تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 176 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 176

176- تفسير الصفحة رقم176 من المصحف
الآية: 196 {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}
قوله تعالى: "إن وليي الله الذي نزل الكتاب" أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشيء: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر. والكتاب: القرآن. "وهو يتولى الصالحين" أي يحفظهم. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير مرة يقول: "ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين". وقال الأخفش: وقرئ "إن ولي الله الذي نزل الكتاب" يعني جبريل. النحاس. هي قراءة عاصم الجحدي. والقراءة الأولى أبين؛ لقوله: "وهو يتولى الصالحين".
الآيتان: 197 - 198 {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}
قوله تعالى: "والذين تدعون من دونه" كرره ليبين أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر. "وإن تدعوهم إلى الهدى" شرط، والجواب "لا يسمعوا". "وتراهم" مستأنف. "ينظرون إليك" في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه؛ وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر؛ لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال "وتراهم ينظرون" وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم.
الآية: 199 {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}
هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: "خذ العفو" دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: "وأمر بالعرف" صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله: "وأعرض عن الجاهلين" الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. قال جابر بن سليم أبو جري: ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر؛ فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: "وعليك السلام". فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: "آدن" ثلاثا، فدنوت فقال: "أعد علي" فأعدت عليه فقال: (اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى). قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير في قوله: "خذ العفو وأمر بالعرف" قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا جبريل"؟ فقال: "لا أدري حتى أسأل العالم" في رواية "لا أدري حتى أسأل ربي" فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: "إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك". فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثة ممن كملت فيه فذلك الفتى
إعطاء من تحرمه ووصل من تقطعه والعفو عمن اعتدى
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقال الشاعر:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقال سهل بن عبدالله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شيء أوصاك ؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة.
قلت: وقد روي عن نبينا محمد أنه قال، (أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة). وقيل: المراد بقوله: "خذ العفو" أي الزكاة؛ لأنها يسير من كثير. وفيه بعد؛ لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر؛ تقول: أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا.
قوله تعالى: "وأمر بالعرف" أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر "العرف" بضمتين؛ مثل الحلم؛ وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عطاء: "وأمر بالعرف" يعني بلا إله إلا الله.
قوله تعالى: "وأعرض عن الجاهلين" أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم؛ صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة؛ وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه؛ فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ! قال: فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر؛ يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل. قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا. منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمدا واستخفافا بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو؛ كما فعل الخليفة العدل.
الآية: 200 {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
لما نزل قوله تعالى: "خذ العفو" قال عليه السلام: "كيف يا رب والغضب" فنزلت: "وإما ينزغنك" ونزغ الشيطان: وساوسه. وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز، وهم المورشون. الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة. قال سعيد بن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه. ومعنى "ينزغنك": يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. "فاستعذ بالله" أي اطلب النجاة من ذلك بالله. فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به؛ ولله المثل الأعلى. فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب. وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك.
النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء؛ قال الله تعالى: "وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين" [المؤمنون: 97] وقال: "من شر الوسواس الخناس" [الناس: 4]. وأصل النزغ الفساد؛ يقال: نزغ بيننا؛ أي أفسد. ومنه قوله: "نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" [يوسف: 100] أي أفسد. وقيل: النزغ الإغواء والإغراء؛ والمعنى متقارب.
قلت: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). وفيه عن عبدالله قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: (تلك محض الإيمان). وفي حديث أبي هريرة: (ذلك صريح الإيمان) والصريح الخالص. وهذا ليس على ظاهره؛ إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه؛ لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها والجزع منها صادرا عن الإيمان. وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان. وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها. فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به. وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي؛ كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى". وقال أعرابي: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول" فاستأصل الشبهة من أصلها. فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات. والوساوس: الترهات؛ فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاؤوا - كما في الصحيح - فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أو قد وجدتموه"؟ قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" [الحجر: 42]. فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها؛ وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة. والله أعلم.
الآيتان: 201 - 202 {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}
قوله تعالى: "إن الذين اتقوا" يريد الشرك والمعاصي. "إذا مسهم طيف من الشيطان" هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة. وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة "طائف". وروي عن سعيد بن جبير "طيف" بتشديد الياء. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا "طيف" بالتخفيف؛ على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي: هو مخفف من "طيف" مثل ميت وميت. قال النحاس: ومعنى "طيف" في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم؛ وكذا معنى طائف. وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن طيف؛ فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو بمصدر، ولكن يكون بمعنى طائف. والمعنى إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية؛ وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول: التخيل. والثاني: الشيطان نفسه. فالأول مصدر طاف الخيال يطوف طيفا؛ ولم يقولوا من هذا طائف في اسم الفاعل. قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له. فأما قوله: "فطاف عليها طائف من ربك" [القلم: 19] فلا يقال فيه: طيف؛ لأنه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، وطاف الخيال يطيف. وقال حسان:
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
مجاهد: الطيف الغضب. ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا؛ لأنه لمة من الشيطان تشبه بلمة الخيال. "فإذا هم مبصرون" أي منتهون. وقيل: فإذا هم على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير: "تذكروا" بتشديد الذال. ولا وجه له في العربية؛ ذكره النحاس. الثانية: قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام، فأعجبني سمته وحسن ورائه؛ فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض؛ فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه؛ فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فقرأ إلى قوله: "فإذا هم مبصرون" ثم قال لي: خفض عليك، استغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" [يوسف: 92] أمن أهل الشأم أنت؟ قلت نعم. فقال:
شنشنة أعرفها من أخزم
حياك الله وبياك، وعافاك، وآداك؛ انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي؛ ثم تسللت منه لواذا، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه.
قوله تعالى: "وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون" قيل: المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين في الغي. وقيل للفجار إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقد سبق في هذه الآية ذكر الشيطان. هذا أحسن ما قيل فيه؛ وهو قول قتادة والحسن والضحاك. ومعنى "لا يقصرون" أي لا يتوبون ولا يرجعون. وقال الزجاج: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي؛ لأن الكفار إخوان الشياطين. ومعنى الآية: إن المؤمن إذا مسه طيف من الشيطان تنبه عن قرب؛ فأما المشركون فيمدهم الشيطان. و"لا يقصرون" قيل: يرجع إلى الكفار على القولين جميعا. وقيل: يجوز أن يرجع إلى الشيطان. قال قتادة: المعنى ثم لا يقصرون عنهم ولا يرحمونهم. والإقصار: الانتهاء عن الشيء، أي لا تقصر الشياطين في مدهم الكفار بالغي. وقوله: "في الغي" يجوز أن يكون متصلا بقوله: "يمدونهم" ويجوز أن يكون متصلا بالإخوان. والغي: الجهل. وقرأ نافع "يمدونهم" بضم الياء وكسر الميم. والباقون بفتح الياء وضم الميم. وهما لغتان مد وأمد. ومد أكثر، بغير الألف؛ قاله مكي. النحاس: وجماعة من أهل العربية ينكرون قراءة أهل المدينة؛ منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها، إلا أن يكون المعنى يزيدونهم في الغي. وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده، وإذا كثره بغيره قيل أمده؛ نحو "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين" [آل عمران: 125]. وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتج لقراءة أهل المدينة قال: يقال مددت له في كذا أي زينته له واستدعيته أن يفعله. وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. قال مكي: والاختيار الفتح؛ لأنه يقال: مددت في الشر، وأمددت في الخير؛ قال الله تعالى: "ويمدهم في طغيانهم يعمهون" [البقرة: 15]. فهذا يدل على قوة الفتح في هذا الحرف؛ لأنه في الشر، والغي هو الشر، ولأن الجماعة عليه. وقرأ عاصم الجحدي "يمادونهم في الغي". وقرأ عيسى بن عمر "يقصرون" بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف. الباقون "يقصرون" بضمه، وهما لغتان. قال امرؤ القيس:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
الآية: 203 {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}
قوله تعالى: "وإذا لم تأتهم بآية" أي تقرؤها عليهم. "قالوا لولا اجتبيتها" لولا بمعنى هلا، ولا يليها على هذا المعنى إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا. ومعنى "اجتبيتها" اختلقتها من نفسك. فأعلمهم أن الآيات من قبل الله عز وجل، وأنه لا يقرأ عليهم إلا ما أنزل عليه. يقال: اجتبيت الكلام أي ارتجلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك. "قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي" أي من عند الله لا من عند نفسي. "هذا بصائر من ربكم" يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة. أي هذا الذي دللتكم به على أن الله عز وجل واحد. بصائر، أي يستبصر بها. وقال الزجاج: "بصائر" أي طرق. والبصائر طرق الدين. قال الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
"وهدى" رشد وبيان. "ورحمة" أي ونعمة.
الآية: 204 {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}
قيل: إن هذا نزل في الصلاة، روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيدالله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ فيقول بعضهم لبعض بمكة: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" [فصلت: 26]. فأنزل الله جل وعز جوابا لهم "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا". وقيل: إنها نزلت في الخطبة؛ قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبدالله بن المبارك. وهذا ضعيف؛ لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها؛ قاله ابن العربي. النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة. وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أيضا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام فهو عام. وهو الصحيح لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء. وقال الزجاج: يجوز أن يكون "فاستمعوا له وأنصتوا" اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. والإنصات: السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة. انصت ينصت إنصاتا؛ ونصت أيضا؛ قال الشاعر:
قال الإمام عليكم أمر سيدكم فلم نخالف وأنصتنا كما قالا
ويقال: أنصتوه وأنصتوا له؛ قال الشاعر:
إذا قالت حذام فأنصتوها فإن القول ما قالت حذام
وقال بعضهم في قوله "فاستمعوا له وأنصتوا": كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصا ليعيه عنه أصحابه.
قلت: هذا فيه بعد، والصحيح القول بالعموم؛ لقوله: "لعلكم ترحمون" والتخصيص يحتاج إلى دليل. وقال عبدالجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تعنتا وعنادا؛ على ما حكاه الله عنهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" [فصلت: 26]. فأمر الله المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجن على ذلك فقال: "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن" [الأحقاف: 29] الآية. وقال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه؛ إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة. فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث؛ فنزل: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا". وعن وأنصتوا لعلكم ترحمون" فأنصتوا. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم، كم بقي؛ فأنزل الله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا". وعن مجاهد هذا أيضا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم؛ فنزل قوله تعالى: "لعلكم ترحمون". وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام. ويأتي في "الجمعة" حكم الخطبة، إن شاء الله تعالى.
الآية: 205 {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}
قوله تعالى: "واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة" نظيره "ادعوا ربكم تضرعا وخفية" [الأعراف: 55] وقد تقدم. قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى "واذكر ربك في نفسك" أنه في الدعاء.
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه يعني بالذكر القراءة في الصلاة. وقيل: المعنى اقرأ القرآن بتأمل وتدبر. "تضرعا" مصدر، وقد يكون في موضع الحال. "وخفية" معطوف عليه. وجمع خيفة خوف؛ لأنه بمعنى الخوف؛ ذكره النحاس. وأصل خيفة خوفة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. خاف الرجل يخاف خوفا وخيفة ومخافة، فهو خائف، وقوم خوف على الأصل، وخيف على اللفظ. وحكى الفراء أنه يقال أيضا في جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والجيفة الخوف، والجمع خيف، وأصله الواو. "ودون الجهر" أي دون الرفع في القول. أي أسمع نفسك؛ كما قال: "وابتغ بين ذلك سبيلا" [الإسراء: 110] أي بين الجهر والمخافتة. ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع؛ على ما تقدم في غير موضع. "بالغدو والآصال" قال قتادة وابن زيد: الآصال العشيات. والغدو جمع غدوة. وقرأ أبو مجلز "بالغدو والإيصال" وهو مصدر آصلنا، أي دخلنا في العشي. والآصال جمع أصل؛ مثل طنب وأطناب؛ فهو جمع الجمع، والواحد أصيل، جميع على أصل؛ عن الزجاج. الأخفش: الآصال جمع أصيل؛ مثل يمين وأيمان. الفراء: أصل جمع أصيل، وقد يكون أصل واحدا، كما قال الشاعر:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
الجوهري: الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل؛ كأنه جمع أصيلة؛ قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
ويجمع أيضا على أصلان؛ مثل بعير وبعران؛ ثم صغروا الجمع فقالوا أصيلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال؛ ومنه قول النابغة:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
وحكى اللحياني: لقيته أصيلالا. "ولا تكن من الغافلين" أي عن الذكر.
الآية: 206 {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}
قوله تعالى: "إن الذين عند ربك" يعني الملائكة بإجماع. وقال: "عند ربك" والله تعالى بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده؛ عن الزجاج. وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله. وقيل: لأنهم رسل الله؛ كما يقال: عند الخليفة جيش كثير. وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم؛ فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة. "ويسبحونه" أي ويعظمونه وينزهونه عن كل سوء. "وله يسجدون" قيل: يصلون. وقيل: يذلون، خلاف أهل المعاصي.
والجمهور من العلماء في أن هذا موضع سجود للقارئ. وقد اختلفوا في عدد سجود القرآن؛ فأقصى ما قيل: خمس عشرة. أولها خاتمة الأعراف، وآخرها خاتمة العلق. وهو قول ابن حبيب وابن وهب - في رواية - وإسحاق. ومن العلماء من زاد سجدة الحجر قوله تعالى: "وكن من الساجدين" [الحجر: 98] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فعلى هذا تكون ست عشرة. وقيل: أربع عشرة؛ قاله ابن وهب في الرواية الأخرى عنه. فأسقط ثانية الحج. وهو قول أصحاب الرأي والصحيح سقوطها؛ لأن الحديث لم يصح بثبوتها. ورواه ابن ماجة وأبو داود في سننهما عن عبدالله بن منين من بني عبد كلال عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن؛ منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. وعبدالله بن منين لا يحتج به؛ قاله أبو محمد عبدالحق. وذكر أبو داود أيضا من حديث عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان؟. قال: "نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما". في إسناده عبدالله بن لهيعة، وهو ضعيف جد. وأثبتهما الشافعي وأسقط سجدة ص. وقيل: إحدى عشرة سجدة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل. وهو مشهور مذهب مالك. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة والفرقان وسليمان سورة النمل والسجدة وص وسجدة الحواميم. وقيل: عشر، وأسقط آخرة الحج وص وثلاث المفصل؛ ذكر عن ابن عباس. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم تنزيل والنجم والعلق. وسبب الخلاف اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم المجرد بالسجود في القرآن، هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة؟
واختلفوا في وجوب سجود التلاوة؛ فقال مالك والشافعي: ليس بواجب. وقال أبو حنيفة: هو واجب. وتعلق بأن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب، وبقوله عليه السلام: "إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله". وفي رواية أبي كريب "يا ويلي"، وبقوله عليه السلام إخبارا عن إبليس لعنه الله: "أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". أخرجه مسلم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه. وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت - خرجه البخاري - أنه قرأ آية سجدة على المنبر فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: "أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء". وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من الأنصار والمهاجرين. فلم ينكر عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك. وأما قوله: "أمر ابن آدم بالسجود" فإخبار عن السجود الواجب. ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الاستحباب! والله أعلم.
ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس ونية واستقبال قبلة ووقت. إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة. وذكره ابن المنذر عن الشعبي. وعلى قول الجمهور هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم؟ اختلفوا في ذلك؛ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع للتكبير لها. وقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبر، وكذلك إذا رفع كبر. ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة. واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة؛ وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور. وذهب جماعة من السلف وإسحاق إلى أنه يسلم منها. وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام. وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب. والأول أولى؛ لقوله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى، لأنها فعل وصلاة الجنازة قول. وهذا اختيار ابن العربي.
وأما وقته فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا؛ لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وجماعة. وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو ما لم تصفر الشمس بعد العصر. وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر. وقيل: يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر. وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا. وسبب الخلاف معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم.
فإذا سجد يقول في سجوده: اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا. رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره ابن ماجة.
فإن قرأها في صلاة، فإن كان في نافلة سجد إن كان منفردا أو في جماعة وأمن التخليط فيها. وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص جوازه. وقيل: لا يسجد. وأما في الفريضة فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها، سواء كانت صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. وقيل: معلل بخوف التخليط على الجماعة؛ وهذا أشبه. وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط.
روى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ "إذا السماء انشقت" [الإنشقاق: 1] فسجد؛ فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. انفرد بإخراجه. وفيه: "وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها؟ قال: أرأيت لو قعد لها! كأنه لا يوجبه عليه. وقال سلمان: ما لهذا غدونا. وقال عثمان: إنما السجدة على من استمعها. وقال الزهري: لا يسجد إلا أن يكون طاهرا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبا فلا عليك، حيث كان وجهك. وكان السائب لا يسجد لسجود القاص" والله أعلم.