فقضى علـيهم بـالدية, فقالوا له: يا رسول الله: ادع لنا حتـى يتبـين له من صاحبه فـيؤخذ صاحب الـجريـمة, فوالله إن ديته علـينا لهينة, ولكنا نستـحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَإذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا فـادّارَأتُـمْ فـيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ فقال لهم موسى: إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا: نسألك عن القتـيـل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة, أتهزأ بنا؟ قال موسى: أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجَاهِلِـينَ. قال: قال ابن عبـاس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى, فشدد الله علـيهم فقالوا: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فـارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بـينَ ذلكَ والفـارض: الهرمة التـي لا تلد, والبكر: التـي لـم تلد إلا ولدا واحدا, والعوان: النصف التـي بـين ذلك التـي قد ولدت وولد ولدها فـافعلوا ما تؤمرون. قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: تعجب الناظرين: قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَـيْنا وَإنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَـمُهْتَدُونَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ مُسَلّـمَةٌ لا شِيَةَ فِـيها من بـياض ولا سواد ولا حمرة. قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ فطلبوها فلـم يقدروا علـيها. وكان رجل من بنـي إسرائيـل من أبرّ الناس بأبـيه. وأن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبـيعه, فكان أبوه نائما تـحت رأسه الـمفتاح, فقال له الرجل: تشتري منـي هذا اللؤلؤ بسبعين ألفـا؟ فقال له الفتـى: كما أنت حتـى يستـيقظ أبـي فآخذه بثمانـين ألفـا. فقال له الاَخر: أيقظ أبـاك وهو لك بستـين ألفـا. فجعل التاجر يحطّ له حتـى بلغ ثلاثـين ألفـا, وزاد الاَخر علـى أن ينتظر حتـى يستـيقظ أبوه حتـى بلغ مائة ألف. فلـما أكثر علـيه قال: لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا, وأبى أن يوقظ أبـاه. فعوّضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة, فمرّت به بنو إسرائيـل يطلبون البقرة, فأبصروا البقرة عنده, فسألوه أن يبـيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى, فأعطوه ثنتـين فأبى, فزادوه حتـى بلغوا عشرا فأبى, فقالوا: والله لا نتركك حتـى نأخذها منك. فـانطلقوا به إلـى موسى, فقالوا: يا نبـيّ الله إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها, وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك فقال: يا رسول الله أنا أحقّ بـمالـي. فقال: صدقت, وقال للقوم: أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبـا فأبى, فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتـى أعطوه وزنها عشر مرّات, فبـاعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها فذبحوها, فقال: اضربوه ببعضها فضربوه بـالبضعة التـي بـين الكتفـين فعاش, فأسلوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي قال: أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
865ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة. وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, عن مـجاهد. وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: حدثنـي خالد بن يزيد, عن مـجاهد. وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل, عن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا يذكر. وحدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, وحجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي ومـحمد بن قـيس. وحدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: أخبرنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس. فذكر جميعهم: أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نـحو السبب الذي ذكره عبـيدة وأبو العالـية والسدي. غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتـيـل الذي اختصم فـي أمره إلـى موسى كان أخا الـمقتول. وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه. وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مـجمعون علـى أن موسى إنـما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتـيـل إذا احتكموا إلـيه عن أمر الله إياهم بذلك, فقالوا له: وما ذبح البقرة يبـين لنا خصومتنا التـي اختصمنا فـيها إلـيك فـي قتل من قتل فـادعى علـى بعضنا أنه القاتل أتهزأ بنا؟ كما:
866ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قتل قتـيـل من بنـي إسرائيـل, فطرح فـي سبط من الأسبـاط. فأتـى أهل ذلك القتـيـل إلـى ذلك السبط, فقالوا: أنتـم والله قتلتـم صاحبنا قالوا: لا والله. فأتوا موسى, فقالوا: هذا قتـيـلنا بـين أظهرهم وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبـيّ الله طرح علـينا. فقال لهم موسى: إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فقالوا: أتستهزىء بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالوا: نأتـيك فنذكر قتـيـلنا والذي نـحن فـيه فتستهزىء بنا؟ فقال موسى: أعُوذُ بـالله أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ.
867ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد وحجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, ومـحمد بن قـيس: لـما أتـى أولـياء القتـيـل والذين ادّعوا علـيهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم علـيه, أوحى الله إلـيه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتّـخِذُنَا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ قالوا: وما البقرة والقتـيـل؟ قال: أقول لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة, وتقولون: أتتـخذنا هزوا
قال أبو جعفر: فقال الذين قـيـل لهم: إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذبَحُوا بَقَرَةً بعد أن علـموا واستقرّ عندهم أن الذي أمرهم به موسى علـيه السلام من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة جدّ وحق: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا مَا هِيَ فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفـاهم بقوله لهم: اذبحوا بقرة لأنه جل ثناءه إنـما أمرهم بذبح بقرة من البقر أيّ بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك علـى نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف, فقالوا بجفـاء أخلاقهم وغلظ طبـائعهم وسوء أفهامهم, وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤنته, تعنتا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما:
868ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي, أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـما قال لهم موسى: أعُوذُ بـاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـين قالوا له يتعنتونه: ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هيَ فلـما تكلفوا جهلاً منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التـي أمروا بذبحها تعنتا منهم بنبـيهم موسى صلوات الله علـيه بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فـيـما أخبرهم عن الله جل ثناؤه بقولهم: أتَتّـخِذُنا هُزُوا عاقبهم عز وجل بأن خصّ بذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر علـى نوع منها دون نوع, فقال لهم جل ثناؤه إذ سألوه فقالوا: ما هي صفتها وما حلـيتها؟ حَلّها لنا لنعرفها قالَ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فَـارِضٌ وَلا بِكْرٌ يعنـي بقوله جل ثناؤه: لا فـارض: لا مسنة هرمة, يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا, يعنـي بذلك أسنّت, ومن ذلك قول الشاعر:
يا رُبّ ذِي ضِغْنٍ عَلَـيّ فـارِضِلَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الـحائِضِ
يعنـي بقوله فـارض: قديـم يصف ضغنا قديـما. ومنه قول الاَخر:
لَهُ زِجاجٌ ولَهَاةُ فـارِرُضهَدْلاء كالوَطْبِ نَـحَاهُ الـمَاخِضُ
وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل فـارض قال الـمتأوّلون. ذكر من قال ذلك:
869ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي, قال: حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مـجاهد: لا فـارِض قال: لا كبـيرة.
870ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, أو عن عكرمة, شك شريك لا فَـارِضٌ قال: الكبـيرة.
871ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: أخبرنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لا فـارِضٌ الفـارض: الهرمة.
حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: لا فـارِضٌ يقول: لـيست بكبـيرة هرمة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, عن عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس: لا فـارِضٌ الهرمة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الفـارض: الكبـيرة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مـجاهد قوله: لا فـارِض قال: الكبـيرة.
872ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: لا فـارِضٌ يعنـي لا هرمة.
873ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
874ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: الفـارض: الهرمة.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: قال معمر, قال قتادة: الفـارض: الهرمة يقول: لـيست بـالهرمة ولا البكر عوان بـين ذلك.
875ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: الفـارض: الهرمة التـي لا تلد.
876ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الفـارض: الكبـيرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولا بِكْر.
والبكر من إناث البهائم وبنـي آدم ما لـم يفتـحله الفحل, وهي مكسورة البـاء لـم يسمع منه «فَعَل» ولا «يفعل». وأما «البَكْر» بفتـح البـاء فهو الفتـى من الإبل. وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله وَلا بِكْر ولا صغيرة لـم تلد. كما:
877ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي, قال: حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مـجاهد: وَلا بِكْر صغيرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: البكر: الصغيرة.
878ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الـحسن بن عطية, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد, عن ابن عبـاس أو عكرمة شك: ولا بِكْر قال: الصغيرة.
879ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس: ولا بِكْر الصغيرة.
880ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: ولا بِكْرٌ ولا صغيرة.
حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَلا بكْرٌ ولا صغيرة ضعيفة.
881ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع: عن أبـي العالـية: وَلا بِكْرٌ يعنـي ولا صغيرة.
882ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
883ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فـي «البكر» لـم تلد إلا ولدا واحدا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: عَوَانٌ.
قال أبو جعفر: العوان: النصف التـي قد ولدت بطنا بعد بطن, ولـيست بنعت للبكر, يقال منه: قد عوّنت إذا صارت كذلك. وإنـما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فـارض ولا بكر بل عوان بـين ذلك. ولا يجوز أن يكون عوان إلا مبتدأ, لأن قوله: بَـيْنَ ذَلِكَ كناية عن الفـارض والبكر, فلا يجوز أن يكون متقدما علـيهما. ومنه قول الأخطل:
وَما بِـمَكّةَ مِنْ شُمْطٍ مُـحَفّلَةٍوَما بِـيَثْرِبَ مِنْ عُونٍ وأبْكارٍ
وجمعها عون يقال: امرأة عَوَانٌ من نسوة عُونٍ. ومنه قول تـميـم بن مقبل:
وَمأتـم كالدّمَى حُورٍ مَدَامِعُهالَـمْ تَبْأسِ العَيْشَ أبْكارا وَلا عُونَا
وبقرة عوان وبقر عون. قال: وربـما قالت العرب: بقرٌ عُون, مثل رسل يطلبون بذلك الفرق بـين جمع عوان من البقر, وجمع عانة من الـحمر. ويقال: هذه حرب عوان: إذا كانت حربـا قد قوتل فـيها مرّة بعد مرة, يـمثل ذلك بـالـمرأة التـي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: حالة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.
884ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب أن ابن زيد أنشده:
قُعُود لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبُ حاجَةٍعَوَانٍ مِنَ الـحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرا
قال أبو جعفر: والبـيت للفرزدق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك تأوله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك.
885ـ حدثنا علـيّ بن سعد الكندي, حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مـجاهد: عَوَانٌ بـينَ ذلكَ: وسط قد ولدن بطنا أو بطنـين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: عَوانٌ قال: العوان: العانس النصف.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: العوان: النصف.
886ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس أو عكرمة, شكّ شريك: عَوَانٌ قال: بـين ذلك.
887ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: عَوَانٌ قال بـين الصغيرة والكبـيرة, وهي أقوى ما تكون من البقر والدوابّ وأحسن ما تكون.
888ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, عن عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس: عَوَانٌ قال: النصف.
889ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: عَوَانٌ نصف.
890ـ وحدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
891ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: العوان: نصف بـين ذلك.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مـجاهد: عَوَانٌ التـي تنتـج شيئا بشرط أن تكون التـي قد نتـجت بكرة أو بكرتـين.
892ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: العوان: النصف التـي بـين ذلك, التـي قد ولدت وولد ولدها.
893ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: العوان: بـين ذلك لـيست ببكر ولا كبـير.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بَـيْن ذلكَ.
يعنـي بقوله: بـينَ ذلكَ: بـين البكر والهرمة. كما:
894ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: بـينَ ذلكَ: أي بـين البكر والهرمة.
فإن قال قائل: قد علـمت أن «بـين» لا تصلـح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا, فكيف قـيـل بـين ذلك وذلك واحد فـي اللفظ؟ قـيـل: إنـما صلـحت مع كونها واحدة, لأن «ذلك» بـمعنى اثنـين, والعرب تـجمع فـي «ذلك» و«ذاك» شيئين ومعنـيـين من الأفعال, كما يقول القائل: أظنّ أخاك قائما, وكان عمرو أبـاك, ثم يقول: قد كان ذاك, وأظن ذلك. فـيجمع بذلك وذاك الاسم والـخبر الذي كان لا بد ل«ظَنّ» و«كان» منهما. فمعنى الكلام: قال: إنه يقول أنها بقرة لا مسنة هرمة ولا صغيرة لـم تلد, ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن بـين الهرم والشبـاب. فجمع ذلك معنى الهرم والشبـاب لـما وصفنا, ولو كان مكان الفـارض والبكر اسما شخصين لـم يجمع مع بـين ذلك, وذلك أن «ذلك» لا يؤدي عن اسم شخصين, وغير جائز لـمن قال: كنت بـين زيد وعمرو, أن يقول: كنت بـين ذلك, وإنـما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ.
يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به تدركوا حاجاتكم وطلبـاتكم عندي, واذبحوا البقرة التـي أمرتكم بذبحها, تصلوا بـانتهائكم إلـى طاعتـي بذبحها إلـى العلـم بقاتل قتـيـلكم.
الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ }
ومعنى ذلك: قال قوم موسى لـموسى: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما لَوْنُها: أي لون البقرة التـي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنّت آخر منهم بعد الأول, وتكلّف طلب ما قد كانوا كفوه فـي الـمرة الثانـية والـمسألة الاَخرة وذلك أنهم لـم يكونوا حصروا فـي الـمرة الثانـية, إذ قـيـل لهم بعد مسألتهم عن حلـية البقرة التـي كانوا أمروا بذبحها فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من الـمسألة عن صفتها فحصروا علـى نوع دون سائر الأنواع عقوبة من الله لهم علـى مسألتهم التـي سألوها نبـيهم صلى الله عليه وسلم تعنتا منهم له, ثم لـم يحصرهم علـى لون منها دون لون, فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنـياء, فقالوا تعنتا منهم لنبـيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عبـاس: ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما لَوْنُها فقـيـل لهم عقوبة لهم: إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ فحُصِروا علـى لون منها دون لون, ومعنى ذلك أن البقرة التـي أمرتكم بذبحها صفراء فـاقع لونها.
قال: ومعنى قوله: يُبَـيّنُ لَنا مَا لَوْنُها أيّ شيء لونها, فلذلك كان اللون مرفوعا, لأنه مرفوع «ما» وإنـما لـم ينصب «ما» بقوله «يبـين لنا», لأن أصل «أيّ» و«ما» جمع متفرّق الاستفهام. يقول القائل: بـين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلـما لـم يكن لقوله «بـيّن لنا» ارتفع علـى الاستفهام منصرفـا (عما) لـم يكن له ارتفع علـى أي لأنه جمع ذلك الـمتفرّق, وكذلك كل ما كان من نظائره, فـالعمل فـيه واحد فـي «ما» و«أي».
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: صَفْرَاءُ فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد. ذكر من قال ذلك منهم:
895ـ حدثنـي أبو مسعود إسماعيـل بن مسعود الـجحدري, قال: حدثنا نوح بن قـيس, عن مـحمد بن سيف, عن الـحسن: صَفْرَاءُ فَـاقِع لَوْنُهَا قال: سوداء شديدة السواد.
حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة, والـمثنى بن إبراهيـم قالا: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا نوح بن قـيس, عن مـحمد بن سيف, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف. ذكر من قال ذلك:
896ـ حدثنـي هشام بن يونس النهشلـي, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن الـحسن فـي قوله: صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُهَا قال: صفراء القرن والظلف.
897ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنـي هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن كثـير بن زياد, عن الـحسن فـي قوله: صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُهَا قال: كانت وحشية.
898ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن إبراهيـم, عن أبـي حفص, عن مغراء, أو عن رجل, عن سعيد بن جبـير: بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها قال: صفراء القرن والظلف.
899ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هي صفراء.
900ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا الضحاك بن مخـلد, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال فـي قوله: صَفْرَاءُ يعنـي به سوداء, ذهب إلـى قوله فـي نعت الإبل السود: هذه إبل صفر, وهذه ناقة صفراء يعنـي بها سوداء. وإنـما قـيـل ذلك فـي الإبل لأن سوادها يضرب إلـى الصفرة, ومنه قول الشاعر:
تِلْكَ خَيْـلِـي مِنْهَا وَتِلْكَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي
هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي
هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي
هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ
يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود, وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر, مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع, وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها, فتقول:
هو أسود حالك وحانك وحلكيْهِ الوَرْدَ حَتـى تَرَكْتُهُ
ذلِـيلاً يَسُفّ التّرْبَ وَاللّوْنُ فَـاقِعُ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: تَسُرّ النّاظِرِينَ.
يعنـي بقوله: تَسُرّ النّاظِرِينَ تعجب هذه البقرة فـي حسن خـلقها ومنظرها وهيئتها الناظر إلـيها. كما:
901ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: تَسُرّ النّاظِرِينَ أي تعجب الناظرين.
902ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا: تَسُرّ النّاظِرِينَ إذا نظرت إلـيها يخيـل إلـيك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
903ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: تعجب الناظرين