تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 128 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 128

128 : تفسير الصفحة رقم 128 من القرآن الكريم

سورة الأنعام
قال العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس, أنزلت سورة الأنعام بمكة. وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس, قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة, حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وقال سفيان الثوري, عن ليث, عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد, قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة, وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. وقال شريك. عن ليث, عن شهر, عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة, وقد طبقوا ما بين السماء والأرض. وقال السدي, عن مرة عن عبد الله, قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة, وروي نحوه من وجه آخر, عن ابن مسعود. وقال الحاكم في مستدركه. حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ, وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل, قالا: حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي, أخبرنا جعفر بن عون, حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي, حدثنا محمد بن المنكدر, عن جابر, قال: لما نزلت سورة الأنعام, سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» ثم قال صحيح على شرط مسلم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا إبراهيم ابن درستويه الفارسي, حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني عمر بن طلحة الرقاشي, عن نافع بن مالك بن أبي سهيل, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة, سد ما بين الخافقين, لهم زجل بالتسبيح, والأرض بهم ترتج» ورسول الله يقول «سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم» ثم روى ابن مردويه, عن الطبراني, عن ابراهيم بن نائلة, عن إسماعيل بن عمر, عن يوسف بن عطية, عن ابن عون, عن نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد».

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمّ قَضَىَ أَجَلاً وَأَجَلٌ مّسمّى عِندَهُ ثُمّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة وحامداً لها على خلقه السموات والأرض قراراً لعباده. وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم, فجمع لفظ الظلمات, ووحد لفظ النور, لكونه أشرف, كقوله تعالى: {عن اليمين والشمائل} وكما قال في آخر هذه السورة {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} ثم قال تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده, وجعلوا له شريكاً وعدلاً, واتخذوا له صاحبة وولداً, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً. وقوله تعالى: {هو الذي خلقكم من طين} يعني أباهم آدم, الذي هو أصلهم, ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب! وقوله {ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} قال سعيد بن جبير, عن ابن عباس {ثم قضى أجل} يعني الموت {وأجل مسمى عنده} يعني الاَخرة, وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير, والحسن وقتادة والضحاك, وزيد بن أسلم وعطية والسدي, ومقاتل بن حيان وغيرهم, وقول الحسن في رواية عنه {ثم قضى أجل} وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت {وأجل مسمى عنده} وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث, هو يرجع إلى ما تقدم, وهو تقدير الأجل الخاص, وهو عمر كل إنسان وتقدير الأجل العام, وهو عمر الدنيا بكمالها, ثم انتهائها وانقضائها وزوالها,! وانتقالها والمصير إلى الدار الاَخرة, وعن ابن عباس ومجاهد, {ثم قضى أجل} يعني مدة الدنيا, {وأجل مسمى عنده} يعني عمر الإنسان إلى حين موته, وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} الاَية, وقال عطية: عن ابن عباس {ثم قضى أجل} يعني النوم, يقبض فيه الروح, ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة, {وأجل مسمى عنده} يعني أجل موت الإنسان, وهذا قول غريب, ومعنى قوله {عنده} أي لا يعلمه إلا هو, كقوله {إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو} وكقوله {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاه} وقوله تعالى: {ثم أنتم تمترون} قال السدي وغيره: يعني تشكون في أمر الساعة, وقوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} اختلف مفسرو هذه الاَية على أقوال, بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين, تعالى عن قولهم علواً كبيراً, بأنه في كل مكان, حيث حملوا الاَية على ذلك, فالأصح من الأقوال: أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض, أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض, ويسمونه الله ويدعونه رغباً ورهباً, إلا من كفر من الجن والإنس, وهذه الاَية على هذا القول, كقوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} أي هو إله من في السماء, وإله من في الأرض, وعلى هذا فيكون قوله {يعلم سركم وجهركم} خبراً أو حالاً (والقول الثاني) أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض, من سر وجهر, فيكون قوله يعلم, متعلقاً بقوله {في السموات وفي الأرض} تقديره, وهو الله يعلم سركم وجهركم, في السموات وفي الأرض, ويعلم ما تكسبون, (والقول الثالث) أن قوله {وهو الله في السموات} وقف تام, ثم استأنف الخبر, فقال {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} وهذا اختيار ابن جرير, وقوله {ويعلم ما تكسبون} أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.

** وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السّمَآءَ عَلَيْهِم مّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين, أنهم مهما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات, على وحدانية الله وصدق رسله الكرام, فإنهم يعرضون عنها, فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها, قال الله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون} وهذا تهديد لهم,ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق, بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب, وليجدن غبه وليذوقن وباله, ثم قال تعالى واعظاً لهم ومحذراً لهم, أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم, من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة, وأكثر جمعاً وأكثر أموالاً وأولاداً واستغلالاً للأرض, وعمارة لها, فقال {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} أي من الأموال والأولاد والأعمار, والجاه العريض والسعة والجنود, ولهذا قال {وأرسلنا السماء عليهم مدرار} أي شيئاً بعد شيء {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض, أي استدراجاً وإملاء لهم {فأهلكناهم بذنوبهم} أي بخطاياهم, وسيئاتهم التي اجترحوها {وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} أي فذهب الأولون كأمس الذاهب, وجعلناهم أحاديث, {وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} أي جيلاً آخر لنختبرهم, فعملوا مثل أعمالهم, فأهلكوا كإهلاكهم, فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم, فما أنتم بأعز على الله منهم, والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم, فأنتم أولى بالعذاب, ومعاجلة العقوبة منهم, لولا لطفه وإحسانه.