تفسير الطبري تفسير الصفحة 176 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 176
177
175
 الآية : 196
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للـمشركين من عبدة الأوثان: إنّ ولـي نصيري ومعينـي وظهيري علـيكم الله الذي نزّل الكتاب علـيّ بـالـحقّ, وهو الذي يتولـى من صلـح عمله بطاعته من خـلقه.
الآية : 197
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }..
وهذا أيضا أمر من الله جلّ ثناؤه لنبـيه أن يقوله للـمشركين بقوله تعالـى: قل لهم, إن الله نصيري وظهيري, والذين تدعون أنتـم أيها الـمشركون من دون الله من الاَلهة, لا يستطيعون نصركم, ولا هم مع عجزهم عن نصرتكم يقدرون علـى نصرة أنفسهم, فأيّ هذين أولـى بـالعبـادة وأحقّ بـالألوهة, أمن ينصر ولـيه ويـمنع نفسه مـمن أراده, أم من لا يستطيع نصر ولـيه ويعجز عن منع نفسه مـمن أراده وبغاه بـمكروه؟
الآية : 198
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىَ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }..
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل للـمشركين: وإن تدعوا أيها الـمشركون آلهتكم إلـى الهدى, وهو الاستقامة إلـى السداد, لا يَسْمَعُوا يقول: لا يسمعوا دعاءكم. وتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ وهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهذا خطاب من الله لنبـيه صلى الله عليه وسلم, يقول: وترى يا مـحمد آلهتهم ينظرون إلـيك وهم لا يبصرون. ولذلك وحد, ولو كان أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بخطاب الـمشركين لقال: وترونهم ينظرون إلـيكم.
وقد رُوي عن السديّ فـي ذلك ما:
12134ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإنْ تَدْعُوهُمْ إلـى الهُدَى لا يَسْمَعوا وَتَرَاهمْ يَنْظرُونَ إلَـيكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: هؤلاء الـمشركين.
وقد يحتـمل قول السديّ هذا أن يكون أراد بقوله: هؤلاء الـمشركون قول الله: وَإنْ تَدْعُوهُمْ إلـى الهدَى لا يَسْمَعوا.
وقد كان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:
12135ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ إلَـيْكَ وَهمْ لا يُبْصِرُونَ ما تدعوهم إلـى الهدى.
وكأن مـجاهدا وجه معنى الكلام إلـى أن معناه: وترى الـمشركين ينظرون إلـيك وهم لا يبصرون. فهو وجه, ولكن الكلام فـي سياق الـخبر عن الاَلهة فهو بوصفها أشبه.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى قوله: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ وَهمْ لا يُبْصِرُونَ؟ وهل يجوز أن يكون شيء ينظر إلـى شيء ولا يراه؟ قـيـل: إن العرب تقول للشيء إذا قابل شيئا أو حاذاه هو ينظر إلـى كذا, ويقال: منزل فلان ينظر إلـى منزلـي إذا قابله. وحُكي عنها: إذا أتـيت موضع كذا وكذا, فنظر إلـيك الـجبل, فخذ يـمينا أو شمالاً. وحدثت عن أبـي عُبـيد, قال: قال الكسائي: الـحائط ينظر إلـيك إذا كان قريبـا منك حيث تراه, ومنه قول الشاعر:
إذَا نَظَرَتْ بِلادَ بَنِـي تَـمِيـمبِعَيْنٍ أوْ بِلادَ بَنِـي صُبـاحِ
يريد: تقابل نبتُها وعشبُها وتـحاذَى.
فمعنى الكلام: وترى يا مـحمد آلهة هؤلاء الـمشركين من عبدة الأوثان يقابلونك ويحاذونك, وهم لا يبصرونك, لأنه لا أبصار لهم. وقـيـل: «وتراهم», ولـم يقل: «وتراها», لأنها صور مصوّرة علـى صور بنـي آدم.
الآية : 199
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }..
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: تأويـله: خذ العفوَ من أخلاق الناس, وهو الفضل وما لا يجهدهم. ذكر من قال ذلك.
12136ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم, عن مـجاهد, فـي قوله: خذِ العَفْوَ قال: من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تـحسس.
حدثنا يعقوب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد فـي قوله: خذِ العَفْوَ قال: عفو أخلاق الناس, وعفو أمورهم.
