تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 153 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 153

153 : تفسير الصفحة رقم 153 من القرآن الكريم

** قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
قيل المراد بالخطاب في {اهبطو} آدم وحواء وإبليس والحية, ومنهم من لم يذكر الحية, والله أعلم, والعمدة في العداوة آدم وإبليس, ولهذا قال تعالى في سورة طه قال {اهبطا منها جميع} الاَية, وحواء تبع لاَدم, والحية إن كان ذكرها صحيحاً فهي تبع لإبليس, وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات, والله أعلم بصحتها, ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم, لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم, وقوله {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة, قد جرى بها القلم وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول, وقال ابن عباس {مستقر} القبور, وعنه قال {مستقر} فوق الأرض وتحتها, رواهما ابن أبي حاتم, وقوله {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} كقوله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} يخبر تعالى, أنه جعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدنيا, فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة, الذي يجمع الله فيه الأولين والاَخرين ويجازي كلاً بعمله.

** يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ
يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش, فاللباس ستر العورات وهي السوآت, والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً, فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات, قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه: الرياش المال وهكذا قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد, وقال العوفي عن ابن عباس: الريش اللباس والعيش والنعيم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرياش الجمال, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أصبع عن أبي العلاء الشامي, قال: لبس أبو أمامة ثوباً جديداً فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استجد ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حياً وميتاً» ورواه الترمذي وابن ماجه من رواية يزيد بن هارون عن أصبع هو ابن زيد الجهني, وقد وثقه يحيى بن معين وغيره, وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف إلا بهذا الحديث, ولكن لم يخرجه أحد, والله أعلم.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا مختار بن نافع التمار عن أبي مطر, أنه رأى علياً رضي اللهعنه أتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين, يقول حين لبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي, فقيل هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي» ورواه الإمام أحمد, وقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} قرأ بعضهم ولباس التقوى بالنصب, وقرأ الاَخرون بالرفع على الابتداء, و{ذلك خير} خبره, واختلف المفسرون في معناه, فقال عكرمة: يقال هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة, رواه ابن أبي حاتم, وقال زيد بن علي والسدي وقتادة وابن جريج: ولباس التقوى الإيمان, وقال العوفي عن ابن عباس: العمل الصالح, قال الديال بن عمرو عن ابن عباس: هو السمت الحسن في الوجه, وعن عروة بن الزبير: لباس التقوى خشية الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى, وكلها متقاربة, ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال: حدثني المثنى حدثنا إسحاق بن الحجاج, حدثني إسحاق بن إسماعيل عن سليمان بن أرقم عن الحسن, قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص فوهي محلول الزر, وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية, إن خيراً فخير وإن شراً فشر» ثم قرأ هذه الاَية {وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله} قال: السمت الحسن, هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم, وفيه ضعف, وقد روى الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب الأدب من طرق صحيحة عن الحسن البصري, أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر, وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهداً من وجه آخر حيث قال حدثنا).

** يَابَنِيَ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله, مبيناً لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام, في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء, والتسبب في هتك عورته بعد ما كانت مستورة عنه, وما هذا إلا عن عداوة أكيدة, وهذا كقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدل}.

** وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا به} الاَية, قلت: كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها, وكانت قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم, ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه, ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد, ومن لم يجد ثوباً جديداً, ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً, وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل, وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم, ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع, فأنكر الله تعالى عليهم ذلك, فقال {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا به} فقال تعالى رداً عليهم {قل} أي يا محمد لمن ادعى ذلك {إن الله لا يأمر بالفحشاء} أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة, والله لا يأمر بمثل ذلك {أتقولون على الله مالا تعلمون} أي أتسندون إلى الله من الأقوال مالا تعلمون صحته, وقوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط} أي بالعدل والاستقامة {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات, فيما أخبروا به عن الله وما جاؤوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته, فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين, أن يكون صواباً موافقاً للشريعة وأن يكون خالصاً من الشرك.
وقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} إلى قوله {الضلالة} اختلف في معنى قوله {كما بدأكم تعودون} فقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} يحييكم بعد موتكم, وقال الحسن البصري: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء, وقال قتادة {كما بدأكم تعودون} قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً, واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير, وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة, وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث الثوري به, وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} قال يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً وقال أبو العالية {كما بدأكم تعودون} ردّوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون كما كتب عليكم تكونون, وفي رواية كما كنتم عليه تكونون, وقال محمد بن كعب القرظي: في قوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة, ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدؤوا عليه, وقال السدي {كما بدأكم} تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} يقول {كما بدأكم تعودون} كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله {كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً, كما قال {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمناً وكافراً: قلت: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري «فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب, فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة». وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد, وقال ابن جرير: حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه, عن الأعمش به, ولفظه «يبعث كل عبد على ما مات عليه» وعن ابن عباس مثله, قلت: ويتأيد بحديث ابن مسعود, قلت: ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الاَية, وبين قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليه} وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه».
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى «إني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» الحديث, ووجه الجمع على هذا, أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال, وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره, كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وفي الحديث «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» وقدر الله نافذ في بريته, فإنه هو {الذي قدر فهدى} و {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وفي الصحيحين «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة, وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة» ولهذا قال تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} ثم علل ذلك فقال {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} الاَية, قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها, إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها, لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد, وفريق الهدى فرق, وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية.