تفسير الطبري تفسير الصفحة 153 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 153
154
152
 الآية : 23
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن آدم وحوّاء فيما أجاباه به, واعترافهما على أنفسهما بالذنب, ومسئلتهما إياه المغفرة منه والرحمة, خلاف جواب اللعين إبليس إياه. ومعنى قوله: قالا رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا قال: آدم وحوّاء لربهما: يا ربنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك وبطاعتنا عدوّنا وعدوّك, فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها. وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا, وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه, وترحمنا بتعطفك علينا, وتركك أخذنا به لَنَكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ يعني: لنكوننّ من الهالكين. وقد بيّنا معنى الخاسر فيما مضى بشواهده والرواية فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
11278ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: قال آدم عليه السلام: يا ربّ, أرأيت إن تبت واستغفرتك؟ قال: إذا أدخلك الجنة وأما إبليس فلم يسأله التوبة, وسأل النظِرة, فأعطى كلّ واحد منهما ما سأل.
11279ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإن لَمْ تَغْفِرْ لَنا... الاَية, قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
الآية : 24
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ }.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذرّيته وآدم وولده والحية, يقول تعالى ذكره لاَدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض بعضكم لبعض عدوّ. كما:
11280ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن طلحة, عن أسباط, عن السديّ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: فلعن الحية, وقطع قوائمها, وتركها تمشي على بطنها, وجعل رزقها من التراب, وأهبطوا إلى الأرض, آدم وحوّاء وإبليس والحية.
11281ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبي عوانة, عن إسماعيل بن سالم, عن أبي صالح: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم وحوّاء والحية.
وقوله: وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ يقول: ولكم يا آدم وحوّاء وإبليس والحية, في الأرض قرار تستقرّونه وفراش تمتهدونه. كما:
11282ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا آدم العسقلاني, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, في قوله: وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: هو قوله: الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا. ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما:
11283ـ حُدثت عن عبيد الله, عن إسرائيل, عن السديّ, عمن حدثه, عن ابن عباس, قوله: وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: القبور.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر آدم وحوّاء وإبليس والحية إذ أهبطوا إلى الأرض, أنهم عدوّ بعضهم لبعض, وأنّ لهم فيها مستقرّا يستقرّون فيه, ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرّا في حال حياتهم دون حال موتهم, بل عمّ الخبر عنها بأن لهم فيها مستقرّا, فذلك على عمومه كما عمّ خبر الله, ولهم فيها مستقرّ في حياتهم على ظهرها وبعد وفاتهم في بطنها, كما قال جلّ ثناؤه: ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتا أحْياءً وأمْواتا.
وأما قوله: وَمَتاعٌ إلى حِينٍ فإنه يقول جلّ ثناؤه: ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا, وذلك هو الحين الذي ذكره. كما:
11284ـ حُدثت عن عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن السديّ, عمن حدثه, عن ابن عباس: وَمَتاعٌ إلى حِينٍ قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.
والحين نفسه الوقت, غير أنه مجهول القدر, يدلّ على ذلك قول الشاعر:
وَما مِرَاحُكَ بَعْدَ الحِلْمِ وَالدّينِوَقَدْ عَلاكَ مَشِيبٌ حَينَ لا حِينِ
أي وقت لا وقت.
الآية : 25
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }.
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: فِيها تَحْيَوْنَ يقول: في الأرض تحيون, يقول: تكونون فيها أيام حياتكم, وَفِيها تَمُوتُونَ يقول في الأرض تكون وفاتكم, وَمِنْها تُخْرَجُونَ: يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم, ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء.
الآية : 26
القول في تأويل قوله تعالى: {يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرّون للطواف اتباعا منهم أمر الشيطان وتركا منهم طاعة الله, فعرّفهم انخداعهم بغروره لهم حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعم به عليهم, حتى أبدى سوآتهم وأظهرها من بعضهم لبعض, مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به, وأنهم قد سار بهم سيرته في أبَوَيهم آدم وحوّاء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما سِتر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوآتهما فعرّاهما منه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا: يعني بإنزاله عليهم ذلك: خلقه لهم, ورزقه إياهم. واللباس: ما يلبسون من الثياب. يُوَارِي سَوآتِكُمْ يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم. وكنى بالسوآت عن العورات, واحدتها سَوْأة, وهي فَعْلة من السوء, وإنما سميت سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها من جسده, كما قال الشاعر:
خَرَقُوا جَيْبَ فَتاتِهِمْلم يُبالُوا سَوْأةَ الرّجُلَهْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11285ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة, ولا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
11286ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: سمعت مجاهدا يقول في قوله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال: أربع آيات نزلت في قريش, كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة.
11287ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن عوف, قال: سمعت معبدا الجُهني يقول في قوله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال: اللباس الذي يلبسون.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال: كانت قريش تطوف عراة, لا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه, وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال: اللباس الذي يواري سوآتكم: هو لبوسكم هذا.
11288ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال: هي الثياب.
11289ـ حدثنا الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, قال: ثني من سمع عروة بن الزبير, يقول: اللباس: الثياب.
11290ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال: يعني ثياب الرجل التي يلبسها.
القول في تأويل قوله تعالى: وَرِيشا.
اختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: وَرِيشا بغير ألف.
وذُكِر عن زرّ بن حبيش والحسن البصريّ أنهما كانا يقرآنه: «وَرِياشا».
11291ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن أبان العطار, قال: حدثنا عاصم, أن زرّ بن حبيش قرأها: «وَرِياشا».
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك قراءة من قرأ: وَرِيشا بغير ألف لإجماع الحجة من القرّاء عليها. وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر, أنه قرأه: «وَرِياشا», فمن قرأ ذلك: «وَرِياشا» فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع الريش, كما تجمع الذئب ذئابا والبئر بئارا, ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل: رَاشَهُ الله يَرِيشُه رِيَاشا ورِيشا, كما يقال: لَبِسه يلبسه لباسا ولِبْسا وقد أنشد بعضهم:
فَلَمّا كَشَفْنَ اللّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُبأطْرَافِ طَفْلٍ زَانَ غَيْلاً مُوشّما
بكسر اللام من «اللّبس». والرياش في كلام العرب: الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار. والريش: إنما هو المتاع والأموال عندهم, وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال, يقولون: أعطاه سرجا بريشه, ورحلاً بريشه: أي بكسوته وجهازه, ويقولون: إنه لحسن ريش الثياب. وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال: الرياش المال:
11292ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَرِيشا يقول: مالاً.
11293ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَرِيشا قال: المال.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
11294ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: «وَرِياشا» قال: أما رياشا: فرياش المال.
11295ـ حدثني الحرث قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: ثني من سمع عروة بن الزبير يقول: الرياش: المال.
11296ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: «وَرِياشا» يعني: المال.
ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش:
11297ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: «وَرِياشا» قال: الرياش: اللباس, والعيش: النعيم.
11298ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: «وَرِياشا» قال: الرياش: المعاش.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا عوف, قال: قال معبد الجهني: «وَرِياشا» قال: هو المعاش.
وقال آخرون: الريش الجمال. ذكر من قال ذلك:
11299ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: «وَرِياشا» قال: الريش: الجمال.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: لباس التقوى هو الإيمان. ذكر من قال ذلك:
11300ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلِباسُ التّقْوى هو الإيمان.
11301ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلِباسُ التّقْوَى: الإيمان.
11302ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: أخبرني حجاج, عن ابن جريج: وَلِباسُ التّقْوى الإيمان.
وقال آخرون: هو الحياء. ذكر من قال ذلك:
11303ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهنيّ, في قوله: وَلِباسُ التّقوَى الذي ذكر الله في القرآن هو الحياء.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا عوف, قال: قال معبد الجهنيّ, فذكر مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن معبد بنحوه.
وقال آخرون: هو العمل الصالح. ذكر من قال ذلك:
11304ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ قال: لباس التقوى: العمل الصالح.
وقال آخرون: بل ذلك هو السمت الحسن. ذكر من قال ذلك:
11305ـ حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا عبد الله بن داود, عن محمد بن موسى, عن الزباء بن عمرو, عن ابن عباس: وَلِباسُ التّقْوَى قال: السمت الحسن في الوجه.
11306ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن سليمان بن أرقم, عن الحسن, قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهيّ محلول الزّرّ, وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهي عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ما عَمِلَ أحَدٌ قطّ سِرّا إلاّ ألْبَسَهُ اللّهُ رِداءَهُ عَلانِيَةً, إنْ خَيْرا فخَيْرا, وَإنْ شَرّا فَشَرّا» ثم تلا هذه الاَية: «وَرِياشا», ولم يقرأها: وَرِيشا وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ قال: السمت الحسن.
وقال آخرون: هو خشية الله. ذكر من قال ذلك:
11307ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد المدني, قال: ثني من سمع عروة بن الزبير يقول: لِباسُ التّقْوى خشية الله.
وقال آخرون: لِباسُ التّقْوَى في هذه المواضع: ستر العورة. ذكر من قال ذلك:
11308ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلِباسُ التقْوَى يتقي الله فيواري عورته, ذلك لباس التقوى.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المكيين والكوفيين والبصريين: وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ برفع «ولباسُ». وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة: «ولِباسَ التّقْوَى» بنصب اللباس, وهي قراءة بعض قراء الكوفيين. فمن نصب: «وَلِباسَ» فإنه نصبه عطفا على «الريش» بمعنى: قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا, وأنزلنا لباسَ التقوى. وأما الرفع, فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به اللباس, فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء, وخبره في قوله: ذلِكَ خَيْرٌ. وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط, لأنه لم يعد على اللباس في الجملة عائد, فيكون اللباس إذًا رفع على الابتداء وجعل ذلك خير خبرا.
وقال بعض نحويي الكوفة: وَلِباسُ يُرفع بقوله: «ولباس التقوى خير», ويجعل ذلك من نعته. ب«خير» لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل اللباس نعتا, لا أنه عائد على اللباس من ذكره في قوله: ذلكَ خَيْرٌ فيكون خير مرفوعا بذلك وذلك به. فإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام إذن: رفع لباس التقوى, ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم, ومن الرياش التي أنزلناها إليكم فالبسوه. وأما تأويل من قرأه نصبا, فإنه: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم, وريشا, ولباس التقوى هذا الذي أنزلنا عليكم, من اللباس الذي يواري سوآتكم, والريش, ولباس التقوى خير لكم من التعرّي والتجرّد من الثياب في طوافكم بالبيت, فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش, ولا تطيعوا الشيطان بالتجرّد والتعرّي من الثياب, فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة, كما فعل بأبويكم آدم وحوّاء فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها.
وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, أعني نصب قوله: «وَلِباسَ التّقْوَى» لصحة معناه في التأويل على ما بينت, وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوآتنا والرياش توبيخا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت, ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كلّ حال مع الإيمان به واتباع طاعته, ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعرّيهم, لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض. وما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك الاَيات التي بعد هذه الاَية, وذلك قوله: يا بَني آدَمَ لايَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطانُ كمَا أخُرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما وما بعد ذلك من الاَيات إلى قوله: وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإنه جلّ ثناؤه يأمر في كلّ ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته, وينهي عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكدا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَواتِكُمْ وَرِيشا وَلِباس التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ.
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: «وَلِباسَ التّقْوَى» استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن, لأن من اتقى الله كان به مؤمنا وبما أمره به عاملاً ومنه خائفا وله مراقبا, ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا. ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه, فحسن سمته وهديه ورُؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره.
وإنما قلنا: عنى بلباس التقوى استشعار النفس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادّراع ما يلبس واحتباء ما يكتسي, أو تغطية بدنه أو بعضه به, فكلّ من ادّرع شيئا أو احتبي به حتى يرى هو أو أثره عليه, فهو له لابس ولذلك جعل جلّ ثناؤه الرجال للنساء لباسا وهنّ لهم لباسا, وجعل الليل لعباده لباسا.
ذكر من تأوّل ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله إذا قرىء قوله: وَلِباسُ التّقْوَى رفعا:
11309ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلِباسُ التّقْوَى: الإيمان ذلكَ خَيْرٌ يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوآتكم.
11310ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلِباسُ التّقْوَى قال: لباس التقوى خير, وهو الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ.
يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أني أنزلته إليكم أيها الناس من اللباس والرياش من حجج الله وأدلته التي يعلم بها من كفر صحة توحيد الله, وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة. لَعَلّهُم يَذّكّرُون يقول جلّ ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلاً على ما وصفت ليذكّروا, فيعتبروا وينيبوا إلى الحقّ وترك الباطل, رحمة مني بعبادي.
الآية : 27
القول في تأويل قوله تعالى: {يَابَنِيَ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يا بني آدم لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم, كما فعل بأبويكم آدم وحوّاء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما فأخرجهما بما سبب لهما من مكره وخدْعه من الجنة, ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس ليريهما سوآتهما بكشف عورتهما وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترة. وقد بيّنا فيما مضى أن معنى الفتنة الاختبار والابتلاء بما أغنى عن إعادته.
وقد اختلف أهل التأويل في صفة اللباس الذي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه نزعه عن أبوينا وما كان, فقال بعضهم: كان ذلك أظفارا. ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك:
11311ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عكرمة: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال: لباس كلّ دابة منها, ولباس الإنسان: الظّفُر, فأدركت آدم التوبة عند ظفره, أو قال: أظفاره.
11312ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الحميد الحماني, عن نصر بن عمر, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: تركت أظفاره عليه زينة ومنافع في قوله: يَنْزِعُ عنهما لِباسَهُما.
حدثني أحمد بن الوليد القرشيّ, قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير, قال: أخبرنا مخلد بن الحسين, عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس, في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما, وتركت الأظفار تذكرة وزينة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة, في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال: كان لباسه الظفر, فانتهت توبته إلى أظفاره.
وقال آخرون: كان لباسهما نورا. ذكر من قال ذلك:
11313ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن وهب بن منبه: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما: النور.
11314ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, قال: حدثنا عمرو, قال: سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما قال: كان لباس آدم وحوّاء نورا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه, ولا هذه عورة هذا.
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِباسَهُما يسلبهما تقوى الله. ذكر من قال ذلك:
11315ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مطلب بن زياد, عن ليث, عن مجاهد: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال: التقوى.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قال: التقوى.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذّر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحوّاء, وأن يجرّدهم من لباس الله الذي أنزله إليهم, كما نزع عن أبويهم لباسهما. واللباس المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس, هو ما اختار فيه اللابس من أنواع الكساء, أو غطى بدنه أو بعضه. وإذ كان ذلك كذلك, فالحقّ أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحوّاء من لباسهما الذي نزعه عنهما الشيطان هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعورتهما وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظُفُرا, ويجوز أن يكون نورا, ويجوز أن يكون غير ذلك, ولا خبر عندنا بأيّ ذلك تثبت به الحجة, فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: يَنْزعُ عَنهُما لِباسَهُما. وأضاف جلّ ثناؤه إلى إبليس إخراج آدم وحوّاء من الجنة, ونزع ما كان عليهما من اللباس عنهما وإن كان الله جلّ ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه, إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تشبيه ذلك لهما بمكره وخداعه, فأضيف إليه أحيانا بذلك المعنى, وإلى الله أحيانا بفعله ذلك بهما.
القول في تأويل قوله تعالى: إنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنّا جَعَلْنا الشيّاطِينَ أولِياءَ للّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
يعني جلّ ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو. والهاء في «إنه» عائدة على الشيطان. وقبيله: يعني وصنفه وجنسه الذي هو منه, واحد جمعه «قُبُل» وهم الجنّ. كما:
11316ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: إنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قال: الجنّ والشياطين.
11317ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: إنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قال: قبيله: نسله.
وقوله: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يقول: من حيث لا ترون أنتم أيها الناس الشيطان وقبيلَه. إنّا جَعَلْنا الشّياطِينَ أوْلِياءَ للّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ يقول: جعلنا الشياطين نصراء الكفار الذين لا يوحدون الله ولا يصدّقون رسله.
الآية : 28
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
ذكر أن معنى الفاحشة في هذا الموضع, ما:
11318ـ حدثني عليّ بن سعيد بن مسروق الكنديّ, قال: حدثنا أبو محياة عن منصور, عن مجاهد: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أمَرَنا بِها قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة, يقولون: نطوف كما ولدتنا أمّهاتنا, فتضع المرأة على قُبُلها النّسْعة أو الشيء فتقول:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلّهفَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلّهُ
11319ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْهَا آباءَنا فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عُراة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن مفضل, عن منصور, عن مجاهد, مثله.