12137ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي ابن أبـي الزناد, عن هشام بن عُرْوة, عن أبـيه فـي قوله: خذِ العَفْوَ... الاَية. قال عروة: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
12138ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن ابن الزّبـير, قال: ما أنزل الله هذه الاَية إلاّ فـي أخلاق الناس: خذِ العَفْوَ وأُمرْ بـالعرْفِ الاَية.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن بكر, عن ابن جريج, قال: بلغنـي عن مـجاهد: خُذِ العَفْوَ من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تـحسس.
قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن وهب بن كيسان, عن ابن الزبـير: خُذِ العَفْوَ قال: من أخلاق الناس, والله لاَخذنه منهم ما صحبتهم.
قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن ابن الزبـير, قال: إنـما أنزل الله خُذِ العَفْوَ من أخلاق الناس.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: خُذِ العَفْوَ قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تـجسس أو تـحسس, شكّ أبو عاصم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خُذِ العَفْوَ من أموال الناس, وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نزول الزكاة, فلـما نزلت الزكاة نسخ. ذكر من قال ذلك.
12139ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله خُذِ العَفْوَ يعنـي: خذ ما عفـا لك من أموالهم, وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيـلها وما انتهت الصدقات إلـيه.
12140ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: خُذِ العَفْوَ أما العفو: فـالفضل من الـمال, نسختها الزكاة.
12141ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك, يقول فـي قوله: خُذِ العَفْوَ يقول: خذ ما عفـا من أموالهم, وهذا قبل أن تنزل الصدقة الـمفروضة.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله نبـيه صلى الله عليه وسلم بـالعفو عن الـمشركين وترك الغلظة علـيهم قبل أن يُفرض قتالهم علـيه. ذكر من قال ذلك.
12142ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: خُذِ العَفْوَ قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنـين بـمكة. قال: ثم أمره بـالغلظة علـيهم وأن يقعد لهم كلّ مرصد وأن يحصرهم, ثم قال: فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ الاَية كلها, وقرأ: يا أيّها النّبِـيّ جاهِدِ الكُفّـارَ وَالـمُنافَقِـينَ وَاغْلُظْ عَلَـيْهِمْ. قال: وأمر الـمؤمنـين بـالغلظة علـيهم, فقال: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الّذِينَ يَـلُونَكُمْ مِنَ الكُفّـارِ وَلْـيَجِدُوا فِـيكُمْ غِلْظَةً بعدما كان أمرهم بـالعفو, وقرأ قول الله: قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ ثم لـم يقبل منهم بعد ذلك إلاّ الإسلام أو القتل, فنسخت هذه الاَية العفو.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس, واترك الغلظة علـيهم, وقال: أُمر بذلك نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي الـمشركين.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب, لأن الله جلّ ثناؤه اتبع ذلك تعلـيـمه نبـيه صلى الله عليه وسلم مـحاجته الـمشركين فـي الكلام, وذلك قوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونَ, وعقبه بقوله: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ وإذَا لَـمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها فما بـين ذلك بأن يكون من تأديبه نبـيه صلى الله عليه وسلم فـي عشرتهم به أشبه وأولـى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من الـمسلـمين.
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟ قـيـل: لا دلالة عندنا علـى أنه منسوخ, إذ كان جائزا أن يكون, وإن كان الله أنزله علـى نبـيه علـيه الصلاة والسلام فـي تعريفه عشرةَ من لـم يؤمر بقتاله من الـمشركين مرادا به تأديب نبـيّ الله والـمسلـمين جميعا فـي عشرة الناس وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم, فـيكون وإن كان من أجلهم نزل تعلـيـما من الله خـلقه صفة عشرة بعضهم بعضا, لـم يجب استعمال الغلظة والشدّة فـي بعضهم, فإذا وجب استعمال ذلك فـيهم استعمل الواجب, فـيكون قوله: خُذِ العَفْوَ أمرا بأخذه ما لـم يجب غير العفو, فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك فلا يحكم علـى الاَية بأنها منسوخة لـما قد بـينا ذلك فـي نظائره فـي غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: وأمُرْ بـالعُرْفِ فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم بـما:
12143ـ حدثنـي الـحسن بن الزبرقان النـخعي, قال: ثنـي حسين الـجعفـي, عن سفـيان بن عيـينة, عن رجل قد سماه, قال: لـما نزلت هذه الاَية: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جِبْرِيـلُ ما هَذَا»؟ قال: ما أدري حتـى أسأل العالِـم. قال: ثم قال جبريـل: يا مـحمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك, وتعطي من حرمك, وتعفو عمن ظلـمك.
12144ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا سفـيان, عن أبـيّ, قال: لـما أنزل الله علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هَذَا يا جِبْرِيـلُ»؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلـمك, وتعطي من حرمك, وتصلَ من قطعك.
وقال آخرون بـما:
12145ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبـيه: وأْمُرْ بـالعُرْفِ يقول: بـالـمعروف.
12146ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وأْمُرْ بـالعُرْفِ قال: أما العرف: فـالـمعروف.
12147ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأْمُرْ بـالعُرْفِ أي بـالـمعروف.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أمر نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بـالعُرْف, وهو الـمعروف فـي كلام العرب, مصدر فـي معنى الـمعروف, يقال أولـيته عُرْفـا وعارفـا وعارفةً كل ذلك بـمعنى الـمعروف. فإذا كان معنى العرف ذلك, فمن الـمعروف صلة رحم من قُطِع, وإعطاء من حُرِم, والعفو عمن ظَلَـم. وكلّ ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إلـيه فهو من العرف. ولـم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى فـالـحقّ فـيه أن يقال: قد أمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عبـاده بـالـمعروف كله لا ببعض معانـيه دون بعض.
وأما قوله: وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ فإنه أمر من الله تعالـى نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل. وذلك وإن كان أمرا من الله لنبـيه, فإنه تأديب منه عزّ ذكره لـخـلقه بـاحتـمال من ظلـمهم أو اعتدى علـيهم, لا بـالإعراض عمن جهل الواجب علـيه من حقّ الله ولا بـالصفح عمن كفر بـالله وجهل وحدانـيته, وهو للـمسلـمين حَرْبٌ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك.
12148ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبـيه صلى الله عليه وسلم, ودله علـيها.
الآية : 200
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الـجاهلـين ويحملك علـى مـجازاتهم. فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ يقول: فـاستـجر بـالله من نزغه. إنّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزع الشيطان سميع لـجهل الـجاهل علـيك ولاستعاذتك به من نزغه ولغير ذلك من كلام خـلقه, لا يخفـى علـيه منه شيء, علـيـم بـما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خـلقه. كما:
12149ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَكَيْفَ بـالغَضَبِ يا رَبّ»؟ قال: وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ.
12150ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ قال: علـم الله أن هذا العدوّ منـيع ومَريد.
وأصل النزغ: الفساد, يقول: نزغ الشيطان بـين القوم إذا أفسد بـينهم وحمل بعضَهم علـى بعض, ويقال منه: نزغ ينزغ, ونغَز ينغُز.
الآية : 201
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ اتّقَوْا الله من خـلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول: إذا ألـمّ بهم طيف من الشيطان من غضب أو غيره مـما يصدّ عن واجب حقّ الله علـيهم, تذكّروا عقاب الله وثوابه ووعده ووعيده, وأبصروا الـحقّ فعملوا به, وانتهوا إلـى طاعة الله فـيـما فرض علـيهم وتركوا فـيه طاعة الشيطان.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: «طَيْفٌ» فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة: طائِفٌ علـى مثال فـاعل, وقرأه بعض الـمكيـين والبصريـين والكوفـيـين: «طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ».
واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي فرق ما بـين الطائف والطيف. قال بعض البصريـين: الطائف والطيف سواء, وهو ما كان كالـخيال والشيء يـلـمّ بك. قال: ويجوز أن يكون الطيف مخففـا عن طيّف مثل ميّت ومَيْت. وقال بعض الكوفـيـين: الطائف: ما طاف بك من وسوسة الشيطان, وأما الطيف: فإنـما هو من اللـمـم والـمـمس. وقال آخر منهم: الطيف: اللـمـم, والطائف: كلّ شيء طاف بـالإنسان. وذُكر عن أبـي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: الطيف: الوسوسة.
قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأ: طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ لأن أهل التأويـل تأوّلوا ذلك بـمعنى الغضب والزلة تكون من الـمطيف به. وإذا كان ذلك معناه كان معلوما إذ كان الطيف إنـما هو مصدر من قول القائل: طاف يطيف, أن ذلك خبر من الله عما يـمسّ الذين اتقوا من الشيطان, وإنـما يـمسهم ما طاف بهم من أسبـابه, وذلك كالغضب والوسوسة. وإنـما يطوف الشيطان بـابن آدم لـيستزله عن طاعة ربه أو لـيوسوس له, والوسوسة والاستزلال هو الطائف من الشيطان, وأما الطيف فإنـما هو الـخيال, وهو مصدر من طاف يطيف, ويقول: لـم أسمع فـي ذلك طاف يَطيف, ويتأوّله بأنه بـمعنى الـميت وهو من الواو. وحكى البصريون وبعض الكوفـيـين سماعا من العرب: طاف يطيف, وطفت أطيف, وأنشدوا فـي ذلك:
أنّى ألَـمّ بِكَ الـخَيالُ يَطِيفُومَطافُه لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ
وأما أهل التأويـل, فإنهم اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: ذلك الطائف هو الغضب. ذكر من قال ذلك.
