تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 126 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 126

126 : تفسير الصفحة رقم 126 من القرآن الكريم

** يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم, كما قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}, وقال تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}, وقول الرسل {لا علم لن}, قال مجاهد والحسن البصري والسدي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم. قال عبد الرزاق, عن الثوري, عن الأعمش, عن مجاهد {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} فيفزعون فيقولون {لا علم لن}, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام, حدثنا عنبسة قال: سمعت شيخاً يقول: سمعت الحسن يقول في قوله {يوم يجمع الله الرسل} الاَية, قال: من هول ذلك اليوم.
وقال أسباط عن السدي {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لن} ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا {لا علم لن} ثم نزلوا منزلاً آخر, فشهدوا على قومهم, رواه ابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا الحجاج عن ابن جريج قوله {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} أي ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا {لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} يقولون للرب عز وجل: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا, رواه ابن جرير, ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة, ولا شك أنه قول حسن, وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله, أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء, فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا, ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه, وأنت العليم بكل شيء, المطلع على كل شيء, فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم, فإنك {أنت علام الغيوب}.

** إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىَ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَىَ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـَذَا إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ
يذكر تعالى ما امتنّ به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات, فقال {اذكر نعمتي عليك} أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر, وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء, {وعلى والدتك} حيث جعلتك لها برهاناً على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة, {إذ أيدتك بروح القدس} وهو جبريل عليه السلام, وجعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك, فأنطقتك في المهد صغيراً, فشهدت ببراءة أمك من كل عيب, واعترفت لي بالعبودية, وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوت إلى عبادتي, ولهذا قال {تكلم الناس في المهد وكهل} أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك وضمّن تكلم تدعو, لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.
وقوله {وإذ علمتك الكتاب والحكمة} أي الخط والفهم {والتوراة} وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم, وقد يرد لفظ التوراة في الحديث, ويراد به ما هو أعم من ذلك. وقوله {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني} أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك, فتكون طيراً بإذني أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى: {وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني} قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته. وقوله {وإذ تخرج الموتى بإذني} أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي , حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنامحمد بن طلحة يعني ابن مصرف, عن أبي بشر, عن أبي الهذيل, قال: كان عيسى ابن مريم عليه السلام إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين, يقرأ في الأولى {تبارك الذي بيده الملك}, وفي الثانية {ألم تنزيل} السجدة, فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه, ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم, يا خفي, يا دائم, يا فرد, يا وتر, يا أحد, يا صمد, وكان إذا أصابته شديدة دعا بسبعة أخر: يا حي, يا قيوم, يا الله, يا رحمن, يا ذا الجلال والإكرام, يا نور السموات والأرض وما بينهما, ورب العرش العظيم, يا رب, وهذا أثر عجيب جداً.
وقوله تعالى: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم, فكذبوك واتهموك بأنك ساحر, وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم, ورفعتك إلي, وطهرتك من دنسهم, وكفيتك شرهم, وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا, أو يكون هذا الامتنان واقعاً يوم القيامة, وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة, وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} وهذا أيضاً من الامتنان عليه, عليه السلام, بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً, ثم قيل: إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام, كما قال تعالى: {وأوحينا إلى أّم موسى أن أرضعيه} الاَية, وهو وحي إلهام بلا خلاف, وكما قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلل} الاَية, وهكذا قال بعض السلف في هذه الاَية {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي ألهموا ذلك, فامتثلوا ما ألهموا. قال الحسن البصري: ألهمهم الله عز وجل ذلك. وقال السدي: قذف في قلوبهم ذلك, ويحتمل أن يكون المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان با لله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك, فقالوا {آمنا با لله واشهد بأننا مسلمون}.