11320ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير والشعبيّ: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة.
11321ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجْدنا عَلَيْها أباءَنا وَالله أمَرَنا بِها قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة, فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا, والله أمرنا بها.
11322ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قال: طوافهم بالبيت عراة.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا قال: في طواف الحُمْس في الثياب وغيرهم عراة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْهَا آباءَنا قال: كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة, فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم قُلْ إن الله لا يَأمُرُ بالفَحْشاءِ... الاَية.
فتأويل الكلام إذن: وإذا فعل الذي لا يؤمنون بالله الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء قبيحا من الفعل وهو الفاحشة, وذلك تعرّيهم للطواف بالبيت وتجرّدهم له, فعُذِلوا على ما أتوا من قَبيح فعلهم وعُوتبوا عليه, قالوا: وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا, فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون, ونقتدي بهديهم ونستنّ بسنتهم, والله أمرنا به, فنحن نتبع أمره فيه, يقول الله جلّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم: إن الله لا يأمر بالفحشاء, يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومَساويها, أتقولون أيها الناس على الله ما لا تعلمون يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرّي والتجرّد من الثياب واللباس للطواف, وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك.
الآية : 29-30
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه: قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله: ما أمر ربي بما تقولون, بل أمَرَ رَبي بالقِسْطِ يعني: بالعدل. كما:
11323ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ بالعدل.
11324ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ والقسط: العدل.
وأما قوله: وأقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معناه: وجهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة. ذكر من قال ذلك:
11325ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ إلى الكعبة حيثما صليتم في الكنيسة وغيرها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة في كنائسكم وغيرها.
11326ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ هو المسجد: الكعبة.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا خالد بن عبد الرحمن, عن عمر بن ذرّ, عن مجاهد في قوله: وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال: الكعبة حيثما كنت.
11327ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال: أقيموها للقبلة هذه القبلة التي أمركم الله بها.
وقال آخرون: بل عني بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصا دون ما سواه من الاَلهة والأنداد. ذكر من قال ذلك:
11328ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال: في الإخلاص أن لا تدعوا غيره, وأن تخلصوا له الدين.
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الاَية ما قاله الربيع, وهو أن القوم أمروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم, لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام, وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصا, لا مُكاءً ولا تصدية.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية, لأن الله إنما خاطب بهذه الاَية قوما من مشركي العرب لم يكونوا أهل كنائس وبِيَع, وإنما كانت الكنائس والبيع لأهل الكتابين, فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بيعة: وجّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بيعة.
وأما قوله: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة, لا تخلطوا ذلك بشرك ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكا. كما:
11329ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: وَادْعُوهُ مُخْلِصيِنَ لَه الدّين قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل, ثم توجهون إلى البيت الحرام.
القول في تأويل قوله تعالى: كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَريقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمْ الضّلالَةِ.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسعداء, كذلك تُبعثون يوم القيامة. ذكر من قال ذلك:
11330ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا, كما قال جلّ ثناؤه: هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا.
11331ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, قال: حدثنا أصحابنا, عن ابن عباس: كمَا بَدأكُم تَعُودُونَ قال: يبعث المؤمن مؤمنا, والكافر كافرا.
11332ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يحيى بن الضريس, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن رجل, عن جابر, قال: يُبعثون على ما كانوا عليه, المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه.
11333ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: عادوا إلى علمه فيهم, ألم تسمع إلى قول الله فيهم: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ؟ ألم تسمع قوله: فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ؟.
11334ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: كمَا بَدأكُمْ تَعُودون قال: رُدّوا إلى علمه فيهم.
11335ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو همام الأهوازي, قال: حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب, في قوله: كمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ قال: من ابتدأ الله خلقه على الشّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل السعادة, كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ثم صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه. ومن ابتدىء خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدىء عليه خلقهم.
11336ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن وفاء بن إياس أبي يزيد, عن مجاهد: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: يبعث المسلم مسلما, والكافر كافرا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو دكين, قال: حدثنا سفيان, عن أبي يزيد, عن مجاهد: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: يبعث المسلم مسلما, والكافر كافرا.
11337ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا محمد بن أبي الوضاح, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: كمَا بَداكُمْ تَعُودُونَ قال: كما كتب عليكم تكونون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, مثله.
11338ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهُمْ الضّلالَةُ يقول: كما بدأكم تعودون كما خلقناكم, فريق مهتدون وفريق ضالّ, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتم.
11339ـ حدثنا ابن بشار, قل: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن سفيان, عن جابر, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «تُبْعَثُ كُلّ نَفْسٍ على ما كانَتْ عَلَيْهِ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو داود الحفري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: كما كُتبَ عليكم تكونون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن ليث, عن مجاهد, قال: يبعث المؤمن مؤمنا, والكافر كافرا.
11340ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ شقيّا وسعيدا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئا تعودون بعد الفناء. ذكر من قال ذلك:
11341ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن عوف, عن الحسن: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم, كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الأعلى, عن عوف, عن الحسن: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
11342ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا, ثم ذهبوا ثم يعيدهم.
11343ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى يقول: كما خلقناكم أوّل مرّة كذلك تعودون.
11344ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ يحييكم بعد موتكم.
11345ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: كمَا بَدأكُمْ تَعودُونَ قال: كما خلقهم أوّلاً, كذلك يعيدهم آخرا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, القول الذي قاله من قال معناه: كما بدأكم الله خلقا بعد أن لم تكونوا شيئا تعودون بعد فنائكم خلقا مثله, يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ بما فِي هذه الاَية قوما مشركين أهل جاهلية لا يؤمنون بالمعاد ولا يصدّقون بالقيامة, فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة ومُثيب من أطاعه ومعاقب من عصاه, فقال له: قل لهم: أمر ربي بالقسط, وأن أقيموا وجوهكم عند كلّ مسجد, وأن ادعوه مخلصين له الدين, وأن أقرّوا بأن كما بدأكم تعودون فترك ذكر «وأن أقرّوا بأن» كما ترك ذكر «أن» مع «أقيموا», إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه. وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لأن يؤمر بدعاء من كان جاحدا النشور بعد الممات إلى الإقرار بالصفة التي عليها يُنشر من نُشر, وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك من كان بالبعث مصدّقا, فأما من كان له جاحدا فإنما يُدعى إلى الإقرار به ثم يُعَرّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي.
11346ـ حَدثنَاه محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سفيان, قال: ثني المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «يُحْشَر النّاسُ عُرَاةً غُرْلاً, وأوّل مَن يُكْسَى إبْرَاهِيمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ» ثمّ قَرأ: كمَا بَدأْنا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلينَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف, قال: حدثنا سفيان, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, بنحوه.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن المُغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة, فقال: «يا أيّها النّاسُ إنّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللّهِ حُفاةً غُرْلاً كمَا بَدأنْا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ».
ما يبين صحة القول الذي قلنا في ذلك, من أن معناه: أن الخلق يعودون إلى الله يوم القيامة خلقا أحياء كما بدأهم في الدنيا خلقا أحياء, يقال منه: بدأ الله الخلق يَبْدَؤهم وأبدأهم يُبْدِئهم إبداء بمعنى خلقهم, لغتان فصيحتان. ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه وجرى به فيهم قضاؤه, فقال: هدى الله منهم فريقا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون, وحقّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد, باتخاذهم الشيطان من دون الله وليّا.
وإذا كان التأويل هذا, كان الفريق الأوّل منصوبا بإعمال هَدَى فيه, والفريق الثاني بوقوع قوله حقّ على عائد ذكره في عليهم, كما قال جلّ ثناؤه: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمِينَ أعَدّ لَهُمْ عَذَابا ألِيما. ومن وجّه تأويل ذلك إلى أنه كما بدأكم في الدنيا صنفين: كافرا, ومؤمنا, كذلك تعودون في الاَخرة فريقين: فَرِيقا هَدَى وَفَريقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلالَةُ نصب «فريقا» الأوّل بقوله: «تعودون», وجعل الثاني عطفا عليه. وقد بيّنا الصواب عندنا من القول فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: إنّهُمُ اتّخذُوا الشّياطِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ.
يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة, باتخاذهم الشياطين نُصَراء من دون الله وظهراء, جهلاً منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحقّ, وأن الصواب ما أتوه وركبوا. وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذّب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها, لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرقٌ, وقد فرّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية