سورة المائدة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 127 من المصحف
** إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّيَ أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ
شاهذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة, فيقال سورة المائدة, وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها, فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة, وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل, ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين, فا لله أعلم, فقوله تعالى: {إذ قال الحواريون} وهم أتباع عيسى عليه السلام {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك} هذه قراءة كثيرين, وقرأ آخرون {هل تستطيع ربك} أي هل تستطيع أن تسأل ربك {أن ينزل علينا مائدة من السماء} والمائدة هي الخوان عليه الطعام, وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم, فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم, وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين, {قالوا نريد أن نأكل منه} أي نحن محتاجون إلى الأكل منها, {وتطمئن قلوبن} إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء, {ونعلم أن قد صدقتن} أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك {ونكون عليها من الشاهدين} أي ونشهد أنها الاَية من عند الله, ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرن} قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا {وآية منك} أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي, فيصدقوني فيما أبلغه عنك, {وارزقن} أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب {وأنت خير الرازقين قال لله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم} أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها, {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} اي من عالمي زمانكم, كقوله تعالى: {ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب}, وقوله {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}, وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس, عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون.
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم, فإن أجر العامل على من عمل له, ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً, فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم, كذا رواه ابن جرير, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب, عن الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث, فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد, حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء, قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها, عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس, عن عمار بن ياسر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم, وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد, فخانوا وادخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة, ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار, عن ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن جلاس, عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة, فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا, قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا, فمسخهم الله قردة وخنازير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل, قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر, فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا, فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثني حجاج عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة, نزلت على عيسى بن مريم, عليها سبعة أرغفة, وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً, فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك, يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف, عن عكرمة ومقسم, عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة, وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل, فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة, فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى, فكان يقعد عليها أربعة آلاف, وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم, فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات, وحشا الله بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار, عن إبراهيم بن عمر, عن وهب بن منبه, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الخير, أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة, كره ذلك جداً, فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض, ولا تسألوا المائدة من السماء, فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم, وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها, فأبوا إلا أن يأتيهم بها, فلذلك {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبن} الاَية, فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها, قام فألقى عنه الصوف, ولبس الشعر الأسود, وجبة من شعر, وعباءة من شعر, ثم توضأ واغتسل, ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله, فلما قضى صلاته, قام قائماً مستقبل القبلة, وصف قدميه حتى استويا, فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع, ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره, وغض بصره, وطأطأ رأسه خشوعاً, ثم أرسل عينيه بالبكاء, فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه, فلما رأى ذلك دعا الله فقال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها, وغمامة تحتها, وهم ينظرون إليها في الهواء منقضّة من فلك السماء تهوي إليهم, وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها, أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم, ولا تجعلها عذاباً, إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني, إلهي اجعلنا لك شاكرين, اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً, إلهي اجعلها سلامة وعافية, ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط, وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا, وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة, وأقبلت اليهود ينظرون, فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً, ثم انصرفوا بغيظ شديد, وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة, فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة, وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الاَية حتى نراها, ونحمد ربنا, ونذكر باسمه, ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته, أنت أولانا بذلك, وأحقنا بالكشف عنها, فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً, ثم دخل مصلاه, فصلى كذلك ركعات, ثم بكى بكاء طويلاً, ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها, ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً, ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل, وقال: بسم الله خير الرازقين, وكشف عن السفرة, فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية, ليس عليها بواسير, ليس في جوفها شوك, يسيل السمن منها سيلاً, قد نُضّدَ بها بقول من كل صنف غير الكراث, وعند رأسها خل, وعند ذنبها ملح, وحول البقول خمسة أرغفة, على واحد منها زيتون, وعلى الاَخر تمرات, وعلى الاَخر خمس رمانات, فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته, أمن طعام الدنيا هذا, أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الاَيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاَية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة, فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة, إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة, فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين, فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم, يمدكم منه ويزدكم, فإنه بديع قادر شاكر, فقالوا: يا روح الله وكلمته, إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاَية, فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاَية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة, فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت, فأحياها الله بقدرته, فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية, تلمظ كما يتلمظ الأسد, تدور عيناها, لها بصيص, وعادت عليها بواسيرها, ففزع القوم منها وانحازوا, فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الاَية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون, يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت, فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول, فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد, فقال عيسى: معاذ الله من ذلك, يبدأ بالأكل من طلبها, فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها, خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة, فتحاموها, فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم, واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم, وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله, ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة, يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ, ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء, ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون, فا ستغنى كل فقير أكل منها, وبرىء كل زمن أكل منها, فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا, وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم, وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات, قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً, الأغنياء والفقراء, والصغار والكبار, والأصحاء والمرضى, يركب بعضهم بعضاً, فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً, فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحىَ, فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا, ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله, وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى, والزمنى دون الأغنياء من الناس, وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم, وشككوا فيها الناس, وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر, وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى, أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق, فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح, طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم, فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً, وأراكم فيها الاَيات والعبر, كذبتم بها, وشككتم فيها, فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله, فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين, فلما كان في آخر الليل, مسخهم الله خنازير, فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات, هذا أثر غريب جداً, قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة, وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل, والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الاَثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم, إجابة من الله لدعوته, كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم {قال الله إني منزلها عليكم} الاَية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل, فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء, قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم هو ابن سلام, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم, وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل, وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل, وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن, وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى, وليس هو في كتابهم, ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله, وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً, ولا أقل من الاَحاد, والله أعلم, ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت, وهو الذي اختاره ابن جرير, قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى {إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق, وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاَثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب, وجد المائدة هنالك مرصعة باللاَلىء وأنواع الجواهر, فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق, فمات وهي في الطريق, فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده, فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة, ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام, فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم, عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لناربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال «وتفعلون ؟» قالوا نعم. قال فدعا, فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال «بل باب التوبة والرحمة» ثم رواه أحمد وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به.
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد, هكذا قاله قتادة وغيره, واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا, وصوبه ابن جرير قال: وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين (أحدهما) أن الكلام بلفظ المضي. (والثاني) قوله: {إن تعذبهم} و {وإن تغفر لهم} وهذان الدليلان فيهما نظر, لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الاَية, التبري منهم, ورد المشيئة فيهم إلى الله, وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الاَيات, والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر, والله أعلم, أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
وقد روي بذلك حديث مرفوع, رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز, وكان ثقة, قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة, دعي بالأنبياء وأممهم, ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها, فيقول {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} الاَية, ثم يقول {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فينكر أن يكون قال ذلك, فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك. قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده, فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة, ويرفع لهم الصليب, وينطلق بهم إلى النار» وهذا حديث غريب عزيز.
وقوله {سبحانك ما يكون لي أن أقول ماليس لي بحق} هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عمرو, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: يُلَقّى عيسى حجته, ولقاه الله تعالى في قوله {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} قال أبو هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلقاه الله {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى آخر الاَية, وقد رواه الثوري عن معمر, عن ابن طاوس, عن طاوس بنحوه.
وقوله {إن كنت قلته فقد علمته} أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب, فإنه لا يخفى عليك شيء, فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته, ولهذا قال {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} بإبلاغه {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي هذا هو الذي قلت لهم. وقوله {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة قال: انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان, فأملى على سفيان وأنا معه, فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة, عراة, غرلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده} وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم, ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال, فأقول: أصحابي, فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» ورواه البخاري عند هذه الاَية عن أبي الوليد, عن شعبة, وعن محمد بن كثير, عن سفيان الثوري, كلاهما عن المغيرة بن النعمان به.
وقوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل, فإنه الفعال لما يشاء, الذي لا يسأل عما يفعل, وهم يسألون, ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله, وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً, وهذه الاَية لها شأن عظيم, ونبأ عجيب, وقد ورد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل, حدثني فليت العامري, عن جسرة العامرية, عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فقرأ بآية حتى أصبح, يركع بها ويسجد بها {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فلما أصبح, قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الاَية, حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال «إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها, وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً».
(طريق أخرى وسياق آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى, حدثنا قدامة بن عبد الله, حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة, فانتهت إلى الربذة, فسمعت أبا ذر يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء, فصلى بالقوم, ثم تخلف أصحاب له يصلون, فلما رأى قيامهم وتخلفهم, انصرف إلى رحله, فلما رأى القوم قد أخلوا المكان, رجع إلى مكانه يصلي, فجئت فقمت خلفه, فأومأ إليّ بيمينه, فقمت عن يمينه, ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه, فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله, فقمنا ثلاثتنا. يصلي كل واحد منا بنفسه, ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو, وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة, فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود, أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة, فقال ابن مسعود بيده: لا أسأله عن شيء, حتى يحدث إليّ, فقلت: بأبي وأمي, قمت بآية من القرآن ومع(القرآن, لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه, قال «دعوت لأمتي», قلت: فماذا أجبت أو ماذا رد عليك ؟ قال «أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة» قلت: أفلا أبشر الناس ؟ قال «بلى» فانطلقت معنقاً, قريباً من قذفة بحجر, فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات, فناداه أن «ارجع» فرجع, وتلك الاَية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث, أن بكر بن سوادة حدثه, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه, فقال «اللهم أمتي» وبكى, فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فاسأله ما يبكيه, فأتاه جبريل فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم, فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين قال: حدثنا ابن لهيعة, حدثنا ابن هبيرة, أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: حدثني سعيد بن المسيب, سمعت حذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج, فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها, فلما رفع رأسه قال «إن ربي عز وجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم ؟ فقلت: ما شئت أي رب, هم خلقك وعبادك, فاستشارني الثانية فقلت له كذلك, فقال لي: لا أخزيك في أمتك يا محمد, وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً, مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب. ثم أرسل إليّ فقال: ادع تجب وسل تعط, فقلت لرسوله: أَوَمعطيّ ربي سؤلي ؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك., ولقد أعطاني ربي ولا فخر, وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر, وأنا أمشي حياً صحيحاً, وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب, وأعطاني الكوثر, وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي, وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً, وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة, وطيب لي ولأمتي الغنيمة, وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا, ولم يجعل علينا في الدين من حرج».
** قَالَ اللّهُ هَـَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * للّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام, فيما أنهاه إليه من التبري من النصاري الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله, ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز وجل, فعند ذلك يقول تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قال الضحاك: عن ابن عباس يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم, {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد} أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون, رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} وسيأتي ما يتعلق بتلك الاَية من الحديث, وروى ابن أبي حاتم ها هنا حديثاً عن أنس فقال: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان, يعني ابن عمير, أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعاً, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله, فيقول: سلوني سلوني أعطكم ـ قال ـ فيسألونه الرضا فيقول رضاي أحلكم داري, وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم, فيسألونه الرضا ـ قال ـ فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه وتعالى.
وقوله {ذلك الفوز العظيم} أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه, كما قال تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} وكما قال {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وقوله {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} أي هو الخالق للأشياء, المالك لها, المتصرف فيها, القادر عليها, فالجميع ملكه وتحت فهره وقدرته, وفي مشيئته, فلا نظير له, ولا وزير, ولا عديل, ولا والد, ولا ولد, ولاصاحبة, ولا إله غيره, ولا رب سواه, قال ابن وهب: سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو, قال آخر سورة أنزلت سورة المائدة.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 127
127 : تفسير الصفحة رقم 127 من القرآن الكريم** إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّيَ أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ
شاهذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة, فيقال سورة المائدة, وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها, فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة, وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل, ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين, فا لله أعلم, فقوله تعالى: {إذ قال الحواريون} وهم أتباع عيسى عليه السلام {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك} هذه قراءة كثيرين, وقرأ آخرون {هل تستطيع ربك} أي هل تستطيع أن تسأل ربك {أن ينزل علينا مائدة من السماء} والمائدة هي الخوان عليه الطعام, وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم, فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم, وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين, {قالوا نريد أن نأكل منه} أي نحن محتاجون إلى الأكل منها, {وتطمئن قلوبن} إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء, {ونعلم أن قد صدقتن} أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك {ونكون عليها من الشاهدين} أي ونشهد أنها الاَية من عند الله, ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرن} قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا {وآية منك} أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي, فيصدقوني فيما أبلغه عنك, {وارزقن} أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب {وأنت خير الرازقين قال لله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم} أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها, {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} اي من عالمي زمانكم, كقوله تعالى: {ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب}, وقوله {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}, وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس, عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون.
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم, فإن أجر العامل على من عمل له, ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً, فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم, كذا رواه ابن جرير, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب, عن الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث, فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد, حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء, قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها, عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس, عن عمار بن ياسر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم, وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد, فخانوا وادخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة, ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار, عن ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن جلاس, عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة, فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا, قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا, فمسخهم الله قردة وخنازير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل, قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر, فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا, فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثني حجاج عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة, نزلت على عيسى بن مريم, عليها سبعة أرغفة, وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً, فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك, يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف, عن عكرمة ومقسم, عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة, وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل, فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة, فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى, فكان يقعد عليها أربعة آلاف, وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم, فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات, وحشا الله بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار, عن إبراهيم بن عمر, عن وهب بن منبه, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الخير, أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة, كره ذلك جداً, فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض, ولا تسألوا المائدة من السماء, فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم, وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها, فأبوا إلا أن يأتيهم بها, فلذلك {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبن} الاَية, فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها, قام فألقى عنه الصوف, ولبس الشعر الأسود, وجبة من شعر, وعباءة من شعر, ثم توضأ واغتسل, ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله, فلما قضى صلاته, قام قائماً مستقبل القبلة, وصف قدميه حتى استويا, فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع, ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره, وغض بصره, وطأطأ رأسه خشوعاً, ثم أرسل عينيه بالبكاء, فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه, فلما رأى ذلك دعا الله فقال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها, وغمامة تحتها, وهم ينظرون إليها في الهواء منقضّة من فلك السماء تهوي إليهم, وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها, أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم, ولا تجعلها عذاباً, إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني, إلهي اجعلنا لك شاكرين, اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً, إلهي اجعلها سلامة وعافية, ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط, وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا, وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة, وأقبلت اليهود ينظرون, فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً, ثم انصرفوا بغيظ شديد, وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة, فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة, وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الاَية حتى نراها, ونحمد ربنا, ونذكر باسمه, ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته, أنت أولانا بذلك, وأحقنا بالكشف عنها, فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً, ثم دخل مصلاه, فصلى كذلك ركعات, ثم بكى بكاء طويلاً, ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها, ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً, ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل, وقال: بسم الله خير الرازقين, وكشف عن السفرة, فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية, ليس عليها بواسير, ليس في جوفها شوك, يسيل السمن منها سيلاً, قد نُضّدَ بها بقول من كل صنف غير الكراث, وعند رأسها خل, وعند ذنبها ملح, وحول البقول خمسة أرغفة, على واحد منها زيتون, وعلى الاَخر تمرات, وعلى الاَخر خمس رمانات, فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته, أمن طعام الدنيا هذا, أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الاَيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاَية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة, فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة, إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة, فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين, فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم, يمدكم منه ويزدكم, فإنه بديع قادر شاكر, فقالوا: يا روح الله وكلمته, إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاَية, فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاَية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة, فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت, فأحياها الله بقدرته, فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية, تلمظ كما يتلمظ الأسد, تدور عيناها, لها بصيص, وعادت عليها بواسيرها, ففزع القوم منها وانحازوا, فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الاَية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون, يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت, فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول, فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد, فقال عيسى: معاذ الله من ذلك, يبدأ بالأكل من طلبها, فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها, خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة, فتحاموها, فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم, واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم, وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله, ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة, يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ, ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء, ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون, فا ستغنى كل فقير أكل منها, وبرىء كل زمن أكل منها, فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا, وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم, وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات, قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً, الأغنياء والفقراء, والصغار والكبار, والأصحاء والمرضى, يركب بعضهم بعضاً, فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً, فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحىَ, فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا, ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله, وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى, والزمنى دون الأغنياء من الناس, وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم, وشككوا فيها الناس, وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر, وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى, أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق, فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح, طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم, فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً, وأراكم فيها الاَيات والعبر, كذبتم بها, وشككتم فيها, فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله, فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين, فلما كان في آخر الليل, مسخهم الله خنازير, فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات, هذا أثر غريب جداً, قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة, وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل, والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الاَثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم, إجابة من الله لدعوته, كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم {قال الله إني منزلها عليكم} الاَية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل, فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء, قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم هو ابن سلام, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم, وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل, وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل, وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن, وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى, وليس هو في كتابهم, ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله, وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً, ولا أقل من الاَحاد, والله أعلم, ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت, وهو الذي اختاره ابن جرير, قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى {إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق, وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاَثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب, وجد المائدة هنالك مرصعة باللاَلىء وأنواع الجواهر, فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق, فمات وهي في الطريق, فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده, فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة, ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام, فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم, عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لناربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال «وتفعلون ؟» قالوا نعم. قال فدعا, فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال «بل باب التوبة والرحمة» ثم رواه أحمد وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به.
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد, هكذا قاله قتادة وغيره, واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا, وصوبه ابن جرير قال: وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين (أحدهما) أن الكلام بلفظ المضي. (والثاني) قوله: {إن تعذبهم} و {وإن تغفر لهم} وهذان الدليلان فيهما نظر, لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الاَية, التبري منهم, ورد المشيئة فيهم إلى الله, وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الاَيات, والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر, والله أعلم, أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
وقد روي بذلك حديث مرفوع, رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز, وكان ثقة, قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة, دعي بالأنبياء وأممهم, ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها, فيقول {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} الاَية, ثم يقول {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فينكر أن يكون قال ذلك, فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك. قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده, فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة, ويرفع لهم الصليب, وينطلق بهم إلى النار» وهذا حديث غريب عزيز.
وقوله {سبحانك ما يكون لي أن أقول ماليس لي بحق} هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عمرو, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: يُلَقّى عيسى حجته, ولقاه الله تعالى في قوله {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} قال أبو هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلقاه الله {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى آخر الاَية, وقد رواه الثوري عن معمر, عن ابن طاوس, عن طاوس بنحوه.
وقوله {إن كنت قلته فقد علمته} أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب, فإنه لا يخفى عليك شيء, فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته, ولهذا قال {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} بإبلاغه {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي هذا هو الذي قلت لهم. وقوله {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة قال: انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان, فأملى على سفيان وأنا معه, فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة, عراة, غرلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده} وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم, ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال, فأقول: أصحابي, فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» ورواه البخاري عند هذه الاَية عن أبي الوليد, عن شعبة, وعن محمد بن كثير, عن سفيان الثوري, كلاهما عن المغيرة بن النعمان به.
وقوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل, فإنه الفعال لما يشاء, الذي لا يسأل عما يفعل, وهم يسألون, ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله, وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً, وهذه الاَية لها شأن عظيم, ونبأ عجيب, وقد ورد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل, حدثني فليت العامري, عن جسرة العامرية, عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فقرأ بآية حتى أصبح, يركع بها ويسجد بها {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فلما أصبح, قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الاَية, حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال «إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها, وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً».
(طريق أخرى وسياق آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى, حدثنا قدامة بن عبد الله, حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة, فانتهت إلى الربذة, فسمعت أبا ذر يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء, فصلى بالقوم, ثم تخلف أصحاب له يصلون, فلما رأى قيامهم وتخلفهم, انصرف إلى رحله, فلما رأى القوم قد أخلوا المكان, رجع إلى مكانه يصلي, فجئت فقمت خلفه, فأومأ إليّ بيمينه, فقمت عن يمينه, ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه, فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله, فقمنا ثلاثتنا. يصلي كل واحد منا بنفسه, ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو, وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة, فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود, أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة, فقال ابن مسعود بيده: لا أسأله عن شيء, حتى يحدث إليّ, فقلت: بأبي وأمي, قمت بآية من القرآن ومع(القرآن, لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه, قال «دعوت لأمتي», قلت: فماذا أجبت أو ماذا رد عليك ؟ قال «أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة» قلت: أفلا أبشر الناس ؟ قال «بلى» فانطلقت معنقاً, قريباً من قذفة بحجر, فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات, فناداه أن «ارجع» فرجع, وتلك الاَية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث, أن بكر بن سوادة حدثه, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه, فقال «اللهم أمتي» وبكى, فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فاسأله ما يبكيه, فأتاه جبريل فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم, فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين قال: حدثنا ابن لهيعة, حدثنا ابن هبيرة, أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: حدثني سعيد بن المسيب, سمعت حذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج, فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها, فلما رفع رأسه قال «إن ربي عز وجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم ؟ فقلت: ما شئت أي رب, هم خلقك وعبادك, فاستشارني الثانية فقلت له كذلك, فقال لي: لا أخزيك في أمتك يا محمد, وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً, مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب. ثم أرسل إليّ فقال: ادع تجب وسل تعط, فقلت لرسوله: أَوَمعطيّ ربي سؤلي ؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك., ولقد أعطاني ربي ولا فخر, وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر, وأنا أمشي حياً صحيحاً, وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب, وأعطاني الكوثر, وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي, وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً, وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة, وطيب لي ولأمتي الغنيمة, وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا, ولم يجعل علينا في الدين من حرج».
** قَالَ اللّهُ هَـَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * للّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام, فيما أنهاه إليه من التبري من النصاري الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله, ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز وجل, فعند ذلك يقول تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قال الضحاك: عن ابن عباس يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم, {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد} أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون, رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} وسيأتي ما يتعلق بتلك الاَية من الحديث, وروى ابن أبي حاتم ها هنا حديثاً عن أنس فقال: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان, يعني ابن عمير, أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعاً, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله, فيقول: سلوني سلوني أعطكم ـ قال ـ فيسألونه الرضا فيقول رضاي أحلكم داري, وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم, فيسألونه الرضا ـ قال ـ فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه وتعالى.
وقوله {ذلك الفوز العظيم} أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه, كما قال تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} وكما قال {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وقوله {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} أي هو الخالق للأشياء, المالك لها, المتصرف فيها, القادر عليها, فالجميع ملكه وتحت فهره وقدرته, وفي مشيئته, فلا نظير له, ولا وزير, ولا عديل, ولا والد, ولا ولد, ولاصاحبة, ولا إله غيره, ولا رب سواه, قال ابن وهب: سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو, قال آخر سورة أنزلت سورة المائدة.
الصفحة رقم 127 من المصحف تحميل و استماع mp3