تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 117 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 117

117 : تفسير الصفحة رقم 117 من القرآن الكريم

** يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىَ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىَ مَآ أَسَرّواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ أَهُـَؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى, الذين هم أعداء الإسلام وأهله ـ قاتلهم الله ـ ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض, ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك, فقال {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} الاَية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب, حدثنا محمد يعني ابن سعيد بن سابق, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب, عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد, وكان له كاتب نصراني, فرفع إليه ذلك, فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ, هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟ فقال: إنه لا يستطيع, فقال عمر: أجنب هو ؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي, ثم قال: أخرجوه, ثم قرأ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الاَية, ثم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا عثمان بن عمر, أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين, قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الاَية, وحدثنا أبو سعيد الاَشج, حدثنا ابن فضيل عن عاصم, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب, فقال: كل, قال الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}, وروي عن أبي الزناد نحو ذلك.
وقوله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض} أي شك وريب ونفاق, يسارعون فيهم, أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر, {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين, فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى, فينفعهم ذلك. عند ذلك قال الله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} قال السدي: يعني فتح مكة. وقال غيره: يعني القضاء والفصل, {أو أمر من عنده}. قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى, {فيصبحو} يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين {على ما أسروا في أنفسهم} من الموالاة, {نادمين} أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً, ولا دفع عنهم محذوراً, بل كان عين المفسدة, فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين, لا يدرى كيف حالهم, فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين, فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين, ويحلفون على ذلك ويتأولون فبان كذبهم وافتراؤهم, ولهذا قال تعالى: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
وقد اختلف القرّاء في هذا الحرف فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله {ويقول}, ثم منهم من رفع ويقول: على الابتداء, ومنهم من نصب عطفاً على قوله {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة {يقول الذين آمنو} بغير واو, وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير. قال ابن جرير عن مجاهد {فعسى الله يأتي بالفتح أو أمر من عنده} تقديره حينئذ {يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين} واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الاَيات الكريمات, فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه, لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الاَخر أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه, فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الاَيات, وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح, رواه ابن جرير.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول, كما قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, إن لي موالي من يهود كثير عددهم, وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايه يهود, وأتولى الله ورسوله, فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي «يا أبا الحباب, ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت, فهو لك دونه» قال: قد قبلت, فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الاَيتين.
ثم قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري: قال: لما انهزم أهل بدر, قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر, فقال مالك بن الصيف: أغركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال, أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا, فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله, إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيراً سلاحهم شديدة شوكتهم, وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود, ولا مولى لي إلا الله ورسوله, فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود, إني رجل لا بد لي منهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا الحباب, أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت, فهو لك دونه» فقال: إذاً أقبل, قال: فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ـ إلى قوله تعالى ـ والله يعصمك من الناس}.
وقال: محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع, فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه, فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم, فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج, قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا محمد أحسن في موالي, قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرسلني», وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا, ثم قال «ويحك أرسلني» قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر, وثلاثمائة دارع, قد منعوني من الأحمر والأسود, تحصدني في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم لك» قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت, قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي, وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي, فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم, وقال: يا رسول الله, أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم, وأتولى الله ورسوله والمؤمنين, وأبرأ من حلف الكفار, وولايتهم, ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الاَيات في المائدة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم ـ إلى قوله ـ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عروة, عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «قد كنت أنهاك عن حب يهود» فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زراة فمات, وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته, فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه, وأشدّ منعة, وأقوم سبيلاً, كما قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}. وقال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}. أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى ههنا {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: في قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هم أهل القادسية. وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو, عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: ناس من أهل اليمن, ثم من كندة, من السّكُون.
وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا معاوية يعني ابن حفص, عن أبي زياد الحلفاني, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. قال «هؤلاء قوم من أهل اليمن, ثم من كندة, ثم من السكون, ثم من تجيب», وهذا حديث غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبة, حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث, حدثنا شعبة عن سماك, سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى الأشعري, قال: لما نزلت {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم قوم هذا». ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه. وقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه, متعززاً على خصمه وعدوه, كما قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال, فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
وقوله عز وجل {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله, وإقامة الحدود, وقتال أعدائه, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لا يردهم عن ذلك راد, ولا يصدهم عنه صاد, ولا يحيك فيهم لوم لائم, ولا عذل عاذل, قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم, وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي, وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت, وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً, وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً, وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم, وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله, فإنهن من كنز تحت العرش.
قال البخاري تفرّد ابن المبارك بهذا الحديث, وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقرراً ولم ينسخ, كما هو المشهور عن الجمهور, وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي, وأكثر الأصحاب بهذه الاَية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة, رواه ابن أبي حاتم: وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه, ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره: وصحح منها عدم الحجية, نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالاً عن الشافعي, وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا, فالله أعلم.
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه «الشامل», إجماع العلماء, على الاحتجاج بهذه الاَية على ما دلت عليه, وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الاَية الكريمة, وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم «أن الرجل يقتل بالمرأة», وفي الحديث الاَخر «المسلمون تتكافأ دماؤهم», وهذا قول جمهور العلماء, وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية, لأن ديتها على النصف من دية الرجل, وإليه ذهب أحمد في رواية, وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي, {والله واسع عليم} أي واسع الفضل, عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.
وقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنو} أي ليس اليهود بأوليائكم, بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين. وقوله {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام,وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين. وأما قوله {وهم راكعون} فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله {ويؤتون الزكاة} أي في حال ركوعهم, ولو كان هذا كذلك, لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره, لأنه ممدوح, وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى, وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الاَية نزلت فيه, وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي, حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنو} قال: هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب, وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول, حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل, قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع, فنزلت {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}, وقال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا غالب بن عبيد الله, سمعت مجاهداً يقول في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية. نزلت في علي بن أبي طالب, تصدق وهو راكع, وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية, نزلت في علي بن أبي طالب, عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.
وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كان علي بن أبي طالب قائماً يصلي, فمر سائل وهو راكع, فأعطاه خاتمه, فنزلت {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية, الضحاك لم يلق ابن عباس. وروى ابن مردويه أيضاً من طريق محمد بن السائب الكلبي, وهو متروك, عن أبي صالح, عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد, وإذا مسكين يسأل, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أعطاك أحد شيئاً ؟» قال: نعم. قال «من ؟» قال: ذلك الرجل القائم. قال «على أي حال أعطاكه ؟» قال: وهو راكع, قال «وذلك علي بن أبي طالب». قال, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} وهذا إسناد لا يُفرح به.
ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه, وعمار بن ياسر وأبي رافع, وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها, ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم, وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا عبدة عن عبد الملك, عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الاَية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} قلنا: من الذين آمنوا ؟ قال: الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب, قال: علي من الذين آمنوا, وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الاَية في جميع المؤمنين, ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد, فأعطاه خاتمه.
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي, عن ابن عباس: من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا, رواه ابن جرير, وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الاَيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود, ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, ولهذا قال تعالى بعد هذا كله {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز, لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاَخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, فهو مفلح في الدنيا والاَخرة, ومنصور في الدنيا والاَخرة, ولهذا قال تعالى في هذه الاَية الكريمة {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.

** يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين, الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون: وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة, المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي, يتخذونها هزواً يستهزئون بها, ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد, وفكرهم البارد, كما قال القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاًوآفته من الفهم السقيم
وقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار} من ههنا لبيان الجنس كقوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وقرأ بعضهم: والكفار بالخفض عطفاً, وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول, {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} تقديره ولا {الكفار أولياء} أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء, والمراد بالكفار ههنا المشركون, وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركو}.
وقوله {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء إن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً, كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شي إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}.
وقوله: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعب} أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب {اتخذوه} أيضاً {هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} معاني عبادة الله وشرائعه, وهذه صفات أتباع الشيطان الذي «إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص, أي ضراط, حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين, أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر, فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه, فيقول: اذكر كذا اذكر كذا, لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى, فإذا وجد أحدكم ذلك, فليسجد سجدتين قبل السلام» متفق عليه, وقال الزهري: قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط عن السدي في قوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعب} قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الكاذب, فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم, وأهله نيام, فسقطت شرارة فأحرقت البيت, فاحترق هو وأهله, رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال, فأمره أن يؤذن, وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة, فقال عتاب بن أسيد, لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه, وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته, فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى, فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكر ذلك لهم, فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة, حدثنا ابن جريج, أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيماً في حجر أبي محذورة, قال: قلت لأبي محذورة: يا عم إني خارج إلى الشام, وأخشى أن أسأل عن تأذينك, فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم, خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين, فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق, فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون, فصرخنا نحكيه ونستهزىء به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع» ؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا, فأرسل كلهم وحبسني, وقال «قم فأذن» فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به, فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه, قال «قل الله أكبر الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله, حي على الصلاة حي على الصلاة, حي على الفلاح حي على الفلاح, الله أكبر الله أكبر, لا إله إلا الله» ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة, ثم أمَرّها على وجهه, ثم بين ثدييه, ثم على كبده, حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة, فقال «قد أمرتك به», وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة, وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان, أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة, وهو مؤذن أهل مكة, وامتدت أيامه رضي الله عنه وأرضاه.