تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 129 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 129

129 : تفسير الصفحة رقم 129 من القرآن الكريم

** وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَقَالُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق, ومباهتتهم ومنازعتهم فيه, {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم} أي عاينوه ورأوا نزوله, وباشروا ذلك, {لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وكقوله تعالى: {وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم} {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} أي ليكون معه نذيراً, قال الله تعالى: {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون} أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه, لجاءهم من الله العذاب, كما قال الله تعالى: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين} وقوله {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} الاَية. وقوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً, أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً, لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه, ولو كان كذلك لا لتبس عليهم الأمر, كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري, كقوله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسول} فمن رحمته تعالى بخلقه, أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم, ليدعو بعضهم بعضاً, وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض, في المخاطبة والسؤال, كما قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم} الاَية, قال الضحاك عن ابن عباس في الاَية يقول: لو أتاهم ملك, ما أتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور, {وللبسنا عليهم ما يلبسون} أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون, وقال الوالبي عنه: ولشبهنا عليهم. وقوله {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه, ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة, في الدنيا والاَخرة, ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أي فكروا في أنفسكم, وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية, الذين كذبوا رسله, وعاندوهم, من العذاب والنكال والعقوبة في الدنيا, مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم, في الاَخرة, وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين.

** قُل لّمَن مّا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهما, وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة,كما ثبت في الصحيحين, من طريق الأعمش: عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لما خلق الخلق, كتب كتاباً عنده فوق العرش, إن رحمتي تغلب غضبي» وقوله {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} هذه اللام هي الموطئة للقسم, فأقسم بنفسه الكريمة, ليجمعن عباده {إلى ميقات يوم معلوم} وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه, أي لا شك فيه عند عباده المؤمنين, فأما الجاحدون المكذبون, فهم في ريبهم يترددون, وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة, حدثنا عباس بن محمد, حدثنا حسين بن محمد, حدثنا محصن بن عتبة اليماني, عن الزبير بن شبيب, عن عثمان بن حاضر, عن ابن عباس, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين, هل فيه ماء ؟ قال والذي نفسي بيده إن فيه لماء, إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء,ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك, في أيديهم عصي من نار, يذودون الكفار عن حياض الأنبياء», هذا حديث غريب, وفي الترمذي «إن لكل نبي حوضاً, وأرجو أن أكون أكثرهم وارداً» وقوله {الذين خسروا أنفسهم} أي يوم القيامة {فهم لا يؤمنون} أي لا يصدقون بالمعاد, ولا يخافون شر ذلك اليوم, ثم قال تعالى: {وله ما سكن في الليل والنهار} أي كل دابة في السموات والأرض الجميع عباده وخلقه, وتحت قهره وتصرفه وتدبيره, لا إله إلا هو, {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده, العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم, ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم, وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم {قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض} كقوله {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} والمعنى لا أتخذ ولياً إلا الله وحده لا شريك له, فإنه فاطر السموات والأرض, أي خالقهما ومبدعهما, على غير مثال سبق {وهو يطعم ولا يطعم} أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم, كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الاَية, وقرأ بعضهم ههنا {وهو يطعم ولا يطعم} أي لا يأكل, وفي حديث سهيل بن صالح: عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: دعا رجل من الأنصار, من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم على طعام, فانطلقنا معه, فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه, قال «الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم, ومن علينا فهدانا وأطعمنا, وسقانا من الشراب, وكسانا من العري, وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافاً ولا مكفور, ولا مستغنى عنه, الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام, وسقانا من الشراب, وكسانا من العري, وهدانا من الضلال, وبصرنا من العمى, وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً, الحمد لله رب العالمين» {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي من هذه الأمة {ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} يعني يوم القيامة {من يصرف عنه} أي العذاب {يومئذ فقد رحمه} يعني رحمه الله {وذلك الفوز المبين} كقوله {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} والفوز حصول الربح, ونفي الخسارة.