تفسير الطبري تفسير الصفحة 139 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 139
140
138
 الآية : 91
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }..
يقول تعالى ذكره: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وما أجلوا الله حقّ إجلاله, ولا عظموه حقّ تعظيمه. إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يقول: حين قالوا: لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا حيا.
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وفي تأويل ذلك فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلاً من اليهود. ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل, فقال بعضهم: كان اسمه مالك بن الصيف. وقال بعضهم: كان اسمه فَنْحاص. واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك. ذكر من قال: كان قائل ذلك مالك بن الصيف:
10623ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سيعد بن جبير, قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنْشُدكَ بالذِي أنْزَلَ التوْرَاةَ على مُوسَى, أما تَجِد فِي التوْرَاةِ أنّ اللّهَ يُبْغِضُ الحَبْر السّمِينَ؟» وكان حبرا سمينا, فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى... الاَية.
10624ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قوله: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال: نزلت في مالك بن الصيف كان من قريظة من أحبار اليهود قُلْ يا مُحَمّدُ مَنْ أنْزَلَ الكِتابِ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ... الاَية.
ذكر من قال: نزلت في فنحاص اليهودي:
10625ـ حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شيء.
وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى. ذكر من قال ذلك:
10626ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا يونس, قال: حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي, قال: جاء ناس من يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله فأنزل الله: يَسألُكَ أهْلُ الكِتابِ أن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهْرَةً... الاَية, فجثا رجل من يهود, فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل الله: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا فحلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته, وجعل يقول: «ولا عَلَى أَحَدٍ».
10627ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ... إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعلموا به, فذمهم الله في عملهم ذلك, ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إنّ من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال: يا أبا الدرداء قد علمت, فماذا علمت فيما علمت؟.
10628ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني: من بني إسرائيل. قالت اليهود: يا محمد أنزّل الله عليك كتابا؟ قال: «نعم» قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا. فأنزل الله: قُلْ يا محمد مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى الناس... إلى قوله: وَلا آباؤكُمْ قال: الله أنزله.
وقال آخرون: هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. ذكر من قال ذلك:
10629ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول: وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قالها مشركو قريش, قال: وقوله: قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وهُدًى للنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرا قال: هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا. قال: وقوله: وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ قال: هذه للمسلمين.
10630ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَما قَدَرُوا اللّهُ حَقّ قَدْرِهِ قال: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير فقد قدر الله حقّ قدره, ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حقّ قدره.
10631ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ومَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ يقول: مشركو قريش.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عني بقوله: وما قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِهِ مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أوّلاً, فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلاً, مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الاَية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود. وإذا لم يكن بما روي من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلاً من اليهود خبر صحيح متصل السند, ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع, وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئَها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان, وكان قوله: وَما قَدَرُوا حَقّ اللّهَ قَدْرِهِ موصولاً بذلك غير مفصول منه, لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ولكني أظنّ أن الذين تأوّلوا ذلك خبرا عن اليهود, وجدوا قوله: «قُلْ مَنْ الكتابَ الّذِي بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ» فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تجعلونه قراطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فجعلوا ابتداء الاَية خبرا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان, وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم.
والأصوب من القراءة في قوله: «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا» أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا, ويكن الخطاب بقوله: قُلْ منْ أنزلَ الكتابَ لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.
10632ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا».
القول في تأويل قوله تعالى: «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا».
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قُلْ يا محمد لمشركي قومك القائلين لك: ما أنزل على بشر من شيء, قل مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا يعني: جلاء وضياء من ظلمة الضلالة وَهُدًى للنّاسِ يقول: بيانا للناس, يبين لهم له الحقّ من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم, يجعلونه قراطيس يبدونها. فمن قرأ ذلك: تَجْعَلُونَهُ جعله خطابا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك, ومن قرأه بالياء: «يَجْعَلُونَهُ» فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في «يبدونها» بذكر القراطيس, والمراد منه: المكتوب في القراطيس, يراد يبدون كثيرا مما يكتبون في القراطيس, فيظهرونه للناس ويخفون كثيرا مما يثبتونه في القراطيس فيسرّونه ويكتمونه الناس. ومما كانوا يكتمونه إياهم ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته. كالذي:
10633ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: «قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا»: اليهود.
10634ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: قُلْ يا محمد «مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي بِهِ مُوسَى نُورًا وهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدونَها» يعني يهود لما أظهروا من التوراة. ويُخْفُونَ كَثِيرا مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول: «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونها ويُخْفُونَ كَثِيرا» قال: هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
يقول تعالى ذكره: وعلّمكم الله جلّ ثناؤه الكتاب الذي أنزله إليكم ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم ومن أنباء من بعدكم وما هو كائن في معادكم يوم القيامة, وَلا آباؤُكُمْ يقول: ولم يُعلمْه آباؤكم أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم. كالذي:
10635ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: وَعُلّمْتُمْ معشر العرب ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ.
10636ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول في قوله: وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال: هذه للمسلمين.
وأما قوله: قُلِ اللّهُ فإنه أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب استفهامه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونها ويُخْفُونَ كَثِيرا» بقيله: الله, كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً لِئنْ أنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَر مِنْ شَيْء عمن أنزل الكتاب الذي به موسى نُورا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلّ كَرْب ثُمّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنزله على موسى. كما:
10637ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ قال: الله أنزله.
ولو قيل: معناه: «قل هو الله» على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: قُلِ اللّهُ جوابا لهم عن مسألتهم, فإنما هو أمر من الله لمحمد بمسألة القوم: من أنزل الكتاب, فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزا من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جواب وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.
وأما قوله: ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذر هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام بعد احتجاجك عليهم في قيلهم ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بقولك مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله الله الذي أنزل عليك كتابه في خَوْضِهِمْ يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته, يقول: يستهزءون ويسخرون. وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهديد لهم يقول الله جلّ ثناؤه: ثم دعهم لاعبين يا محمد, فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد وأذيفهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غيّهم سخطي.
الآية : 92
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }..
يقول تعالى ذكره: وَهَذَا القرآن يا محمد كِتابٌ وهو اسم من أسماء القرآن قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. ومعناه: مكتوب, فوضع الكتاب مكان المكتوب. أنْزَلْناهُ يقول: أوحيناه إليك, مُبارَكٌ وهو مفاعل من البركة, مُصَدّقٌ الّذِي بينَ يَدَيْهِ يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها ولا بنبأ, وهو معنى «نورا وهدى للناس», يقول: هو الذي أنزل إليك يا محمد هذا الكتاب مباركا مصدّقا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله, ولكنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدّم الخبر عن ذلك ما يدلّ على أنه به متصل, فقال: وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك, ومعناه: وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركا, كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورا.
وأما قوله: وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا فإنه يقول: أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب مصدّقا ما قبله من الكتب, ولتنذر به عذاب الله وبأسه من في أمّ القرى وهي مكة ومن حولها شرقا وغربا من العادلين بربهم غيره من الاَلهة والأنداد, والجاحدين برسله وغيرهم من أصناف الكفار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10638ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا يعني بأمّ القرى: مكة ومن حولها من القرى إلى المشرق والمغرب.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وأمّ القرى: مكة, ومَنْ حَوْلَها: الأرض كلها.
10639ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى قال: هي مكة. وبه عن معمر, عن قتادة, قال: بلغني أن الأرض دُحِيت من مكة.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَن حَوْلَهَا كنا نحدّث أن أمّ القرى: مكة, وكنا نحدّث أن منها دُحيت الأرض.
10640ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلِتُنْذِرَ أُم القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا أما أمّ القرى: فهي مكة وإنما سميت أمّ القرى, لأنها أول بيت وضع بها. وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة أمّ القرى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالاَخِرةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ.
يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد في الاَخرة إلى الله ويصدق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد ويصدّق به ويقرّ بأن الله أنزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمره الله بإقامتها لأنه منذر من بلغه وعيد الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذب أهل التكذيب بالمعاد والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابا.
الآية : 93
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }..
يعني جلّ ذكره بقوله: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا: ومن أخطأُ قولاً وأجهلُ فعلاً ممن افترى على الله كذبا, يعني: ممن اختلق على الله كذبا, فادّعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا, وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب. وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح والحنفي مُسَيْلِمة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أحدهما النبوّة ودعوى الاَخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونفي منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
10641ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قوله: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال: نزلت في مسيلمة أخي بني عديّ بن حنيفة فيما كان يسجّع ويتكهن به. وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح, أخي بني عامر بن لؤي, كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وكان فيما يُملِي «عزيز حكيم», فيكتب «غفور رحيم», فيغيره, ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل, فيقول: «نَعَمْ سواء» فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه «عزيز حكيم», فأحوّله ثم أقول لما أكتب, فيقول نعم سواء ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم بمَرّ.
وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة. ذكر من قال ذلك:
10642ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ... إلى قوله: تُجْزَوْنَ عذَابَ الهُونِ قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم, وكان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه «سميعا عليما», كتب هو: «عليما حكيما» وإذا قال: «عليما حكيما» كتب: «سميعا عليما». فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحيَ إليّ, وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله, قال محمد: «سميعا عليما», فقلت أنا: «عليما حكيما». فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرميّ أو لبني عبد الدار, فأخذوهم فعذّبوا حتى كفروا. وجُدع أذن عمار يومئذ, فانطلق عمار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأخبره بما لقي والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنزل الله في شأن ابن أبي سَرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا فالذي أُكره عمار وأصحابه, والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح.
وقال آخرون: بل القائل: أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ مسيلمة الكذّاب. ذكر من قال ذلك:
10643ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّهُ ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيْتُ فِيما يَرَى النّائمُ كأنّ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ, فكَبُرَا عَليّ وأهمّانِي, فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما, فنَفَخْتُهُما فَطارَا, فَأوّلْتُهُما فِي مَنامي الكَذّابَيْنِ اللّذَيْنِ أنا بَيْنَهُما: كَذّابُ اليَمامَةِ مُسَيْلِمَةُ, وكذّابُ صَنْعاءَ العَنْسِيّ» وكان يقال له الأسود.
10644ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: أُوحِيَ إليّ وَلم يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال: نزلت في مسيلمة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, وزاد فيه: وأخبرني الزهري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنا أنا نائمٌ رأيْتُ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ, فَكَبُرَ ذلكَ عَليّ, فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما, فَنَفَخْتُهُما فَطارَا, فَأوّلْت ذلكَ كَذّابَ اليَمامَةِ, وكَذّابَ صَنْعاءَ العَنسِيّ».
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, أن يقال: إن الله قال: وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على الله كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ ولا تَمَانُعَ بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: إني قد قلت مثل ما قال محمد, وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين. فكان لا شكّ بذلك من قيله مفتريا كذبا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذّابين ادّعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين, وقال كلّ واحد منهما: إن الله أوحي إليه وهو كاذب في قيله.
الآية : 94
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الاَلهة والأنداد, يخبر عباده أنه يقول لهم عند ورودهم عليه:لقد جئتمونا فرادى ويعني بقوله: فرادى»: وحداناً لا مال معهم ولا أثاث ولا رفيق ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا. كمَا خَلَقْناكُمْ أوّل مَرّة عُراة غُلْفاً غُرْلاً حفاة كما ولدتهم أمهاتهم, وكما خلقهم جلّ ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهون به في الدنيا. وفرادى: جمع, يقال لواحدها: فرد, كما قال نابغة بني ذُبيان:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيَ أكَارِعُهُطاوِي المَصِيرِ كسَيْفِ الصّيْقَل الفَرَدِ
وفَرَد وفَرِيد, كما يقال: وَحَد ووَحِد ووَحِيد في واحد «الأوحاد», وقد يجمع الفَرْد الفُراد, كما يجمع الوَحْد الوُحَاد, ومنه قول الشاعر:
ترَى النّعَراتِ الزّرْقِ فوقَ لَبانهفُرادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْها صَوَاهِلُهْ
وكان يونس الجرميّ فيما ذكر عنه يقول: فراد: جمع فرد, كما قيل: توءم وتؤام للجيمع, ومنه الفرادى والرّدَافى والغوانى. ويقال: رجل فرد, وامرأة فَرْد, إذا لم يكن لها أخ, وقد فَرَدَ الرجل فهو يَفْرُد فُروداً, يراد به تفرد, فهو فارد.
10645ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال: أخبرني عمرو أن ابن أبي هلال حدثه أنه سمع القرطبي يقول: قرأت عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قول الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّل مَرّةٍ فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ, لا يَنْظُرُ الرّجالُ إلى النّساءِ ولا النّساءُ إلى الرّجالِ, شُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ».
وأما قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوّلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ فإنه يقول: خَلّفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها خلفكم في الدنيا, فلم تحملوه معكم. وهذا تعيير من الله جلّ ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم, وكلّ ما مَلّكته غيرَك وأعطيته فقد خوّلته, يقال منه: خال الرجل يخال أشدّ الخيال بكسر الخاء, وهو خائل, ومنه قول أبي النجم:
أعْطَى فلمْ يَبْخَلْ وَلمْ يُبَخّلِكُومَ الذّرَا مِنْ خَوَلِ المُخَوّلِ
وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بين زهير:
هنالكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلُواوَإنْ يُسألُوا يُعْطُوا وَإنْ يَيْسِرُوا يُغلُوا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10646ـحدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَتَرَكْتُمْ ما خَوّلْناكُمْ من المال والخدم وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: وَما نَرَى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ.
يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في النضر بن الحرث لقيله: إن اللات والعُزّى يشفعان له عند الله يوم القيامة. وقيل: إن ذلك كان قول كافة عبدة الأوثان. ذكر من قال ذلك.
10647ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أما قوله: وَما نَرَى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الاَلهة لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله وأن هذه الاَلهة شركاء لله.
10648ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة, قال: قال النضر بن الحرث: سوف تشفع لي اللات والعزّى فنزلت هذه الاَية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ... إلى قوله: شُرَكاءَ.
القول في تأويل قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
يقول تعالى مخبراً عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ يعني: تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون فاضمحلّ ذلك كله في الاَخرة, فلا أحد منهم ينصر صاحبه ولا يواصله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
10649ـ حدثني محمدبن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ البين: تواصلهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو خذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ قال: تواصلَهم في الدنيا.
10650ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ قال: وصْلكم.
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ قال: ما كان بينكم من الوصل.
10651ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني: الأرحام والمنازل.
10652ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ يقول: تقطع ما بينكم.
10653ـ حدثنا أبو كريب, قال: قال أبو بكر بن عياش: لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ: التواصل في الدنيا.
واختلفت القرّاء في قوله: بَيْنَكُمْ. فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة نصباً بمعنى: لقد تقطع ما بينكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء مكة والعراقيين: «لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنُكُمْ» رفعاً, بمعنى: لقد تقطع وصلكم.
والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب, وذلك أن العرب قد تنصب «بين» في موضع الاسم, ذكر سماعاً منها: إيابى نحوك ودُونَك وسواءَك, نصباً في موضع الرفع, وقد ذكر عنها سماعاً الرفع في «بين» إذا كان الفعل لها وجُعلت اسماً وينشد بيت مهلهل:
كأنّ رِماحَهُمْ أشْطانُ بِئْرٍبعييدٍ بينُ جالَيْها جَرُورِ برفع «بين» إذْ كانت اسماً. غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصب فيها في حال كونها صفة وفي حال كونها اسماً.
وأما قوله: وَضَلّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم