سورة الأنعام | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 141 من المصحف
** ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ
يقول تعالى: {ذلكم الله ربكم} أي الذي خلق كل شيء, ولا ولد له ولا صاحبة {لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} أي فاعبدوه وحده, لا شريك له, وأقروا له بالواحدنية, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا ولد له, ولا والد ولا صاحبة له, ولا نظير ولا عديل {وهو على كل شيء وكيل} أي حفيظ ورقيب, يدبر كل ما سواه, ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار, وقوله {لا تدركه الأبصار} فيه أقوال للأئمة من السلف (أحدها) لا تدركه في الدنيا, وإن كانت تراه في الاَخرة, كما تواترت به الأخبار, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, من غير ما طريق ثابت, في الصحاح والمسانيد والسنن, كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب, وفي رواية على الله, فإن الله تعالى قال: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} رواه ابن أبي حاتم: من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم بن أبي النجود, عن أبي الضحى, عن مسروق, ورواه غير واحد عن مسروق, وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه, وخالفها ابن عباس, فعنه: إطلاق الرؤية, وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين, والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر محمد بن مسلم, حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا يحيى بن معين, قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} قال هذا في الدنيا, وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله, أنه قال نحو ذلك. وقال آخرون {لا تدركه الأبصار} أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الاَخرة, وقال آخرون من المعتزلة, بمقتضى ما فهموه من هذه الاَية, أنه لا يرى في الدنيا ولا في الاَخرة, فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك, مع ما ارتكبوه من الجهل, بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب, فقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وقال تعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال الإمام الشافعي: فدل هذا, على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. أما السنة, فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد, وأبي هريرة, وأنس, وجريج, وصهيب, وبلال وغير واحد من الصحابة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, أن المؤمنين يرون الله في الدار الاَخرة, في العرصات وفي روضات الجنات, جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقيل المراد بقوله {لا تدركه الأبصار} أي العقول, رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين, عن الفلاس, عن ابن مهدي, عن أبي حصين يحيى بن الحصين, قارى أهل مكة, أنه قال ذلك, وهذا غريب جداً, وخلاف ظاهر الاَية, وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية, والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك, فإن الإدراك أخص من الرؤية, ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو ؟ فقيل معرفة الحقيقة, فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو, وإن رآه المؤمنون, كما أن من رأى القمر, فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته, فالعظيم أولى بذلك, وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الاَية: هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية, وهو الإحاطة, ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية, كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم, قال تعالى: {ولا يحيطون به علم} وفي صحيح مسلم «لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك» ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال لا يحيط بصر أحد بالملك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط, عن سماك, عن عكرمة, أنه قيل له {لا تدركه الأبصار} قال ألست ترى السماء ؟ قال بلى, قال فكلها ترى, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الاَية {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} قال هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به, من عظمته, وبصره محيط بهم, فذلك قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وورد في تفسير هذه الاَية حديث رواه ابن أبي حاتم ههنا, فقال: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب بن الحارث السهمي, حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن عطية العوفي, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال «لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا, صفوا صفاً واحداً, ما أحاطوا بالله أبداً» غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه, ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة, والله أعلم.
وقال آخرون في الاَية بما رواه الترمذي في جامعه, وابن أبي عاصم في كتاب السنة له, وابن أبي حاتم في تفسيره, وابن مردويه أيضاً, والحاكم في مستدركه, من حديث الحكم بن أبان, قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى, فقلت: أليس الله يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} الاَية, فقال لي: لا أم لك, ذلك نوره, الذي هو نوره, إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء, وفي رواية لا يقوم له شيء, قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وفي معنى هذا الأمر, ما ثبت في الصحيحين, من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل النهار قبل الليل, وعمل الليل قبل النهار, حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وفي الكتب المتقدمة: إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات, ولا يابس إلا تدهده, أي تدعثر, وقال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعباده المؤمنين كما يشاء, فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه, تعالى وتقدس وتنزه, فلا تدركه الأبصار.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, تثبت الرؤية في الدار الاَخرة, وتنفيها في الدنيا, وتحتج بهذه الاَية {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} فالذي نفته الإدراك, الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال, على ما هو عليه, فإن ذلك غير ممكن للبشر, ولا للملائكة, ولا لشيء, وقوله {وهو يدرك الأبصار} أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه, لأنه خلقها, كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين, كما قال السدي: في قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق, وقال أبو العالية في قوله تعالى {وهو اللطيف الخبير} قال اللطيف لاستخراجها, الخبير بمكانها, والله أعلم, وهذا كما قال تعالى إخباراً عن لقمان, فيما وعظ به ابنه {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}
** قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن, وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن أبصر فلنفسه} كقوله {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليه} ولهذا قال {ومن عمي فعليه} لما ذكر البصائر, قال {ومن عمي فعليه} أي إنما يعود وباله عليه, كقوله {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بحافظ ولا رقيب, بل أنا مبلغ, والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وقوله {وكذلك نصرف الاَيات} أي وكما فصلنا الاَيات في هذه السورة, من بيان التوحيد, وأنه لا إله إلا هو, هكذا نوضح الاَيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين, وليقول المشركون والكافرون المكذبون, دارست يا محمد من قبلك, من أهل الكتاب وقارأتهم, وتعلمت منهم, هكذا قاله ابن عباس, ومجاهد, وسعيد بن جبير, والضحاك, وغيرهم, وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت, خاصمت, جادلت, وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم, {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبه} الاَية, وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم {إنه فكر وقدّر, فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر, ثم نظر ثم عبس وبسر, ثم أدبر واستكبر, فقال إن هذا إلا سحر يؤثر, إن هذا إلا قول البشر}, وقوله {ولنبينه لقوم يعلمون} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثير} الاَية, وكقوله {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً * كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } وقال {ونزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار} وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة, على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين, وأنه يضل به من يشاء, ويهدي من يشاء.
ولهذا قال ههنا {وكذلك نصرف الاَيات وليقولوا دارست ولنبينه لقوم يعلمون} وقرأ بعضهم {وليقولوا دَرَسْتَ} قال التميمي عن ابن عباس: درست أي قرأت وتعلمت, وكذا قال مجاهد, والسدي, والضحاك, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وغير واحد, وقال عبد الرزاق: عن معمر, قال الحسن {وليقولوا دَرَسَتْ} يقول تقادمت وانمحت, وقال عبد الرزاق أيضاً : أنبأنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, سمعت ابن الزبير يقول: إن صبياناً يقرأون ها هنا دَرَسَتْ, وإنما هي دَرَسْتَ, وقال شعبة: حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: هي في قراءة ابن مسعود دَرَسَتْ, يعني بغير ألف, بنصب السين ووقف على التاء, قال ابن جرير: ومعناه انمحت وتقادمت, أي أن هذا الذي تتلوه علينا, قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, أنه قرأها دُرِسَتْ, أي قُرأت وتُعِلمت, وقال معمر عن قتادة: دُرِسَتْ قُرِأتْ, وفي حرف ابن مسعود: درس, وقال عبيد القاسم بن سلام: حدثنا حجاج, عن هارون, قال: هي في حرف أبي بن كعب, وابن مسعود وليقولوا درس, قال يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ, وهذا غريب, فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا الحسن بن ليث, حدثنا أبو سلمة, حدثنا أحمد بن أبي بزة المكي, حدثنا وهب بن زمعة, عن أبيه, عن حميد الأعرج, عن مجاهد, عن ابن عباس, عن أبي بن كعب, قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {وليقولوا دَرَسْتَ} ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة, وقال: يعني بجزم السين ونصب التاء, ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
** اتّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته {اتبع ما أوحي إليك من ربك} اي اقتد به واقتف أثره, واعمل به, فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق, الذي لا مرية فيه, لأنه لا إله إلا هو {وأعرض عن المشركين} أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم, حتى يفتح الله لك, وينصرك ويظفرك عليهم, واعلم أن لله حكمة في إضلالهم, فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً, ولو شاء لجمعهم على الهدى {ولو شاء الله ما أشركو} أي بل له المشيئة والحكمة, فيما يشاؤه ويختاره, لا يسأل عما يفعل, وهم يسألون, وقوله تعالى: {وما جعلناك عليهم حفيظ} أي حافظاً, تحفظ أقوالهم وأعمالهم {وما أنت عليهم بوكيل} أي موكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} وقال {إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
** وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سبّ آلهة المشركين, وإن كان فيه مصلحة, إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها, وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين, وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاَية: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا, أو لنهجون ربك, فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فيسبوا الله عدواً بغير علم} وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار, فيسب الكفار الله عدواً بغير علم, فأنزل الله {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسيره هذه الاَية لما حضر أبا طالب الموت: قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل, فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: كان يمنعه, فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبي ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب, قالوا: استأذن لنا على أبي طالب, فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك, يريدون الدخول عليك, فأذن لهم عليه, فدخلوا عليه, فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا, وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا, ولندعه وإلهه, فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تريدون ؟» قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا, ولندعك وإلهك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة, إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم, وأدت لكم الخراج» قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا: فما هي ؟ قال قولوا «لا إله إلا الله» فأبوا واشمأزوا, قال أبو طالب: يا ابن أخي قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها, قال «يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها, حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي, ولوأتوا بالشمس فوضعوها في يدي, ما قلت غيرها» إرادة أن يؤيسهم فغضبوا, وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك, فذلك قوله {فيسبوا الله عدواً بغير علم} ومن هذا القبيل, وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها, ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ملعون من سب والديه» قالوا: يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال «يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقوله {كذلك زينا لكل أمّة عملهم} أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم, والمحاماة لها والانتصار, كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه, ولله الحجة البالغة, والحكمة التامة, فيما يشاؤه ويختاره {ثم إلى ربهم مرجعهم} أي معادهم ومصيرهم {فينبئهم بما كانوا يعملون} أي يجازيهم بأعمالهم, إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ.
** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يقول تعالى إخباراً عن المشركين, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم, أي حلفوا أيماناً مؤكدة {لئن جاءتهم آية} أي معجزة وخارقة {ليؤمنن به} أي ليصدقنها {قل إنما الاَيات عند الله} أي قل: يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الاَيات, تعنتاً وكفراً وعناداً, لا على سبيل الهدى والاسترشاد, إنما مرجع هذه الاَيات إلى الله, إن شاء جاءكم بها, وإن شاء ترككم, قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش, فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً, وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة, فآتنا من الاَيات حتى نصدقك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي شيء تحبون أن آتيكم به», قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً, فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني ؟» قالوا: نعم, والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام, فقال له: ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهباً, ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم, وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} إلى قوله تعالى: {ولكن أكثرهم يجهلون} وهذا مرسل, وله شواهد من وجوه أخر.
وقال الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأوّلون} الاَية, وقوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم, وما يدريكم بصدقكم, في هذه الأيمان التي تقسمون بها, وعلى هذا فالقراءة {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر أنها استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الاَيات التي طلبوها, وقرأ بعضهم {أنها إذا جاءت لا تؤمنون} بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون, يقول وما يدريكم أيها المؤمنون, وعلى هذا فيجوز في قوله {أنه} الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم, وعلى هذا فتكون لا في قوله {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} صلة كقوله {ما منعك ألا تسجد إذْ أمرتك} وقوله {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك, وحرام أنهم يرجعون, وتقديره في هذه الاَية, وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك, حرصاً على إيمانهم, أنها إذا جاءتهم الاَيات يؤمنون, قال بعضهم أنها بمعنى لعلها. قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب, قال: وقد ذكر عن العرب سماعاً اذهب إلى السوق, أنك تشتري لنا شيئاً, بمعنى لعلك تشتري, قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يدريك أن منيتيإلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد) وقد اختار هذا القول ابن جرير, وذكر عليه من شواهد أشعار العرب والله أعلم. وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: لما جحد المشركون ما أنزل الله, لم تثبت قلوبهم على شيء, وردّت عن كل أمر, وقال مجاهد في قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} ونحول بينهم وبين الإيمان, ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة, وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال ابن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنه, أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه, وعملهم قبل أن يعملوه, وقال {ولا ينبئك مثل خبير} جل وعلا وقال {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إلى قوله {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} فأخبر الله سبحانه, أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى, وقال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال: ولو ردوا إلى الدنيا, لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا, وقوله {ونذرهم} أي نتركهم {في طغيانهم} قال ابن عباس والسدي: في كفرهم. وقال أبو العالية, والربيع بن أنس, وقتادة: في ضلالهم {يعمهون} قال الأعمش: يلعبون, وقال ابن عباس, ومجاهد, وأبو العالية, والربيع, وأبو مالك, وغيره: في كفرهم يترددون.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 141
141 : تفسير الصفحة رقم 141 من القرآن الكريم** ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ
يقول تعالى: {ذلكم الله ربكم} أي الذي خلق كل شيء, ولا ولد له ولا صاحبة {لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} أي فاعبدوه وحده, لا شريك له, وأقروا له بالواحدنية, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا ولد له, ولا والد ولا صاحبة له, ولا نظير ولا عديل {وهو على كل شيء وكيل} أي حفيظ ورقيب, يدبر كل ما سواه, ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار, وقوله {لا تدركه الأبصار} فيه أقوال للأئمة من السلف (أحدها) لا تدركه في الدنيا, وإن كانت تراه في الاَخرة, كما تواترت به الأخبار, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, من غير ما طريق ثابت, في الصحاح والمسانيد والسنن, كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب, وفي رواية على الله, فإن الله تعالى قال: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} رواه ابن أبي حاتم: من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم بن أبي النجود, عن أبي الضحى, عن مسروق, ورواه غير واحد عن مسروق, وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه, وخالفها ابن عباس, فعنه: إطلاق الرؤية, وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين, والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر محمد بن مسلم, حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا يحيى بن معين, قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} قال هذا في الدنيا, وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله, أنه قال نحو ذلك. وقال آخرون {لا تدركه الأبصار} أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الاَخرة, وقال آخرون من المعتزلة, بمقتضى ما فهموه من هذه الاَية, أنه لا يرى في الدنيا ولا في الاَخرة, فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك, مع ما ارتكبوه من الجهل, بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب, فقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وقال تعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال الإمام الشافعي: فدل هذا, على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. أما السنة, فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد, وأبي هريرة, وأنس, وجريج, وصهيب, وبلال وغير واحد من الصحابة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, أن المؤمنين يرون الله في الدار الاَخرة, في العرصات وفي روضات الجنات, جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقيل المراد بقوله {لا تدركه الأبصار} أي العقول, رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين, عن الفلاس, عن ابن مهدي, عن أبي حصين يحيى بن الحصين, قارى أهل مكة, أنه قال ذلك, وهذا غريب جداً, وخلاف ظاهر الاَية, وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية, والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك, فإن الإدراك أخص من الرؤية, ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو ؟ فقيل معرفة الحقيقة, فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو, وإن رآه المؤمنون, كما أن من رأى القمر, فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته, فالعظيم أولى بذلك, وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الاَية: هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية, وهو الإحاطة, ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية, كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم, قال تعالى: {ولا يحيطون به علم} وفي صحيح مسلم «لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك» ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال لا يحيط بصر أحد بالملك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط, عن سماك, عن عكرمة, أنه قيل له {لا تدركه الأبصار} قال ألست ترى السماء ؟ قال بلى, قال فكلها ترى, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الاَية {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} قال هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به, من عظمته, وبصره محيط بهم, فذلك قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وورد في تفسير هذه الاَية حديث رواه ابن أبي حاتم ههنا, فقال: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب بن الحارث السهمي, حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن عطية العوفي, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال «لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا, صفوا صفاً واحداً, ما أحاطوا بالله أبداً» غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه, ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة, والله أعلم.
وقال آخرون في الاَية بما رواه الترمذي في جامعه, وابن أبي عاصم في كتاب السنة له, وابن أبي حاتم في تفسيره, وابن مردويه أيضاً, والحاكم في مستدركه, من حديث الحكم بن أبان, قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى, فقلت: أليس الله يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} الاَية, فقال لي: لا أم لك, ذلك نوره, الذي هو نوره, إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء, وفي رواية لا يقوم له شيء, قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وفي معنى هذا الأمر, ما ثبت في الصحيحين, من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل النهار قبل الليل, وعمل الليل قبل النهار, حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وفي الكتب المتقدمة: إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات, ولا يابس إلا تدهده, أي تدعثر, وقال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعباده المؤمنين كما يشاء, فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه, تعالى وتقدس وتنزه, فلا تدركه الأبصار.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, تثبت الرؤية في الدار الاَخرة, وتنفيها في الدنيا, وتحتج بهذه الاَية {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} فالذي نفته الإدراك, الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال, على ما هو عليه, فإن ذلك غير ممكن للبشر, ولا للملائكة, ولا لشيء, وقوله {وهو يدرك الأبصار} أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه, لأنه خلقها, كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين, كما قال السدي: في قوله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق, وقال أبو العالية في قوله تعالى {وهو اللطيف الخبير} قال اللطيف لاستخراجها, الخبير بمكانها, والله أعلم, وهذا كما قال تعالى إخباراً عن لقمان, فيما وعظ به ابنه {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}
** قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن, وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن أبصر فلنفسه} كقوله {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليه} ولهذا قال {ومن عمي فعليه} لما ذكر البصائر, قال {ومن عمي فعليه} أي إنما يعود وباله عليه, كقوله {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بحافظ ولا رقيب, بل أنا مبلغ, والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وقوله {وكذلك نصرف الاَيات} أي وكما فصلنا الاَيات في هذه السورة, من بيان التوحيد, وأنه لا إله إلا هو, هكذا نوضح الاَيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين, وليقول المشركون والكافرون المكذبون, دارست يا محمد من قبلك, من أهل الكتاب وقارأتهم, وتعلمت منهم, هكذا قاله ابن عباس, ومجاهد, وسعيد بن جبير, والضحاك, وغيرهم, وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت, خاصمت, جادلت, وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم, {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبه} الاَية, وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم {إنه فكر وقدّر, فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر, ثم نظر ثم عبس وبسر, ثم أدبر واستكبر, فقال إن هذا إلا سحر يؤثر, إن هذا إلا قول البشر}, وقوله {ولنبينه لقوم يعلمون} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثير} الاَية, وكقوله {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً * كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } وقال {ونزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار} وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة, على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين, وأنه يضل به من يشاء, ويهدي من يشاء.
ولهذا قال ههنا {وكذلك نصرف الاَيات وليقولوا دارست ولنبينه لقوم يعلمون} وقرأ بعضهم {وليقولوا دَرَسْتَ} قال التميمي عن ابن عباس: درست أي قرأت وتعلمت, وكذا قال مجاهد, والسدي, والضحاك, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وغير واحد, وقال عبد الرزاق: عن معمر, قال الحسن {وليقولوا دَرَسَتْ} يقول تقادمت وانمحت, وقال عبد الرزاق أيضاً : أنبأنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, سمعت ابن الزبير يقول: إن صبياناً يقرأون ها هنا دَرَسَتْ, وإنما هي دَرَسْتَ, وقال شعبة: حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: هي في قراءة ابن مسعود دَرَسَتْ, يعني بغير ألف, بنصب السين ووقف على التاء, قال ابن جرير: ومعناه انمحت وتقادمت, أي أن هذا الذي تتلوه علينا, قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, أنه قرأها دُرِسَتْ, أي قُرأت وتُعِلمت, وقال معمر عن قتادة: دُرِسَتْ قُرِأتْ, وفي حرف ابن مسعود: درس, وقال عبيد القاسم بن سلام: حدثنا حجاج, عن هارون, قال: هي في حرف أبي بن كعب, وابن مسعود وليقولوا درس, قال يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ, وهذا غريب, فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا الحسن بن ليث, حدثنا أبو سلمة, حدثنا أحمد بن أبي بزة المكي, حدثنا وهب بن زمعة, عن أبيه, عن حميد الأعرج, عن مجاهد, عن ابن عباس, عن أبي بن كعب, قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {وليقولوا دَرَسْتَ} ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة, وقال: يعني بجزم السين ونصب التاء, ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
** اتّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته {اتبع ما أوحي إليك من ربك} اي اقتد به واقتف أثره, واعمل به, فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق, الذي لا مرية فيه, لأنه لا إله إلا هو {وأعرض عن المشركين} أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم, حتى يفتح الله لك, وينصرك ويظفرك عليهم, واعلم أن لله حكمة في إضلالهم, فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً, ولو شاء لجمعهم على الهدى {ولو شاء الله ما أشركو} أي بل له المشيئة والحكمة, فيما يشاؤه ويختاره, لا يسأل عما يفعل, وهم يسألون, وقوله تعالى: {وما جعلناك عليهم حفيظ} أي حافظاً, تحفظ أقوالهم وأعمالهم {وما أنت عليهم بوكيل} أي موكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} وقال {إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
** وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سبّ آلهة المشركين, وإن كان فيه مصلحة, إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها, وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين, وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاَية: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا, أو لنهجون ربك, فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فيسبوا الله عدواً بغير علم} وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار, فيسب الكفار الله عدواً بغير علم, فأنزل الله {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسيره هذه الاَية لما حضر أبا طالب الموت: قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل, فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: كان يمنعه, فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبي ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب, قالوا: استأذن لنا على أبي طالب, فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك, يريدون الدخول عليك, فأذن لهم عليه, فدخلوا عليه, فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا, وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا, ولندعه وإلهه, فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تريدون ؟» قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا, ولندعك وإلهك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة, إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم, وأدت لكم الخراج» قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا: فما هي ؟ قال قولوا «لا إله إلا الله» فأبوا واشمأزوا, قال أبو طالب: يا ابن أخي قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها, قال «يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها, حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي, ولوأتوا بالشمس فوضعوها في يدي, ما قلت غيرها» إرادة أن يؤيسهم فغضبوا, وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك, فذلك قوله {فيسبوا الله عدواً بغير علم} ومن هذا القبيل, وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها, ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ملعون من سب والديه» قالوا: يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال «يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقوله {كذلك زينا لكل أمّة عملهم} أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم, والمحاماة لها والانتصار, كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه, ولله الحجة البالغة, والحكمة التامة, فيما يشاؤه ويختاره {ثم إلى ربهم مرجعهم} أي معادهم ومصيرهم {فينبئهم بما كانوا يعملون} أي يجازيهم بأعمالهم, إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ.
** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يقول تعالى إخباراً عن المشركين, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم, أي حلفوا أيماناً مؤكدة {لئن جاءتهم آية} أي معجزة وخارقة {ليؤمنن به} أي ليصدقنها {قل إنما الاَيات عند الله} أي قل: يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الاَيات, تعنتاً وكفراً وعناداً, لا على سبيل الهدى والاسترشاد, إنما مرجع هذه الاَيات إلى الله, إن شاء جاءكم بها, وإن شاء ترككم, قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش, فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً, وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة, فآتنا من الاَيات حتى نصدقك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي شيء تحبون أن آتيكم به», قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً, فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني ؟» قالوا: نعم, والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام, فقال له: ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهباً, ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم, وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} إلى قوله تعالى: {ولكن أكثرهم يجهلون} وهذا مرسل, وله شواهد من وجوه أخر.
وقال الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأوّلون} الاَية, وقوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم, وما يدريكم بصدقكم, في هذه الأيمان التي تقسمون بها, وعلى هذا فالقراءة {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر أنها استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الاَيات التي طلبوها, وقرأ بعضهم {أنها إذا جاءت لا تؤمنون} بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون, يقول وما يدريكم أيها المؤمنون, وعلى هذا فيجوز في قوله {أنه} الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم, وعلى هذا فتكون لا في قوله {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} صلة كقوله {ما منعك ألا تسجد إذْ أمرتك} وقوله {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك, وحرام أنهم يرجعون, وتقديره في هذه الاَية, وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك, حرصاً على إيمانهم, أنها إذا جاءتهم الاَيات يؤمنون, قال بعضهم أنها بمعنى لعلها. قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب, قال: وقد ذكر عن العرب سماعاً اذهب إلى السوق, أنك تشتري لنا شيئاً, بمعنى لعلك تشتري, قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يدريك أن منيتيإلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد) وقد اختار هذا القول ابن جرير, وذكر عليه من شواهد أشعار العرب والله أعلم. وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: لما جحد المشركون ما أنزل الله, لم تثبت قلوبهم على شيء, وردّت عن كل أمر, وقال مجاهد في قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} ونحول بينهم وبين الإيمان, ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة, وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال ابن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنه, أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه, وعملهم قبل أن يعملوه, وقال {ولا ينبئك مثل خبير} جل وعلا وقال {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إلى قوله {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} فأخبر الله سبحانه, أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى, وقال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال: ولو ردوا إلى الدنيا, لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا, وقوله {ونذرهم} أي نتركهم {في طغيانهم} قال ابن عباس والسدي: في كفرهم. وقال أبو العالية, والربيع بن أنس, وقتادة: في ضلالهم {يعمهون} قال الأعمش: يلعبون, وقال ابن عباس, ومجاهد, وأبو العالية, والربيع, وأبو مالك, وغيره: في كفرهم يترددون.
الصفحة رقم 141 من المصحف تحميل و استماع mp3