تفسير الطبري تفسير الصفحة 126 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 126
127
125
 الآية : 109
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }..
يقول تعالى ذكره: واتقوا الله أيها الناس, واسمعوا وعظه إياكم وتذكيره لكم, واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ثم حذف «واحذروا» واكتفى بقوله: وَاتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا عن إظهاره, كما قال الراجز:
عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بارِداحتى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْناها
يريد: وسقيتها ماء باردا, فاستغنى بقوله «علفتها تبنا» من إظهار سقيتها, إذ كان السامع إذا سمعه عرف معناه. فكذلك في قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ حذف «واحذروا» لعلم السامع معناه, اكتفاء بقوله: واتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا إذ كان ذلك تحذيرا من أمر الله تعالى خلقه عقابه على معاصيه.
وأما قوله: ماذَا أُوجِبْتُمْ فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي والإقرار بي والعمل بطاعتي والانتهاء عن معصيتي؟ قالوا: لا علم لنا.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى قولهم: لا عِلْمَ لَنا لم يكن ذلك من الرسل إنكارا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم, ولكنهم ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم, ثم أجابوا بعد أن ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. ذكر من قال ذلك:
10190ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا قال: ذلك أنهم لما نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول, فلما سئلوا, قالوا: لا علم لنا. ثم نزلوا منزلاً آخر, فشهدوا على قومهم.
10191ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, قال: سمعت الحسن يقول, في قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ.... الاَية, قال: من هول ذلك اليوم.
10192ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن الأعمش, عن مجاهد في قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ فيفزعون, فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا عِلْمَ لَنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علمتنا. ذكر من قال ذلك:
10193ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, في قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ فيقولون: قالُوا لا عِلْمَ لَنا إلاّ ما عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ.
وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. ذكر من قال ذلك:
10194ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إلا علم أنت أعلم به منا.
وقال آخرون: معنى ذلك ماذَا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟. ذكر من قال ذلك:
10195ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا بعدكم, وماذا أحدثوا بعدكم؟ قالوا: قالُوا لا عِلْمَ لَنا إلاّ مَا عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا, لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا: لا عِلْمَ لَنا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ: أي أنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفي العلوم وجليها. فإنما نفي القوم أن يكون لهم بما سئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره, لا أنهم نفوا أن يكونوا علموا ما شاهدوا, كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنهم يخبرون بما أجابتهم به الأمم وأنهم سيشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء, فقال تعالى ذكره: وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا.
وأما الذي قاله ابن جريج من أن معناه: ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ فتأويل لا معنى له, لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يحدث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك, وإذا سئلت عما عملت الأمم بعدها والأمر كذلك فإنما يقال لها: ماذا عرّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهر خبر الله تعالى ذكره عن مسألته إياهم يدلّ على غير ذلك
الآية : 110
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىَ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَىَ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـَذَا إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ }..
يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا إذ قالَ اللّهُ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ ف «إذْ» من صلة «أجبتم», كأن معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.
فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إياها في عهد عيسى, ولم يكن في عهد عيسى من الرسل إلا أقلّ ذلك؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى عنى بقوله: فيقول ماذا أجبتم الرسل الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى. فخرج الخبر مخرج الجميع, والمراد منهم من كان في عهد عيسى, كما قال تعالى: الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والمراد: واحد من الناس, وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس.
ومعنى الكلام: إذْ قالَ اللّهُ حين قال يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ يقول: يا عيسى, اذكر أياديّ عندك وعند والدتك, إذ قوّيتك بروح القدس وأعنتك به.
وقد اختلف أهل العربية في أيدتك ما هو من الفعل, فقال بعضهم: هو فعلتك, كما في قولك: قوّيتك فعلت من القوّة.
وقال آخرون: بل هو فاعلتك من الأيد. ورُوِي عن مجاهد أنه قرأ: «إذْ آيَدْتُكَ» بمعنى: أفعلتك من القوّة والأيد. وقوله: بِرُوحِ القُدسِ يعني بجبريل, يقول: إذ أعنتك بجبريل. وقد بينت معنى ذلك وما معنى القُدُس فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: تُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلاً وَإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتّوْرَاةَ والإنْجِيلَ وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرا بإذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بإذْنِي وَإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّناتِ فقالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قِيله لعيسى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ في حال تكليمك الناس في المهد وكهلاً. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره أنه أيّده بروح القُدس صغيرا في المهد وكهلاً كبيرا, فردّ «الكهل» على قوله في «المهد» لأن معنى ذلك: صغيرا, كما قال الله تعالى ذكره: دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدا أو قائما. وقوله: وَإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتّوْرَاةَ والإنْجِيلَ يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك إذ علمتك الكتاب: وهو الخط, والحكمة: وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك وهو الإنجيل. وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةٍ الطّيْرِ يقول: كصورة الطير, بإذْنِي يعني بقوله تَخْلُقُ: تعمل وتصلح من الطين, كَهِيْئَةِ الطّيْرِ بإذْنِي يقول: بعوني على ذلك وعلم مني. فَتَنْفُخُ فِيها يقول: فتنفخ في الهيئة, فتكون الهيئة والصورة طَيْرا بإذْنِي وتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ يقول: وتشفي الأكمه: وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئا المطموس البصر, والأبْرَصَ بإذْنِي. وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: وَإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّناتِ يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك, بكّفي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك وقد هّموا بقتلك, إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّنَاتِ يقول: إذ جئتهم بالأدلة والأعلام المعجزة على نبوّتك وحقية ما أرسلتك به إليهم. فَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدوا نبوّتك وكذّبوك من بني إسرائيل: إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عما أتى به لمن رآه ونظرا إليه أنه سحر لا حقيقة له. وقرأ ذلك عامّة قراء الكوفة: «إنْ هَذَا إلاّ ساحِرٌ مُبِينٌ» بمعنى: ما هذا, يعني به عيسى, إلا ساحر مبين, يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه أنه ساحر لا نبيّ صادق.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متفقتان غير مختلفتين, وذلك أن كلّ من كان موصوفا بفعل السحر فهو موصوف بأنه ساحر, ومن كان موصوفا بأنه ساحر فإنه موصوف بفعل السحر, فالفعل دالّ على فاعله والصفة تدلّ على موصوفها, والموصوف يدلّ على صفته والفاعل يدلّ على فعله فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته.
الآية : 111
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ }..
يقول تعالى ذكره: واذكر أيضا يا عيسى إذ ألقيت إلى الحواريين, وهم وزراء عيسى على دينه. وقد بينا معنى ذلك ولم قيل لهم الحواريون فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وقد اختلف ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله: وَإذْ أوْحَيْتُ وإن كانت متفقة المعاني, فقال بعضهم بما:
10196ـ حدثني به محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيّينَ يقول قذفت في قلوبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.
فتأويل الكلام إذن: وإذ ألقيت إلى الحواريين أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى, فقالوا: آمّنا: أي صدّقنا بما أمرتنا أن نؤمن يا ربنا. واشْهَدْ علينا بأنّنا مُسْلِمُونَ يقول: واشهد علينا بأننا خاضعون لك بالذلة سامعون, مطيعون لأمرك.
الآية : 112
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ }..
يقول تعالى ذكره: واذكر يا عيسى أيضا نعمتي عليك, إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي, إذ قالوا لعيسى ابن مريم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ ف «إذ» الثانية من صلة «أوحيت».
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يَسْتَطِيعُ رَبّكَ فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: «هَلْ تَسْتَطِييِعُ» بالتاء «رَبّكَ» بالنصب, بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك, وهل تستطيع أن تدعو ربك أو هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكّين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك, وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟
10197ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا محمد بن بشر, عن نافع, عن ابن عمر, عن ابن أبي مليكة, قال: قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة, ولكن قالوا: يا عيسى, هل تستطيع ربّك؟
10198ـ حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا ابن مهدي, عن جابر بن يزيد بن رفاعة, عن حيان بن مخارق, عن سعيد بن جبير أنه قرأها كذلك: «هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبّكَ» وقال: تستطيع أن تسأل ربك؟ وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟
وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والعراق: هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ بمعنى: أن ينزّل علينا ربّك, كما يقول الرجل لصاحبه: أتستطيع أن تنهض معنا في كذا؟ وهو يعلم أنه يستطيع, ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزّل علينا؟
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ ذلك: هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ برفع الربّ, بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله: إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ من صلة «إذ أوحيت», وأن معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ. فبين إذ كان ذلك كذلك, أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه, وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك, والإقرار لله بالقدرة على كلّ شيء, وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاما منه لما قالوا: اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ففي استتابة الله إياهم, ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك, واستعظام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم, الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الربّ إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟ أن تستكبر هذا الاستكبار.
فإن ظنّ ظانّ أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم, لأن ذلك منهم كان مسألة آية, فإن الاَية إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذّبا, ليتقرّر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها, كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهبا ويفجّر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه, وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذّبي قومه, ومسألة شعيب أن يسقط كِسْفا من السماء من كفار من أرسل إليهم. وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء, على هذا الوجه كانت مسألتهم, فقد أحلهم الذين قرءوا ذلك بالتاء ونصب الربّ محلاّ أعظم من المحلّ الذي ظنوا أنهم نزّهوا ربهم عنه, أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبيّ مبعوث ورسول مرسل, وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك, وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه, إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه, وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها, فأنّي ذلك من مسألة الاَية في شيء؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه, فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى عن القوم ينبىء بخلاف ذلك, وذلك أنهم قالوا لعيسى, إذ قال لهم: اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أنْ نَأكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا. فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم, ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته, فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشكّ في دينهم وتصديق رسولهم, وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10199ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس, أنه كان يحدّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما, ثم تسألوه فيعطيَكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ قال عيسى اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمِئَنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ... إلى قوله: لا أعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالِميَن قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.
10200ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ قالوا: هل يطيعك ربك إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم فأكلوا منها.
وأما المائدة فإنها الفاعلة, من ماد فلان القوم يَمِيدُهم مَيْدا: إذا أطعمهم ومارهم ومنه قول رؤبة:
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفِينَ الأنْدادْإلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتادْ
يعني بقوله: الممتاد: المُسْتَعْطَي, فالمائدة المطعِمة سميت «الخِوانَ» بذلك, لأنها تطعم الاَكل مما عليها. والمائد: المدارُ به في البحر, يقال: ماد يَمِيدُ مَيْدا.
وأما قوله: قالَ اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ: راقبوا الله أيها القوم, وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا, فإن الله لا يعجزه شيء أراده, وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به, فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين يقول: إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ.
الآية : 113
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ }..
يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم: اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ في قولكم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ: أنّا إنما قلنا ذلك وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة, فنعلم يقينا قدرته على كلّ شيء وتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا يقول: وتسكن قلوبنا وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كلّ ما شاء وأراد, ونعلم أن قد صدقتنا, ونعلم أنك لم تكذّبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث. ونَكُونَ عَلَيْها يقول: ونكون على المائدة, مِنَ الشّاهِدِينَ يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجة لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء ولك على صدقك في نبوّتك