تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 118 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 118

118 : تفسير الصفحة رقم 118 من القرآن الكريم

** قُلْ يَـَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ * وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ * وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة, فيكون الاستثناء منقطعاً, كما في قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}, وكقوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} وفي الحديث المتفق عليه «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله», وقوله {وأن أكثركم فاسقون} معطوف على {أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون, أي خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله {من لعنه الله} أي أبعده من رحمته {وغضب عليه} أي غضباً لا يرضى بعده أبداً {وجعل منهم القردة والخنازير} كما تقدم بيانه في سورة البقرة, وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف, وقد قال سفيان الثوري, عن علقمة بن مرثد, عن المغيرة بن عبد الله, عن المعرور بن سويد, عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال «إن الله لم يهلك قوماً, أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر, كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات, عن محمد بن زيد, عن أبي الأعين العبدي, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال «لا إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم, فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم», ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا الحسن بن محبوب, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير» هذا حديث غريب جداً.
وقوله تعالى: {وعبد الطاغوت} قرىء: وعَبَدَ الطاغوتَ على أنه فعل ماض, والطاغوت منصوب به, أي وجعل منهم من عَبَدَ الطاغوت, وقرىء: وعَبَدَ الطَاغوتِ بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده, وقرىء: وعُبُدَ الطاغوتِ على أنه جمع الجمع عبد وعبيد, وعبد مثل ثمار وثُمُرْ, حكاها ابن جرير عن الأعمش, وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت, وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا, وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعُبِدَ الطاغوتُ على أنه مفعول ما لم يسم فاعله, ثم استبعد معناها, والظاهر أنه لا بعد في ذلك, لأن هذا من باب التعريض بهم, أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه, وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه, كيف يصدر منكم هذا, وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال {أولئك شر مكان} أي مما تظنون بنا {وأضل عن سواء السبيل} وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الاَخر مشاركة, كقوله عز وجل: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر وأحسن مقيل}.
وقوله تعالى: {وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر, ولهذا قال {وقد دخلو} أي عندك يا محمد {بالكفر} أي مستصحبين الكفر في قلوبهم, ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم, ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال {وهم قد خرجوا به} فخصهم به دون غيرهم, وقوله تعالى: {والله أعلم بما كانوا يكتمون} أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم, وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك, وتزينوا بما ليس فيهم, فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم, وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت} أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل, {لبئس ما كانوا يعملون}, أي لبئس العمل كان عملهم, وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
وقوله تعالى: {لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك, والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم, والأحبار هم العلماء فقط {لبئس ما كانوا يصنعون} يعني من تركهم ذلك, قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا, قال: وذلك الأمر كان, قال: ويعملون ويصنعون واحد, رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية, حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب, عن خالد بن دينار, عن ابن عباس, قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الاَية {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها, إنا لا ننهىَ, رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم, ذكره يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح, حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار, فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم, واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع, ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب» تفرد به أحمد من هذاالوجه, ورواه أبو داود عن مسدد, عن أبي الأحوص, عن أبي إسحاق, عن المنذر بن جرير, عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه, فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد, عن وكيع عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيد الله بن جرير, عن أبيه به, قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به.

** وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ * وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا {يد الله مغلولة}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس {مغلولة} أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {وقالت اليهود يد الله مغلولة} قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسور} يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال {إن الله فقير ونحن أغنياء} فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} وقد ردّ الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال {غلت أيديهم ولعنوا بما قالو} وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيراً أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} الاَية, وقال تعالى: {ضربت عليهم الذلة} الاَية.
ثم قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال {وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} والاَيات في هذا كثيرة, وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى: «أنفق, أنفق عليك» أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقوله تعالى: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفر} أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار}, وقوله تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء}, قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم {ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين} أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته, ثم قال جلا وعلا: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقو} أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم {لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود, {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم} قال ابن عباس وغيره: هو القرآن, {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير, لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة.
وقوله تعالى: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لأكلوا من فوقهم} يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً, {ومن تحت أرجلهم} يعني يخرج من الأرض بركاتها, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي, كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الاَية.
وقال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} الاَية, وقال بعضهم معناه {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه, ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف.
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} حديث علقمة عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يوشك أن يرفع العلم» فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله, وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة, أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى, فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله» ثم قرأ {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً, فقال: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد, عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فقال «وذاك عند ذهاب العلم» قال: قلنا: يا رسول الله, وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن, ونقرئه أبناءنا, وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد, إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة, أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء» هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع بإسناده نحوه, هذا إسناد صحيح.
وقوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} كقوله {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} وكقوله عن أتباع عيسى {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} الاَية, فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين, كما في قوله عز وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونه} الاَية, والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة, وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن يونس الضبي, حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن يزيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال «تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار, وواحدة في الجنة, وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة, وإحدى وسبعون منها في النار, وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة, وثنتان وسبعون في النار» قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال «الجماعات الجماعات». قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً, قال {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} إلى قوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} وتلا أيضاً قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق, وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة, وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.