تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 139 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 139

139 : تفسير الصفحة رقم 139 من القرآن الكريم

** وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه, إذ كذبوا رسله إليهم, قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش, واختاره ابن جرير, وقيل نزلت في طائفة من اليهود, وقيل في فنحاص رجل منهم, وقيل في مالك بن الصيف {قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} والأول أصح, لأن الاَية مكية, واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء, وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر, كما قال {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} وكقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسول} وقال ههنا {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قال الله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله, في جواب سلبهم العام, بإثبات قضية جزئية موجبة, {من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وهو التوراة التي قد علمتم, وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران, نوراً وهدى للناس, أي ليستضاء بها في كشف المشكلات, ويهتدى بها من ظلم الشبهات, وقوله {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثير} أي تجعلون جملتها قراطيس, أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي, الذي بأيديكم, وتحرفون منها ما تحرفون, وتبدلون وتتأولون, وتقولون هذا من عند الله, أي في كتابه المنزل, وما هو من عند الله, ولهذا قال {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثير} وقوله تعالى: {وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه, من خبر ما سبق, ونبأ ما يأتي مالم تكونوا تعلمون ذلك, لا أنتم ولا آباؤكم, وقد قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين, وقوله تعالى: {قل الله} قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس, أي قل الله أنزله, وهذا الذي قاله ابن عباس, هو المتعين في تفسير هذه الكلمة, لا ما قاله بعض المتأخرين, من أن معنى {قل الله} أي لا يكون خطابك لهم, إلا هذه الكلمة, كلمة «الله» وهذا الذي قاله هذا القائل, يكون أمراً بكلمة مفردة, من غير تركيب, والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها, وقوله {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون, حتى يأتيهم من الله اليقين, فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين ؟ وقوله {وهذا كتاب} يعني القرآن {أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى} يعني مكة {ومن حوله} من أحياء العرب, ومن سائر طوائف بني آدم, ومن عرب وعجم, كما قال في الاَية الأخرى {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميع} وقال {لأنذركم به ومن بلغ} وقال {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وقال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذير} وقال {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم, فإن أسلموا فقد اهتدوا, وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال {والذين يؤمنون بالاَخرة يؤمنون به} أي كل من آمن بالله واليوم الاَخر, يؤمن بهذا الكتاب المبارك, الذي أنزلناه إليك يا محمد, وهو القرآن {وهم على صلاتهم يحافظون} أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.

** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
يقول تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذب} أي لا أحد أظلم, ممن كذب على الله, فجعل له شركاء أو ولداً, أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله, ولهذا قال تعالى: {أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء} قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي, مما يفتريه من القول, كقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذ} الاَية, قال الله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} أي في سكراته, وغمراته, وكرباته, {والملائكة باسطو أيديهم} أي بالضرب, كقوله {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني} الاَية, وقوله {يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} الاَية, وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب, كقوله {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} ولهذا قال {والملائكة باسطو أيديهم} أي بالضرب لهم, حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم, ولهذا يقولون لهم {أخرجوا أنفسكم} وذلك أن الكافر إذا احتضر, بشرته الملائكة بالعذاب, والنكال, والأغلال, والسلاسل, والجحيم, والحميم, وغضب الرحمن الرحيم, فتتفرق روحه في جسده, وتعصي وتأبى الخروج, فتضربهم الملائكة, حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم, قائلين لهم {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق} الاَية, أي اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.
وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت وهي مقررة عند قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثاً مطولاً جداً من طريق غريبة, عن الضحاك, عن ابن عباس مرفوعاً, فالله أعلم, وقوله {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم, أول مرة} أي كما بدأناكم أعدناكم, وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه, فهذا يوم البعث, وقوله {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها, في الدار الدنيا وراء ظهوركم, وثبت في الصحيح, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « يقول ابن آدم مالي مالي, وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو تصدقت فأمضيت, وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ, فيقول الله عز وجل: أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان, فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئاً, وتلا هذه الاَية {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} الاَية, رواه ابن أبي حاتم, وقوله {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان, ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم, إن كان ثم معاد, فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب, وانزاح الضلال, وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق {أين شركائي الذين كنتم تزعمون ؟} ويقال لهم {أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ؟} ولهذا قال ههنا {وما نرى معكم شفعاءكم الذي زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي في العبادة لهم, فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: {لقد تقطع بينكم} قرىء بالرفع أي شملكم, وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل¹ {وضل عنكم} أي ذهب عنكم {ما كنتم تزعمون} من رجاء الأصنام والأنداد, كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وقال تعالى: {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} وقال {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} الاَية, وقال {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركو} إلى قوله {وضل عنهم ما كانوا يفترون} والاَيات في هذا كثيرة جداً.