تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 129 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 129

128

قوله: 9- "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" أي لو جعلنا الرسول إلى النبي ملكاً يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلاً، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم، لأن كل جنس يأنس بجنسه، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته، هذا أقل حال فلا تتم المصلحة من الإرسال. وعند أن يجعله الله رجلاً: أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه. قوله: "وللبسنا عليهم ما يلبسون" أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج: المعنى للبسنا عليهم: أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق، فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم، فأعلم الله عز وجل أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون. واللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه لبساً: أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه.
ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومسلياً له 10- "ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون" يقال: حاق الشيء يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً نزل: أي فنزل ما كانوا به يستهزئون، وأحاط بهم: وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.
11- "قل سيروا في الأرض" أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" يقول: ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه، وفي قوله: " فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " يقول: سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزأوا به من كتاب الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "من قرن" قال: أمة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً" يقول: يتبع بعضها بعضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن هارون التيمي في الآية قال: المطر في إبانه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم" يقول: لو أنزلنا من السماء صحفاً فيها كتاب "فلمسوه بأيديهم" لزادهم ذلك تكذيباً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلمسوه بأيديهم" قال: فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله " وقالوا لولا أنزل عليه ملك " الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وقالوا لولا أنزل عليه ملك" قال: ملك في صورة رجل "ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر" لقامت الساعة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لقضي الأمر" يقول: لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ولو أنزلنا ملكاً" قال: ولو أتاهم ملك في صورته "لقضي الأمر" لأهلكناهم "ثم لا ينظرون" لا يؤخرون "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" يقول: لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة "وللبسنا عليهم ما يلبسون" يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" قال: في صورة رجل في خلق رجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" يقول: في صورة آدمي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: "وللبسنا عليهم" يقول: شبهنا عليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك، فأنزل الله: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ".
قوله: 12- "قل لمن ما في السموات والأرض" هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم. والمعنى: قل لهم هذا القول فإن قالوا فقل لله، وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم، أو بقيام الحجة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ولكنه كتب على نفسه الرحمة: أي وعد بها فضلاً منه وتكرماً، وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده وارتفاع الوسائط دونه، وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة، ومن رحمته لهم إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة. قوله: "ليجمعنكم إلى يوم القيامة" اللام جواب قسم محذوف. قال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: "الرحمة" ويكون ما بعدها مستأنفاً على جهة التبيين فيكون المعنى "ليجمعنكم" ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل المعنى: ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: "إلى" بمعنى في: أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل يجوز أن يكون موضع "ليجمعنكم" النصب على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى أن. والمعنى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم كما قالوا في قوله تعالى: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه" أي أن يسجنوه، وقيل إن جملة "ليجمعنكم" مسوقة للترهيب بعد الترغيب، وللوعيد بعد الوعد: أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم ثم معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة، والضمير في "لا ريب فيه" لليوم أو للجمع. قوله: "الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون". قال الزجاج: إن الموصول مرتفع على الابتداء، وما بعده خبره كما تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقال الأخفش: إن شئت كان "الذين" في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في "ليجمعنكم" أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب. لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد، ويل يجوز أن يكون "الذين" مجروراً على البدل من المكذبين الذين تقدم ذكرهم أو على النعت لهم، وقيل إنه منادى وحرف النداء مقدر.
قوله: 13- "وله ما سكن في الليل والنهار" أي لله، وخص الساكن بالذكر، لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة، وقيل المعنى: ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة.
قوله: 14- "قل أغير الله أتخذ ولياً" الاستفهام للإنكار، قال لهم: ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله ولياً، لا لاتخاذ الولي مطلقاً دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل. والمراد بالولي هنا: المعبود: أي كيف أتخذ غير الله معبوداً؟ و "فاطر السموات والأرض" مجرور على أنه نعت لاسم الله، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ، وأجاز الزجاج النصب على المدح، وأجاز أبو علي الفارسي نصبه بفعل مضمر كأنه قيل: أترك فاطر السموات والأرض. قوله: "وهو يطعم ولا يطعم" قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأول، وضمها وفتح العين في الثاني: أي يرزق ولا يرزق، وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين، وقرئ بفتح الياء والعين في الأول وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الولي المذكور، وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام لأن الحاجة إليه أمس. قوله: "قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم" أمره سبحانه بعدما تقدم من اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم إنه مأمور بأن يكون أول من أسلم وجهه لله من قومه، وأخلص من أمته، وقيل معنى "أسلم" استسلم لأمر الله، ثم نهاه الله عز وجل أن يكون من المشركين. والمعنى: أمرت بأن أكون أول من أسلم ونهيت عن الشرك: أي يقول لهم هذا.
ثم أمره أن يقول: 15- "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره أو نهيه. والخوف: توقع المكروه، وقيل هو بمعنى العلم: أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذاباً عظيماً.
قوله: 16- "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه". قرأ أهل المدينة وأهل مكة وابن عامر على البناء للمفعول: أي من يصرف عنه العذاب، واختار هذه القراءة سيبويه. وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل وهو اختيار أبي حاتم، فيكون الضمير على هذه القراءة لله. ومعنى "يومئذ" يوم العذاب العظيم "فقد رحمه" الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة، والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة: أي فذلك الصرف أو الرحمة "الفوز المبين" أي الظاهر الواضح، وقرأ أبي " من يصرف عنه ".
قوله: 17- "وإن يمسسك الله بضر" أي إن ينزل الله بك ضراً من فقر أو مرض "فلا كاشف له إلا هو" أي لا قادر على كشفه سواه "وإن يمسسك بخير" من رخاء أو عافية "فهو على كل شيء قدير" ومن جملة ذلك المس بالشر والخير.
قوله: 18- "وهو القاهر فوق عباده" القهر: الغلبة، والقاهر: الغالب، وأقهر الرجل: إذا صار مقهوراً ذليلاً، ومنه قول الشاعر: تمنى حصين أن يسود خزاعة فأمسى حصين قد أذل وأقهرا ومعنى: "فوق عباده" فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان كما تقول: السلطان فوق رعيته: أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد "وهو الحكيم" في أمره "الخبير" بأفعال عباده.