تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 176 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 176

176 : تفسير الصفحة رقم 176 من القرآن الكريم

** خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {خذ العفو} يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه, وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات, قاله السدي. وقال الضحاك عن ابن عباس {خذ العفو} أنفق الفضل, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس {خذ العفو} قال: الفضل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله {خذ العفو} أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين, ثم أمره بالغلظة عليهم, واختار هذا القول ابن جرير. وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى: {خذ العفو} قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس. وقال هشام بن عروة عن أبيه: أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس, وفي رواية قال: خذ ما عفي لك من أخلاقهم, وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير قال: إنما أنزل خذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية عن أبيه عن ابن عمر, وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل لك, والله أعلم.
وفي رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير خذ العفو, قال: من أخلاق الناس, والله لاَخذنه منهم ما صحبتهم, وهذا أشهر الأقوال, ويشهد له ما رواه ابن جرير, وابن أبي حاتم جميعاً: حدثنا يونس حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أُمَيّ قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هذا يا جبريل ؟» قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك, وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي يزيد القراطيسي كتابة, عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن أُمَيّ عن الشعبي نحوه, وهذا مرسل على كل حال, وقد روي له شواهد من وجوه أخر, وقد روي مرفوعاً عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أسندهما ابن مردويه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا معاذ بن رفاعة, حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته, فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال, فقال «يا عقبة صل من قطعك, وأعط من حرمك, وأعرض عمن ظلمك» وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد به. وقال: حسن. قلت: ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبد الرحمن فيهما ضعف. وقال البخاري قوله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} العرف: المعروف, حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة, فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس, وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه, قال: سأستأذن لك عليه, قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر, فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل, فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به, فقال له الحر, يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين, والله ماجاوزها عمر حين تلاها عليه, وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل, وانفرد بإخراجه البخاري.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك بن أنس عن عبيد الله بن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس, فقال: إن هذا منهي عنه, فقالوا: نحن أعلم بهذا منك, إنما يكره الجلجل الكبير, فأما مثل هذا فلا بأس به, فسكت سالم وقال {وأعرض عن الجاهلين} وقول البخاري: العرف المعروف, نص عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد, وحكى ابن جرير أنه يقال أوليته معروفاً وعارفاً, كل ذلك بمعنى المعروف, قال: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف, ويدخل في ذلك جميع الطاعات وبالإعراض عن الجاهلين, وذلك وإن كان أمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله, ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال: هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها, وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس, فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كماأمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنامفمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء: الناس رجلان, فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه, وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه, فلعل ذلك أن يرد كيده, كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي هذه الوصية {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} وقال في هذه السورة الكريمة أيضاً {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} فهذه الاَيات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن, فإنه تعالى, يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف بالتي هي أحسن فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى, ولهذا قال {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان, فإن لا يكفه عنك الإحسان وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك, وقال ابن جرير في تفسير قوله {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} وإما يغضبك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته {فاستعذ بالله} يقول: فاستجر بالله من نزغه {إنه سميع عليم} سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزلت {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال: يا رب كيف بالغضب ؟, فأنزل الله {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} قلت: وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرغ غضباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقيل له, فقال: ما بي من جنون. وأصل النزغ الفساد إما بالغضب أو غيره, قال الله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} والعياذ الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر, وأما الملاذ ففي طلب الخير, كما قال أبو الطيب المتنبي في شعره:
يا من ألوذ به فيما أؤملهومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسرهولا يهيضون عظماً أنت جابره
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا.

** إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الْغَيّ ثُمّ لاَ يُقْصِرُونَ
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر, وتركوا ما عنه زجر أنهم {إذا مسهم} أي أصابهم طيف. وقرأ الاَخرون طائف, وقد جاء فيه حديث وهما قراءتان مشهورتان, فقيل بمعنى واحد, وقيل بينهما فرق, ومنهم من فسر ذلك بالغضب, ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه, ومنهم من فسره بالهم بالذنب, ومنهم من فسره بإصابة الذنب وقوله {تذكرو} أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده, ووعيده, فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب {فإذا هم مبصرون} أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه. وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يشفيني, فقال «إن شئت دعوت الله فشفاك, وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك» فقالت: بل أصبر ولا حساب عليّ, ورواه غير واحد من أهل السنن وعندهم قالت: يا رسول الله إني أصرع وأتكشف, فادع الله أن يشفيني, فقال «إن شئت دعوت الله أن يشفيك, وإن شئت صبرت ولك الجنة» فقالت: بل أصبر ولي الجنة, ولكن ادع الله أن لا أتكشف, فدعا لها فكانت لا تتكشف: وأخرجه الحاكم من مستدركه, وقال: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شاباً كان يتعبد في المسجد, فهويته امرأة فدعته إلى نفسها, فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل, فذكر هذه الاَية {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فخر مغشياً عليه, ثم أفاق فأعادها, فمات, فجاء عمر فعزى فيه أباه, وكان قد دفن ليلاً فذهب فصلى على قبره بمن معه, ثم ناداه عمر فقال: يا فتى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر قد أعطانيهما ربي عز وجل في الجنة مرتين.
وقوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم} أي وأخوان الشياطين من الإنس كقوله {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} وهم أتباعهم والمستمعون لهم, القابلون لأوامرهم يمدونهم في الغي أي تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم. وقال ابن كثير: المد الزيادة يعني يزيدونهم في الغي يعني الجهل والسفه {ثم لا يقصرون} قيل معناه إن الشياطين تمد الإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} الاَية, قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون, ولا الشياطين تمسك عنهم, وقيل معناه كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله {يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} قال: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس ثم لا يقصرون, يقول لا يسأمون, وكذا قال السدي وغيره أن يعني الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر, لأن ذلك طبيعة لهم وسجية {لا يقصرون} لا تفتر فيه ولا تبطل عنه, كما قال تعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أز} قال ابن عباس وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً.

** وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنّمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىَ إِلَيّ مِن رّبّي هَـَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {قالوا لولا اجتبيته} يقول: لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها, وقال ابن جرير عن عبدالله بن كثير عن مجاهد في قوله {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيته} قال: لولا اقتضيتها, قالوا: تخرجها عن نفسك, وكذا قال قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير. وقال العوفي عن ابن عباس {لولا اجتبيته} يقول: تلقيتها من الله تعالى. وقال الضحاك {لولا اجتبيته} يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء, ومعنى قوله تعالى: {وإذا لم تأتهم بآية} أي معجزة وخارق, كقوله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا تجهد نفسك في طلب الاَيات من الله حتى نراها ونؤمن بها, قال الله تعالى له: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} أي أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء, وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي, فإن بعث آية قبلتها وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها إلا أن يأذن لي في ذلك, فإنه حكيم عليم, ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات, فقال {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.

** وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة, أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاماً له واحتراماً, لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الاَية, ولكن يتأكد ذلك من الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا, وإذا قرأ فأنصتوا» وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة أيضاً, وصححه مسلم بن الحجاج أيضاً, ولم يخرجه في كتابه, وقال إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة, فلما نزلت هذه الاَية {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له} والاَية الأخرى, أمروا بالإنصات.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن المسيب بن رافع قال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة, فجاء القرآن {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود فسمع ناساً يقرؤون مع الإمام, فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا, أما آن لكم أن تعقلوا {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} كما أمركم الله, قال: وحدثني أبو السائب, حدثنا حفص عن أشعث عن الزهري قال: نزلت هذه الاَية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئاً قرأه, فنزلت {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو}. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الزهري عن أبي أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال «هل قرأ أحد منكم معي آنفاً ؟» قال رجل: نعم يا رسول الله, قال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وصححه أبو حاتم الرازي. وقال عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري: قال لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام, تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته, ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سراً في أنفسهم, ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سراً ولا علانية, فإن الله تعالى قال: {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قلت: هذا مذهب طائفة من العلماء أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها, وهو أحد قولي الشافعية, وهو القديم كمذهب مالك ورواية عن أحمد بن حنبل, لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة, وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام, وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم, وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: لا يجب على المأموم قراءة أصلاً في السرية ولا الجهرية بما ورد في الحديث «من كان له إمام فقراءته قراءة له» وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعاً, وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان عن جابر موقوفاً, وهذا أصح وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع, وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفاً على حدة, واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضاً, والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} يعني في الصلاة المفروضة, وكذا روي عن عبد الله بن المغفل. وقال ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا بشر بن المفضل, حدثنا الجريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان, والقاص يقص, فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود ؟ قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما, قال: فأعدت فنظرا إليّ وأقبلا على حديثهما, قال: فأعدت الثالثة قال فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هشام إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} قال: في الصلاة, وكذا رواه غير واحد عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة.
وقال شعبة عن منصور: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهداً يقول في هذه الاَية {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة, وكذا روى ابن جريج عن عطاء مثله, وقال هشيم عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال: في الصلاة وعند الذكر. وقال ابن المبارك عن بقية: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتو} قال: الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة, وهذا اختيار ابن جرير أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة, كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئاً, قال: السكوت. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن فأنصت له. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة, ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة» تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

** وَاذْكُر رّبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ * إِنّ الّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً, كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء, وهذه الاَية مكية. وقال ههنا: بالغدو, وهو أول النهار, والاَصال جمع أصيل كما أن الأيمان جمع يمين, وأما قوله {تضرعاً وخيفة} أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهراً, ولهذا قال {ودون الجهر من القول} وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء وجهراً بليغاً, ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله عز وجل {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم, فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقد يكون المراد من هذه الاَية كما في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيل} فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به, فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم, وليتخذ سبيلاً بين الجهر والإسرار, وكذا قال في هذه الاَية الكريمة {ودون الجهر من القول بالغدو والاَصال ولا تكن من الغافلين} وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به, ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم أو في الصلاة والخطبة, ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان, سواء كان سراً أو جهراً, فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه, بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والاَصال, لئلا يكونوا من الغافلين, ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, فقال {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} الاَية, وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم, ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل, كما جاء في الحديث «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف» وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع, وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن.