تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 140 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 140

140 : تفسير الصفحة رقم 140 من القرآن الكريم

** إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى, أي يشقه في الثرى, فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها, من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى, ولهذا فسر قوله {فالق الحب والنوى} بقوله {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى, الذي هو كالجماد الميت, كقوله {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} إلى قوله {ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} وقوله {ويخرج الميت من الحي} معطوف على {فالق الحب والنوى} ثم فسره ثم عطف عليه قوله {ومخرج الميت من الحي} وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى, فمن قائل: يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه, ومن قائل: يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الاَية وتشملها.
ثم قال تعالى: {ذلكم الله} أي فاعل هذا, هو الله وحده لا شريك له {فأنى تؤفكون} أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل, فتعبدون معه غيره. وقوله {فالق الإصباح وجعل الليل سكن} أي خالق الضياء والظلام, كما قال في أول السورة {وجعل الظلمات والنور} أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح, فيضيء الوجود, ويستنير الأفق, ويضمحل الظلام, ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه, ويجيء النهار بضيائه وإشراقه, كقوله {يغشي الليل النهار يطلبه حثيث} فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة, الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه, فذكر أنه فالق الإصباح, وقابل ذلك بقوله {وجعل الليل سكن} أي ساجياً مظلماً, لتسكن فيه الأشياء, كما قال {والضحى والليل إذا سجى} وقال {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} وقال {والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاه} وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: إن الله جعل الليل سكناً إلا لصهيب, إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه, وإذا ذكر النار طار نومه, رواه ابن أبي حاتم. وقوله {والشمس والقمر حسبان} أي يجريان بحساب مقنن مقدر, لا يتغير ولا يضطرب, بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء, فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً, كما قال {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل} الاَية, وكما قال {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} وقال {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} وقوله {ذلك تقدير العزيز العليم} أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف, العليم بكل شيء, فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء, وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر, يختم الكلام بالعزة والعلم, كما ذكر في هذه الاَية, وكما في قوله {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيزالعليم} ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن, في أول سورة حم السجدة, قال {وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً, ذلك تقدير العزيز العليم} وقوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه, أن الله جعلها زينة للسماء , ورجوماً للشياطين, ويهتدى بها في الظلمات البر والبحر. وقوله {قد فصلنا الاَيات} أي قد بيناها ووضحناها {لقوم يعلمون} أي يعقلون ويعرفون الحق, ويتجنبون الباطل.

** وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يعني آدم عليه السلام, كما قال {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} وقوله {فمستقر ومستودع} اختلفوا في معنى ذلك, فعن ابن مسعود, وابن عباس, وأبي عبد الرحمن السلمي, وقيس بن أبي حازم, ومجاهد, وعطاء, وإبراهيم النخعي, والضحاك, وقتادة, والسدي, وعطاء الخراساني, وغيرهم {فمستقر} أي في الأرحام, قالوا أو أكثرهم {ومستودع} أي في الأصلاب, وعن ابن مسعود وطائفة عكسه, وعن ابن مسعود أيضاً وطائفة, فمستقر في الدنيا, ومستودع حيث يموت, وقال سعيد بن جبير: فمستقر في الأرحام, وعلى ظهر الأرض, وحيث يموت, وقال الحسن البصري: المستقر الذي قد مات, فاستقر به عمله, وعن ابن مسعود: ومستودع في الدار الاَخرة, والقول الأول أظهر, والله أعلم.
وقوله تعالى: {قد فصلنا الاَيات لقوم يفقهون} أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه, وقوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق, رحمة من الله بخلقه {فأخرجنا به نبات كل شيء} كقوله {وجعلنا من الماء كل شيء حي} {فأخرجنا منه خضر} أي زرعاً وشجراً أخضر, ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر, ولهذا قال تعالى: {نخرج منه حباً متراكب} أي يركب بعضه بعضاً كالسنابل ونحوها, {ومن النخل من طلعها قنوان} أي جمع قنو, وهي عذوق الرطب {دانية} أي قريبة من المتناول, كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس {قنوان دانية} يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض, رواه ابن جرير. قال ابن جرير: وأهل الحجاز يقولون قنوان, وقيس يقول قنوان, قال امرؤ القيس:
فأثّت أعاليه وآدت أصولهومال بقنوان من البسر أحمرا
قال: وتميم يقولون قنيان بالياء قال: وهي جمع قنو, كما أن صنوان جمع صنو, وقوله تعالى: {وجنات من أعناب} أي ونخرج منه جنات من أعناب, وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز, وربما كانا خيار الثمار في الدنيا كما امتن الله بهما على عباده, في قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسن} وكان ذلك قبل تحريم الخمر, وقال {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب} وقوله تعالى: {والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه} قال قتادة وغيره: متشابه في الورق والشكل, قريب بعضه من بعض, ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً, وقوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} أي نضجه, قاله البراء بن عازب, وابن عباس, والضحاك, وعطاء الخراساني, والسدي, وقتادة, وغيرهم, أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود, بعد أن كان حطباً, صار عنباً ورطباً, وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى, من الألوان والأشكال والطعوم والروائح, كقوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} الاَية, ولهذا قال ههنا {إن في ذلكم} أيها الناس {لاَيات} أي دلالات, على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته {لقوم يؤمنون} أي يصدقون به ويتبعون رسله.

** وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَصِفُونَ
هذا رد على المشركين, الذين عبدوا مع الله غيره, وأشركوا به في عبادته, أن عبدوا الجن, فجعلوهم شركاء له في العبادة, تعالى الله عن شركهم وكفرهم. فإن قيل: فكيف عبدت الجن, مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها, إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك, كقوله {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنهم ولأمنينهم ولاَمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولاَمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرور} وكقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} الاَية.
وقال إبراهيم لأبيه {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصي} وكقوله {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} وتقول الملائكة يوم القيامة {سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} ولهذا قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم} أي وخلقهم, فهو الخالق وحده لا شريك له, فكيف يعبد معه غيره, كقول إبراهيم {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} ومعنى الاَية, أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده, فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة, وحده لا شريك له, وقوله تعالى: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} ينبه به تعالى عن ضلال من ضل, في وصفه تعالى بأن له ولداً كما يزعم من قاله من اليهود في عزير, ومن قال من النصارى في عيسى, ومن قال من مشركي العرب في الملائكة, إنها بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ومعنى وخرقوا أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا, كما قاله علماء السلف: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وخرقوا يعني تخرصوا, وقال العوفي عنه {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} قال كذبوا وكذا قال الحسن, وقال الضحاك, وضعوا, وقال السدي قطعوا, قال ابن جرير: وتأويله إذاً وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم, وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير, {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلاً بالله وبعظمته, فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً, أن يكون له بنون وبنات, ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك, ولهذا قال {سبحانه وتعالى عما يصفون} أي تقدس وتنزه وتعاظم, عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون, من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء.

** بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنّىَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
{بديع السموات والأرض} أي مبدعهما, وخالقهما, ومنشئهما, ومحدثهما, على غير مثال سبق, كما قال مجاهد والسدي: ومنه سميت البدعة بدعة, لأنه لا نظير لها فيما سلف, {أنى يكون له ولد} أي كيف يكون ولد, {ولم تكن له صاحبة}, أي والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين, والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه, لأنه خالق كل شيء, فلا صاحبة له ولا ولد, كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّ} إلى قوله {وكلهم آتيه يوم القيامة فرد} {وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء, وأنه بكل شيء عليم, فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه, وهو الذي لا نظير له, فأنى يكون له ولد, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.