سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 105 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 105
106
104
الآية : 171
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ وما فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أهْلَ الكِتابِ: يا أهل الإنـجيـل من النصارى, لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ يقول: لا تـجاوزوا الـحقّ فـي دينكم فتفرِطوا فـيه, ولا تقولوا فـي عيسى غير الـحقّ, فإنّ قـيـلكم فـي عيسى إنه ابن الله قول منكم علـى الله غير الـحقّ, لأن الله لـم يتـخذ ولدا, فـيكون عيسى أو غيره من خـلقه له ابنا. وَلا تَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ وأصل الغلوّ فـي كلّ شيء: مـجاوزة حده الذي هو حده, يقال منه فـي الدين قد غلا فهو يغلو غُلُوّا, وغلا بـالـجارية عظمُها ولـحمُها: إذا أسرعت الشبـاب, فجاوزت لذاتها, يغلو بها غُلُوّا وغَلاءً ومن ذلك قول الـحارث بن خالد الـمخزومي:
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشّحُهارُؤْدُ الشّبـابِ غلاِ بها عَظْمُ
8617ـ وقد حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: صاروا فريقـين: فريق غَلَوا فـي الدين, فكان غلوّهم فـيه: الشكّ فـيه والرغبة عنه. وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ رَسُولُ اللّهِ وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمُ: ما الـمسيح أيها الغالون فـي دينهم من أهل الكتاب بـابن الله كما تزعمون, ولكنه عيسى ابن مريـم دون غيرها من الـخـلق, لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جلّ ثناؤه بنعته ووصفه بصفته, فقال: هو رسول الله, أرسله الله بـالـحق إلـى من أرسله إلـيه من خـلقه. وأصل الـمسيح: الـمـمسوح, صرف من مفعول إلـى فعيـل, وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب وقـيـل: مسح من الذنوب والأدناس التـي تكون فـي الاَدميـين, كما يـمسح الشيء من الأذى الذي يكون فـيه فـيطهر منه, ولذلك قال مـجاهد ومن قال مثل قوله: الـمسيح: الصديق. وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلـمة عبرانـية أو سريانـية «مَشِيحَا» فعرّبت, فقـيـل الـمسيح, كما عرّب سائر أسماء الأنبـياء التـي فـي القرآن مثل إسماعيـل وإسحاق وموسى وعيسى.
قال أبو جعفر: ولـيس ما مثل به من ذلك للـمسيح بنظير وذلك أن إسماعيـل وإسحاق وما أشبه ذلك, أسماء لا صفـات, والـمسيح صفة, وغير جائز أن تـخاطب العرب وغيرها من أجناس الـخـلق فـي صفة شيء إلا بـمثل ما يفهم عمن خاطبها, ولو كان الـمسيح من غير كلام العرب ولـم تكن العرب تعقل معناه ما خوطبت به. وقد أتـينا من البـيان عن نظائر ذلك فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. وأما الـمسيح الدجال, فإنه أيضا بـمعنى الـمـمسوح العين, صرف من مفعول إلـى فعيـل, فمعنى الـمسيح فـي عيسى صلى الله عليه وسلم: الـمـمسوح البدن من الأدناس والاَثام, ومعنى الـمسيح فـي الدجال: الـمـمسوح العين الـيـمنى أو الـيسرى كالذي رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ذلك.
وأما قوله: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ فإنه يعنـي بـالكلـمة: الرسالة التـي أمر الله ملائكته أن تأتـي مريـم بها, بشارة من الله لها التـي ذكر الله جلّ ثناؤه فـي قوله: إذْ قالَتِ الـمَلائِكَةِ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ يعنـي: برسالة منه, وبشارة من عنده. وقد قال قتادة فـي ذلك, ما:
8618ـ حدثنابه الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ قال: هو قوله: كن فكان.
