تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 105 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 105

105 : تفسير الصفحة رقم 105 من القرآن الكريم

** يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ وما فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء, وهذا كثير في النصارى, فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها, فنقلوه من حيز النبوة, إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه, فادعوا فيهم العصمة, واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً, أو ضلالاً أو رشاداً, أو صحيحاً أو كذباً, ولهذا قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} الاَية. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم قال: زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس, عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله». ثم رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة, عن الزهري كذلك, ولفظه «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري عن الحميدي, عن سفيان بن عيينة, عن الزهري به, ولفظه «فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا, وخيرنا وابن خيرنا¹ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهويكم الشيطان, أنا محمد بن عبد الله, عبد الله ورسوله, والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» تفرد به من هذا الوجه. وقوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً, وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته, فلا إله إلا هو, ولا رب سواه, ولهذا قال: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه, قال له: كن فكان, ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم, أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل, فكان عيسى بإذنه عز وجل, وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها, فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم, والجميع مخلوق الله عز وجل, ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه, لأنه لم يكن له أب تولد منه, وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان, والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام}. وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. وقال تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} وقال تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجه} إلى آخر السورة, وقال تعالى إخباراً عن المسيح: {إن هو الا عبد أنعمنا عليه} الاَية.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} هو قوله: كن فيكون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} قال: ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى, وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: {ألقاها إلى مريم} أي أعلمها بها, كما زعمه في قوله: {إذ قالت الملائكة يامريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه} أي يعلمك بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم, فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام. وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل, حدثنا الوليد, حدثنا الأوزاعي, حدثني عمير بن هانىء, حدثنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وأن الجنة حق والنار حق, أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».
وقال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانىء, عن جنادة زاد«من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء», وكذا رواه مسلم عن داود بن رشيد, عن الوليد, عن ابن جابر به, ومن وجه آخر عن الأوزاعي به, فقوله في الاَية والحديث «وروح منه» كقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} أي من خلقه ومن عنده وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعه ـ بل هي لابتداء الغاية كما في الاَية الأخرى, وقد قال مجاهد في قوله: {وروح منه} أي ورسول منه, وقال غيره: ومحبة منه, والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف, كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: {هذه ناقة الله} وفي قوله: {وطهر بيتي للطائفين} وكما روي في الحديث الصحيح: «فأدخل على ربي في داره» أضافها إليه إضافة تشريف, وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد.
وقوله: {فآمنوا بالله ورسوله} أي فصدقوا بأن الله واحد أحد, لا ولد له ولا صاحبة, واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله, ولهذا قال تعالى: {ولا تقولوا ثلاثة} أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, وهذه الاَية كالتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} وكما قال في آخر السورة المذكورة: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني} الاَية, وقال في أولها {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} الاَية, ـ فالنصارى عليهم لعائن الله ـ من جهلهم ليس لهم ضابط, ولا لكفرهم حد, بل أقوالهم وضلالهم منتشر, فمنهم من يعتقده إلهاً, ومنهم من يعتقده شريكاً, ومنهم من يعتقده ولداً, وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة, وأقوال غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولاً.
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية, أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم, وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة, وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة, وأنهم اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر, فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً, فكانوا أحزاباً كثيرة, كل خمسين منهم على مقالة, وعشرون على مقالة, ومائة على مقالة, وسبعون على مقالة, وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر, وقد توافقوا على مقالة, فأخذها الملك ونصرها وأيدها, وكان فيلسوفاً داهية, ومحق ما عداها من الأقوال, وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر, وبنيت لهم الكنائس, ووضعوا لهم كتباً وقوانين, وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً, فحدث فيهم اليعقوبية, ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم النسطورية, وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ويختلفون في كيفية ذلك, وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم هل اتحدا, أو ما اتحدا, أو امتزجا, أو حل فيه على ثلاث مقالات وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى, ونحن نكفر الثلاثة, ولهذا قال تعالى: {انتهوا خيراً لكم} أي يكن خيراً لكم {إنما الله إلهٌ واحد سبحانه أن يكون له ولد} أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً {له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيل} أي الجميع ملكه وخلقه, وجميع ما فيها عبيده وهم تحت تدبيره وتصريفه, وهو وكيل على كل شيء, فكيف يكون له منهم صاحبة وولد, كما قال في الاَية الأخرى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد} الاَية, وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً ـ إلى قوله ـ فرد}.

** لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا هشام عن ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس: قوله: {لن يستنكف} لن يستكبر. وقال قتادة: لن يحتشم {المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون} وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الاَية حيث قال: {ولا الملائكة المقربون} وليس له في ذلك دلالة, لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح, لأن الاستنكاف هو الامتناع, والملائكة أقدر على ذلك من المسيح, فلهذا قال: {ولا الملائكة المقربون} ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. وقيل: إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسيح, فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه, كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون} الاَيات, ولهذا قال: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميع} أي فيجمعهم إليه يوم القيامة, ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور فيه, ولا يحيف, ولهذا قال: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} أي فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة, ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه, وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي, عن الأعمش, عن سفيان, عن عبد الله مرفوعاً, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: أجورهم «أدخلهم الجنة» {ويزيدهم من فضله} قال «الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم} وهذا إسناد لا يثبت.. وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً, فهو جيد {وأما الذين استنكفوا واستكبرو} أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك {فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصير} كقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين كما كانوا ممتنعين مستكبرين.

** يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم, وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة, ولهذا قال: {وأنزلنا إليكم نوراً مبين} أي ضياء واضحاً على الحق, قال ابن جريج وغيره: وهو القرآن {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أي جمعوا بين مقامي العبادة, والتوكل على الله في جميع أمورهم, وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرأن. رواه ابن جرير {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} أي يرحمهم فيدخلهم الجنة, ويزيدهم ثواباً ومضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم, {ويهديهم إليه صراطاً مستقيم} أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لااعوجاج فيه ولا انحراف وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والاَخرة, فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات, وفي الاَخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القرآن صراط الله المستقيم, وحبل الله المتين» وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير, ولله الحمد والمنة.