وقد بـيّنا اختلاف الـمختلفـين من أهل الإسلام فـي ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ يعنـي: أعلـمها بها وأخبرها, كما يقال: ألقـيت إلـيك كلـمة حسنة, بـمعنى أخبرتك بها, وكلـمتك بها.
وأما قوله: وَرُوحٌ مِنْه فإن أهل العلـم اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْه: ونفخة منه, لأنه حدّث عن نفخة جبريـل علـيه السلام فـي دِرْع مريـم بأمر الله إياه بذلك, فنسب إلـى أنه رُوح من الله, لأنه بأمره, كان, قال: وإنـما سمي النفخ رُوحا لأنها ريح تـخرج من الروح, واستشهدوا علـى ذلك من قولهم بقول ذي الرمة فـي صفة نار نعتها:
فلـمّا بَدَتْ كَفّنْتُها وَهْيَ طِفْلَةٌبطَلْساءَ لَـم تَكْمُل ذِرَاعا وَلا شِبْرَا
وقُلْتُ لَهُ ارْفَعْها إلَـيْكَ وأحْيِهابُروحِكَ واقْتَتْهُ لهَا قِـيتَةً قَدْرَا
وظاهِرْ لها مِن بـائسِ الشّخْتِ واستعنعلَـيها الصّبـا واجْعَلْ يدَيْكَ لها سِتْرا
فَلَـمّا جَرَتْ للْـجَزْلِ جَرْيا كأنّهُسَنا البرْقِ أحدَثْنا لـخالقها شُكْرَا
وقالوا: يعنـي بقوله: أحيها بُروحك: أي أحْيها بنفخك.
وقال بعضهم: يعنـي بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: أنه كان إنسانا بإحياء الله له بقوله: «كن», قالوا: وإنـما معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: وحياة منه, بـمعنى: إحياء الله إياه بتكوينه.
وقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ ورحمة منه كما قال جلّ ثناؤه فـي موضع آخر: وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. قال: ومعناه فـي هذا الـموضع: ورحمة منه. قال: فجعل الله عيسى رحمة منه علـى من اتبعه وآمن به وصدّقه, لأنه هداهم إلـى سبـيـل الرشاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خـلقها فصوّرها, ثم أرسلها إلـى مريـم, فدخـلت فـي فـيها, فصيرها الله تعالـى روح عيسى علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
8619ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد, قال: أخبرنـي أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب فـي قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ قال: أخذهم فجعلهم أرواحا, ثم صوّرهم, ثم استنطقهم, فكان روح عيسى من تلك الأرواح التـي أخذ علـيها العهد والـميثاق, فأرسل ذلك الروح إلـى مريـم, فدخـل فـي فـيها فحملت الذي خاطبها, وهو روح عيسى علـيه السلام.
وقال آخرون: معنى الروح ههنا: جبريـل علـيه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلـمته ألقاها إلـى مريـم, وألقاها أيضا إلـيها روح من الله, ثم من جبريـل علـيه السلام. ولكلّ هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ فصدّقوا يا أهل الكتاب بوحدانـية الله وربوبـيته, وأنه لا ولد له, وصدّقوا رسله فـيـما جاءوكم به من عند الله, وفـيـما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له, ولا صاحبة له, ولا ولد له. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعنـي: ولا تقولوا الأربـاب ثلاثة. ورفعت الثلاثة بـمـحذوف دلّ علـيه الظاهر, وهو «هم». ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنـما جاز ذلك لأن القول حكاية, والعرب تفعل ذلك فـي الـحكاية, ومنه قول الله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذلك كلّ ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه, ففـيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم. ثم قال لهم جلّ ثناؤه متوعدا لهم فـي قولهم العظيـم الذي قالواه فـي الله: انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزور والشك بـالله, فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِـيـله, لـما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم علـى قِـيـلكم ذلك, إن أقمتـم علـيه ولـم تنـيبوا إلـى الـحقّ الذي أمرتكم بـالإنابة إلـيه والاَجل فـي معادكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وكَفَـى بـالله وَكِيلاً.
يعنـي بقوله: إنّـمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ: ما الله أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة كما تقولون, لأن من كان له ولد فلـيس بإله, وكذلك من كان له صاحبة فغير جائز أن يكون ألها معبودا, ولكن الله الذي له الألوهة والعبـادة, إله واحد معبود, لا ولد له, ولا والد, ولا صاحبة, ولا شريك. ثم نزّه جلّ ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فـيه أعداؤه الكفرة به, فقال: سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يقول: علا الله وجلّ وعزّ وتعظم وتنزّه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. ثم أخبر جلّ ثناؤه عبـاده أن عيسى وأمه, ومن فـي السموات ومن فـي الأرض, عبـيده, وملكه, وخـلقه, وأنه رازقهم وخالقهم, وأنهم أهل حاجة وفـاقة إلـيه, احتـجاجا منه بذلك علـى من ادّعى أن الـمسيح ابنه, وأنه لو كان ابنه كما قالوا لـم يكن ذا حاجة إلـيه, ولا كان له عبدا مـملوكا, فقال: لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ يعنـي: لله ما فـي السموات وما فـي الأرض من الأشياء كلها, ملكا وخـلقا, وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم, فكيف يكون الـمسيح ابنا لله وهو فـي الأرض أو فـي السموات غير خارج من أن يكون فـي بعض هذه الأماكن
وقوله: وكَفَـى بـاللّهِ وَكِيلاً يقول: وحسب ما فـي السموات وما فـي الأرض بـالله قـيـما ومدبرا ورازقا, من الـحاجة معه إلـى غيره.
الآية : 172
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ: لن يأنف ولن يستكبر الـمسيح أنْ يَكُونَ عَبْدا لله يعنـي: من أن يكون عبدا لله. كما:
8620ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ أنْ يكُون عبدا لِلّهِ وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقّربُونَ: لن يحتشم الـمسيح أن يكون عبدا لله ولا الـملائكة.
وأما قوله: وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقَرّبُونَ فإنه يعنـي: ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بـالعبودية, والإذعان له بذلك رُسُله الـمقرّبون الذين قرّبهم الله ورفع منازلهم علـى غيرهم من خـلقه.
ورُوي عن الضحاك أنه كان يقول فـي ذلك ما:
8621ـ حدثنـي به جعفر بن مـحمد البزوري, قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد, عن الأجلـح, قال: قلت للضحاك: ما الـمقرّبون؟ قال: أقربهم إلـى السماء الثانـية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَسْتَنْكفْ عَنْ عِبـادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَـيهِ جَمِيعا.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: ومن يتعظم عن عبـادة ربه, ويأنف من التذلل والـخضوع له بـالطاعة من الـخـلق كلهم, ويستكبر عن ذلك, فَسَيْحُشُرُهُمْ إلـيه جَمِيعا يقول: فسيبعثهم يوم القـيامة جميعا, فـيجمعهم لـموعدهم عنده.
الآية : 173
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: فأما الـمؤمنون الـمقرّون بوحدانـية الله, الـخاضعون له بـالطاعة, الـمتذللون له بـالعبودية, والعاملون الصالـحات من الأعمال, وذلك أن يردوا علـى ربهم, قد آمنوا به وبرسله, وعملوا بـما أتاهم به رسله من عند ربهم, من فعل ما أمرهم به, واجتناب ما أمرهم بـاجتنابه فَـيُوَفّـيهِمْ أُجُورَهُم يقول: فـيؤتـيهم جزاء أعمالهم الصالـحة وافـيا تاما. وَيَزِيُدهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعنـي جلّ ثناؤه: ويزيدهم علـى ما وعدهم من الـجزاء علـى أعمالهم الصالـحة والثواب علـيها من الفضل والزيادة ما لـم يعرّفهم مبلغه ولـم يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عبـاده الـمؤمنـين بـالـحسنة الواحدة عشر أمثالها من الثواب والـجزاء, فذلك هو أجر كل عامل علـى عمله الصالـح من أهل الإيـمان الـمـحدود مبلغه, والزيادة علـى ذلك تفضل من الله علـيهم, وإن كان كل ذلك من فضله علـى عبـاده غير أن الذي وعد عبـاده الـمؤمنـين أن يوفـيهم فلا ينقصهم من الثواب علـى أعمالهم الصالـحة, هو ما حدّ مبلغه من العشر, والزيادة علـى ذلك غير مـحدود مبلغها, فـيزيد من شاء من خـلقه علـى ذلك قدر ما يشاء, لا حدّ لقدره يوقـف علـيه. وقد قال بعضهم: الزيادة إلـى سبعمائة ضعف. وقال آخرون: إلـى ألفـين. وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: وأمّا الّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فإنه يعنـي: وأما الذين تعظموا عن الإقرار لله بـالعبودة والإذعان له بـالطاعة, واستكبروا عن التذلل لألوهته وعبـادته وتسلـيـم الربوبـية والوحدانـية له. فَـيُعَذّبُهُمْ عَذَابـا ألِـيـما يعنـي: عذابـا موجعا. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِـيـمّا وَلا نَصِيرا يقول: ولا يجد الـمستنكفون من عبـادته والـمستكبرون عنها إذا عذبهم الله الألـيـم من عذابه سوى الله لأنفسهم ولـيا ينـجيهم من عذابه وينقذهم منه. ولا نصيرا: ولا ناصرا ينصرهم, فـيستنقذهم من ربهم, ويدفع عنهم بقوّته ما أحلّ بهم من نقمته, كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنـيا فـي الدنـيا بسوء من نصرتهم والـمدافعة عنهم.
الآية : 174
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: يا أيها الناس من جميع أصناف الـملل, يهودها ونصاراها ومشركيها, الذين قصّ الله جلّ ثناؤه قصصهم فـي هذه السورة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتـم علـيه مقـيـمون من أديانكم ومللكم, وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم, الذي جعله الله علـيكم حجة قطع بها عذركم, وأبلغ إلـيكم فـي الـمعذرة بإرساله إلـيكم, مع تعريفه إياكم صحة نبوّته وتـحقـيق رسالته. وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا يقول: وأنزلنا إلـيكم معه نورا مبـينا, يعنـي: يبـين لكم الـمـحجّة الواضحة والسبل الهادية إلـى ما فـيه لكم النـجاة من عذاب الله وألـيـم عقابه إن سلكتـموها واستنرتـم بضوئه. وذلك النور الـمبـين هو القرآن الذي أنزله الله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8622ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: حجة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
8623ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: أي بـينة من ربكم, وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا, وهو هذا القرآن.
8624ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنَ رَبّكُمْ يقول: حجة.
8625ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: برهان, قال: ببـينة وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا قال: القرآن.
الآية : 175
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً }..
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فأما الذين صدّقوا بـالله, وأقرّوا بوحدانـيته, وما بعث به مـحمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الـملل وَاعْتَصَمُوا بِهِ يقول: وتـمسكوا بـالنور الـمبـين الذي أنزل إلـى نبـيه كما:
8626ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج وَاعْتَصَمُوا بِهِ قال: بـالقرآن.
فَسَيُدْخِـلُهُمْ فِـي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ يقول: فسوف تنالهم رحمته التـي تنـجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته, ويـلـحقهم من فضله ما ألـحق أهل الإيـمان به والتصديق برسله. وَيهْدِيهِمْ إلَـيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِـيـما يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به علـى أولـيائه, ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم علـيه من أهل طاعته, ولاقتفـاء آثارهم, واتبـاع دينهم. وذلك هو الصراط الـمستقـيـم, وهو دين الله الذي ارتضاه لعبـاده, وهو الإسلام. ونصب الصراط الـمستقـيـم علـى القطع من الهاء التـي فـي قوله «إلـيه»
106
104
الآية : 171
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ وما فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أهْلَ الكِتابِ: يا أهل الإنـجيـل من النصارى, لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ يقول: لا تـجاوزوا الـحقّ فـي دينكم فتفرِطوا فـيه, ولا تقولوا فـي عيسى غير الـحقّ, فإنّ قـيـلكم فـي عيسى إنه ابن الله قول منكم علـى الله غير الـحقّ, لأن الله لـم يتـخذ ولدا, فـيكون عيسى أو غيره من خـلقه له ابنا. وَلا تَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ وأصل الغلوّ فـي كلّ شيء: مـجاوزة حده الذي هو حده, يقال منه فـي الدين قد غلا فهو يغلو غُلُوّا, وغلا بـالـجارية عظمُها ولـحمُها: إذا أسرعت الشبـاب, فجاوزت لذاتها, يغلو بها غُلُوّا وغَلاءً ومن ذلك قول الـحارث بن خالد الـمخزومي:
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشّحُهارُؤْدُ الشّبـابِ غلاِ بها عَظْمُ
8617ـ وقد حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: صاروا فريقـين: فريق غَلَوا فـي الدين, فكان غلوّهم فـيه: الشكّ فـيه والرغبة عنه. وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ رَسُولُ اللّهِ وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمُ: ما الـمسيح أيها الغالون فـي دينهم من أهل الكتاب بـابن الله كما تزعمون, ولكنه عيسى ابن مريـم دون غيرها من الـخـلق, لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جلّ ثناؤه بنعته ووصفه بصفته, فقال: هو رسول الله, أرسله الله بـالـحق إلـى من أرسله إلـيه من خـلقه. وأصل الـمسيح: الـمـمسوح, صرف من مفعول إلـى فعيـل, وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب وقـيـل: مسح من الذنوب والأدناس التـي تكون فـي الاَدميـين, كما يـمسح الشيء من الأذى الذي يكون فـيه فـيطهر منه, ولذلك قال مـجاهد ومن قال مثل قوله: الـمسيح: الصديق. وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلـمة عبرانـية أو سريانـية «مَشِيحَا» فعرّبت, فقـيـل الـمسيح, كما عرّب سائر أسماء الأنبـياء التـي فـي القرآن مثل إسماعيـل وإسحاق وموسى وعيسى.
قال أبو جعفر: ولـيس ما مثل به من ذلك للـمسيح بنظير وذلك أن إسماعيـل وإسحاق وما أشبه ذلك, أسماء لا صفـات, والـمسيح صفة, وغير جائز أن تـخاطب العرب وغيرها من أجناس الـخـلق فـي صفة شيء إلا بـمثل ما يفهم عمن خاطبها, ولو كان الـمسيح من غير كلام العرب ولـم تكن العرب تعقل معناه ما خوطبت به. وقد أتـينا من البـيان عن نظائر ذلك فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. وأما الـمسيح الدجال, فإنه أيضا بـمعنى الـمـمسوح العين, صرف من مفعول إلـى فعيـل, فمعنى الـمسيح فـي عيسى صلى الله عليه وسلم: الـمـمسوح البدن من الأدناس والاَثام, ومعنى الـمسيح فـي الدجال: الـمـمسوح العين الـيـمنى أو الـيسرى كالذي رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ذلك.
وأما قوله: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ فإنه يعنـي بـالكلـمة: الرسالة التـي أمر الله ملائكته أن تأتـي مريـم بها, بشارة من الله لها التـي ذكر الله جلّ ثناؤه فـي قوله: إذْ قالَتِ الـمَلائِكَةِ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ يعنـي: برسالة منه, وبشارة من عنده. وقد قال قتادة فـي ذلك, ما:
8618ـ حدثنابه الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ قال: هو قوله: كن فكان.
وقد بـيّنا اختلاف الـمختلفـين من أهل الإسلام فـي ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ يعنـي: أعلـمها بها وأخبرها, كما يقال: ألقـيت إلـيك كلـمة حسنة, بـمعنى أخبرتك بها, وكلـمتك بها.
وأما قوله: وَرُوحٌ مِنْه فإن أهل العلـم اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْه: ونفخة منه, لأنه حدّث عن نفخة جبريـل علـيه السلام فـي دِرْع مريـم بأمر الله إياه بذلك, فنسب إلـى أنه رُوح من الله, لأنه بأمره, كان, قال: وإنـما سمي النفخ رُوحا لأنها ريح تـخرج من الروح, واستشهدوا علـى ذلك من قولهم بقول ذي الرمة فـي صفة نار نعتها:
فلـمّا بَدَتْ كَفّنْتُها وَهْيَ طِفْلَةٌبطَلْساءَ لَـم تَكْمُل ذِرَاعا وَلا شِبْرَا
وقُلْتُ لَهُ ارْفَعْها إلَـيْكَ وأحْيِهابُروحِكَ واقْتَتْهُ لهَا قِـيتَةً قَدْرَا
وظاهِرْ لها مِن بـائسِ الشّخْتِ واستعنعلَـيها الصّبـا واجْعَلْ يدَيْكَ لها سِتْرا
فَلَـمّا جَرَتْ للْـجَزْلِ جَرْيا كأنّهُسَنا البرْقِ أحدَثْنا لـخالقها شُكْرَا
وقالوا: يعنـي بقوله: أحيها بُروحك: أي أحْيها بنفخك.
وقال بعضهم: يعنـي بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: أنه كان إنسانا بإحياء الله له بقوله: «كن», قالوا: وإنـما معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: وحياة منه, بـمعنى: إحياء الله إياه بتكوينه.
وقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ ورحمة منه كما قال جلّ ثناؤه فـي موضع آخر: وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. قال: ومعناه فـي هذا الـموضع: ورحمة منه. قال: فجعل الله عيسى رحمة منه علـى من اتبعه وآمن به وصدّقه, لأنه هداهم إلـى سبـيـل الرشاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خـلقها فصوّرها, ثم أرسلها إلـى مريـم, فدخـلت فـي فـيها, فصيرها الله تعالـى روح عيسى علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
8619ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد, قال: أخبرنـي أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب فـي قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ قال: أخذهم فجعلهم أرواحا, ثم صوّرهم, ثم استنطقهم, فكان روح عيسى من تلك الأرواح التـي أخذ علـيها العهد والـميثاق, فأرسل ذلك الروح إلـى مريـم, فدخـل فـي فـيها فحملت الذي خاطبها, وهو روح عيسى علـيه السلام.
وقال آخرون: معنى الروح ههنا: جبريـل علـيه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلـمته ألقاها إلـى مريـم, وألقاها أيضا إلـيها روح من الله, ثم من جبريـل علـيه السلام. ولكلّ هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: فَآمِنُوا بـاللّهِ وَرُسُلِهِ فصدّقوا يا أهل الكتاب بوحدانـية الله وربوبـيته, وأنه لا ولد له, وصدّقوا رسله فـيـما جاءوكم به من عند الله, وفـيـما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له, ولا صاحبة له, ولا ولد له. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعنـي: ولا تقولوا الأربـاب ثلاثة. ورفعت الثلاثة بـمـحذوف دلّ علـيه الظاهر, وهو «هم». ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنـما جاز ذلك لأن القول حكاية, والعرب تفعل ذلك فـي الـحكاية, ومنه قول الله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذلك كلّ ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه, ففـيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم. ثم قال لهم جلّ ثناؤه متوعدا لهم فـي قولهم العظيـم الذي قالواه فـي الله: انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزور والشك بـالله, فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِـيـله, لـما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم علـى قِـيـلكم ذلك, إن أقمتـم علـيه ولـم تنـيبوا إلـى الـحقّ الذي أمرتكم بـالإنابة إلـيه والاَجل فـي معادكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وكَفَـى بـالله وَكِيلاً.
يعنـي بقوله: إنّـمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ: ما الله أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة كما تقولون, لأن من كان له ولد فلـيس بإله, وكذلك من كان له صاحبة فغير جائز أن يكون ألها معبودا, ولكن الله الذي له الألوهة والعبـادة, إله واحد معبود, لا ولد له, ولا والد, ولا صاحبة, ولا شريك. ثم نزّه جلّ ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فـيه أعداؤه الكفرة به, فقال: سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يقول: علا الله وجلّ وعزّ وتعظم وتنزّه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. ثم أخبر جلّ ثناؤه عبـاده أن عيسى وأمه, ومن فـي السموات ومن فـي الأرض, عبـيده, وملكه, وخـلقه, وأنه رازقهم وخالقهم, وأنهم أهل حاجة وفـاقة إلـيه, احتـجاجا منه بذلك علـى من ادّعى أن الـمسيح ابنه, وأنه لو كان ابنه كما قالوا لـم يكن ذا حاجة إلـيه, ولا كان له عبدا مـملوكا, فقال: لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ يعنـي: لله ما فـي السموات وما فـي الأرض من الأشياء كلها, ملكا وخـلقا, وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم, فكيف يكون الـمسيح ابنا لله وهو فـي الأرض أو فـي السموات غير خارج من أن يكون فـي بعض هذه الأماكن
وقوله: وكَفَـى بـاللّهِ وَكِيلاً يقول: وحسب ما فـي السموات وما فـي الأرض بـالله قـيـما ومدبرا ورازقا, من الـحاجة معه إلـى غيره.
الآية : 172
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ: لن يأنف ولن يستكبر الـمسيح أنْ يَكُونَ عَبْدا لله يعنـي: من أن يكون عبدا لله. كما:
8620ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ أنْ يكُون عبدا لِلّهِ وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقّربُونَ: لن يحتشم الـمسيح أن يكون عبدا لله ولا الـملائكة.
وأما قوله: وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقَرّبُونَ فإنه يعنـي: ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بـالعبودية, والإذعان له بذلك رُسُله الـمقرّبون الذين قرّبهم الله ورفع منازلهم علـى غيرهم من خـلقه.
ورُوي عن الضحاك أنه كان يقول فـي ذلك ما:
8621ـ حدثنـي به جعفر بن مـحمد البزوري, قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد, عن الأجلـح, قال: قلت للضحاك: ما الـمقرّبون؟ قال: أقربهم إلـى السماء الثانـية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَسْتَنْكفْ عَنْ عِبـادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَـيهِ جَمِيعا.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: ومن يتعظم عن عبـادة ربه, ويأنف من التذلل والـخضوع له بـالطاعة من الـخـلق كلهم, ويستكبر عن ذلك, فَسَيْحُشُرُهُمْ إلـيه جَمِيعا يقول: فسيبعثهم يوم القـيامة جميعا, فـيجمعهم لـموعدهم عنده.
الآية : 173
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: فأما الـمؤمنون الـمقرّون بوحدانـية الله, الـخاضعون له بـالطاعة, الـمتذللون له بـالعبودية, والعاملون الصالـحات من الأعمال, وذلك أن يردوا علـى ربهم, قد آمنوا به وبرسله, وعملوا بـما أتاهم به رسله من عند ربهم, من فعل ما أمرهم به, واجتناب ما أمرهم بـاجتنابه فَـيُوَفّـيهِمْ أُجُورَهُم يقول: فـيؤتـيهم جزاء أعمالهم الصالـحة وافـيا تاما. وَيَزِيُدهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعنـي جلّ ثناؤه: ويزيدهم علـى ما وعدهم من الـجزاء علـى أعمالهم الصالـحة والثواب علـيها من الفضل والزيادة ما لـم يعرّفهم مبلغه ولـم يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عبـاده الـمؤمنـين بـالـحسنة الواحدة عشر أمثالها من الثواب والـجزاء, فذلك هو أجر كل عامل علـى عمله الصالـح من أهل الإيـمان الـمـحدود مبلغه, والزيادة علـى ذلك تفضل من الله علـيهم, وإن كان كل ذلك من فضله علـى عبـاده غير أن الذي وعد عبـاده الـمؤمنـين أن يوفـيهم فلا ينقصهم من الثواب علـى أعمالهم الصالـحة, هو ما حدّ مبلغه من العشر, والزيادة علـى ذلك غير مـحدود مبلغها, فـيزيد من شاء من خـلقه علـى ذلك قدر ما يشاء, لا حدّ لقدره يوقـف علـيه. وقد قال بعضهم: الزيادة إلـى سبعمائة ضعف. وقال آخرون: إلـى ألفـين. وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: وأمّا الّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فإنه يعنـي: وأما الذين تعظموا عن الإقرار لله بـالعبودة والإذعان له بـالطاعة, واستكبروا عن التذلل لألوهته وعبـادته وتسلـيـم الربوبـية والوحدانـية له. فَـيُعَذّبُهُمْ عَذَابـا ألِـيـما يعنـي: عذابـا موجعا. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِـيـمّا وَلا نَصِيرا يقول: ولا يجد الـمستنكفون من عبـادته والـمستكبرون عنها إذا عذبهم الله الألـيـم من عذابه سوى الله لأنفسهم ولـيا ينـجيهم من عذابه وينقذهم منه. ولا نصيرا: ولا ناصرا ينصرهم, فـيستنقذهم من ربهم, ويدفع عنهم بقوّته ما أحلّ بهم من نقمته, كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنـيا فـي الدنـيا بسوء من نصرتهم والـمدافعة عنهم.
الآية : 174
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: يا أيها الناس من جميع أصناف الـملل, يهودها ونصاراها ومشركيها, الذين قصّ الله جلّ ثناؤه قصصهم فـي هذه السورة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتـم علـيه مقـيـمون من أديانكم ومللكم, وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم, الذي جعله الله علـيكم حجة قطع بها عذركم, وأبلغ إلـيكم فـي الـمعذرة بإرساله إلـيكم, مع تعريفه إياكم صحة نبوّته وتـحقـيق رسالته. وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا يقول: وأنزلنا إلـيكم معه نورا مبـينا, يعنـي: يبـين لكم الـمـحجّة الواضحة والسبل الهادية إلـى ما فـيه لكم النـجاة من عذاب الله وألـيـم عقابه إن سلكتـموها واستنرتـم بضوئه. وذلك النور الـمبـين هو القرآن الذي أنزله الله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8622ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: حجة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
8623ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: أي بـينة من ربكم, وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا, وهو هذا القرآن.
8624ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنَ رَبّكُمْ يقول: حجة.
8625ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: برهان, قال: ببـينة وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا قال: القرآن.
الآية : 175
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً }..
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فأما الذين صدّقوا بـالله, وأقرّوا بوحدانـيته, وما بعث به مـحمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الـملل وَاعْتَصَمُوا بِهِ يقول: وتـمسكوا بـالنور الـمبـين الذي أنزل إلـى نبـيه كما:
8626ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج وَاعْتَصَمُوا بِهِ قال: بـالقرآن.
فَسَيُدْخِـلُهُمْ فِـي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ يقول: فسوف تنالهم رحمته التـي تنـجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته, ويـلـحقهم من فضله ما ألـحق أهل الإيـمان به والتصديق برسله. وَيهْدِيهِمْ إلَـيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِـيـما يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به علـى أولـيائه, ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم علـيه من أهل طاعته, ولاقتفـاء آثارهم, واتبـاع دينهم. وذلك هو الصراط الـمستقـيـم, وهو دين الله الذي ارتضاه لعبـاده, وهو الإسلام. ونصب الصراط الـمستقـيـم علـى القطع من الهاء التـي فـي قوله «إلـيه»
الصفحة رقم 105 من المصحف تحميل و استماع mp3