12151ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ قال: الطيف: الغضب.
12152ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: «إذَا مَسهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ» قال: هو الغضب.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قال: الغضب.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: إذَا مسّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا قال: هو الغضب.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ قال: الغضب.
وقال آخرون: هو اللّـمة والزلة من الشيطان. ذكر من قال ذلك.
12153ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا الطائف: اللـمة من الشيطان. فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ.
12154ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ يقول: نزغ من الشيطان. تَذَكّرُوا.
12155ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول: إذا زلوا تابوا..
قال أبو جعفر: وهذان التأويلان متقاربـا الـمعنى, لأن الغضب من استزلال الشيطان. واللـمة من الـخطيئة أيضا منه, وكان ذلك من طائف الشيطان. وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لـخصوص معنى منه دون معنى, بل الصواب أن يعُمّ كما عمه جلّ ثناؤه, فـيقال: إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسبـاب الشيطان ما كان ذلك العارض, تذكروا أمر الله وانتهوا إلـى أمره.
وأما قوله: فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فإنه يعنـي: فإذا هم مبصرون هدى الله وبـيانه وطاعته فـيه, فمنتهون عما دعاهم إلـيه طائف الشيطان. كما:
12156ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ يقول: إذا هم منتهون عن الـمعصية, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان.
الآية : 202
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الْغَيّ ثُمّ لاَ يُقْصِرُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وإخوان الشياطين تـمدّهم الشياطين فـي الغيّ. يعنـي بقوله: يـمُدّونَهُمْ يزيدونهم. ثُمّ لا يُقْصِرُونَ عما قصر عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان. وإنـما هذا خبر من الله عن فريقـي الإيـمان والكفر, بأن فريق الإيـمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه, فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلـى التوبة والإنابة إلـى الله مـما كان منهم من زلة, وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيّا إلـى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله, ولا يحجزُهم تقوى الله ولا خوف الـمعاد إلـيه عن التـمادي فـيها والزيادة منها, فهو أبدا فـي زيادة من ركوب الإثم, والشيطان يزيده أبدا, لا يُقصر الإنسيّ عن شيء من ركوب الفواحش ولا الشيطان من مدّه منه. كما:
12157ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات, ولا الشياطين تـمسك عنهم.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُم لا يُقْصِرُونَ يقول: هم الـجنّ يوحون إلـى أولـيائهم من الإنس, ثم لا يقصرون, يقول: لا يسأمون.
12158ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ إخوان الشياطين من الـمشركين, يـمدّهم الشيطان فـي الغيّ. ثُمّ لا يُقْصِرُونَ.
12159ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال عبد الله بن كثـير: وإخوانهم من الـجنّ, يـمدّون إخوانهم من الإنس, ثم لا يقصرون, ثم يقول لا يقصر الإنسانُ. قال: والـمدّ الزيادة, يعنـي: أهل الشرك, يقول: لا يقصر أهل الشرك, كما يقصر الذين اتقوا لأنهم لا يحجزهم الإيـمان. قال ابن جريج, قال مـجاهد وإخْوَانُهُمْ من الشياطين يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ استـجهالاً يـمدّون أهل الشرك. قال ابن جريج: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِـجَهَنّـمَ كَثِـيرا مِنَ الـجِنّ وَالإنْسِ قال: فهؤلاء الإنس. يقول الله: وَإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ.
12160ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: ثنـي مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ قال: إخوان الشياطين يـمدّهم الشياطين فـي الغيّ ثم لا يقصرون.
12161ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وإخْوَانُهُمْ من الشياطين. يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ استـجهالاً.
وكان بعضهم يتأوّل قوله: ثُمّ لا يُقْصِرُونَ بـمعنى: ولا الشياطين يُقْصِرون فـي مدّهم إخوانهم من الغيّ. ذكر من قال ذلك.
12162ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وإخْوَانُهُمْ يَـمُدّونَهُمْ فِـي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ عنهم, ولا يرحمونهم.
قال أبو جعفر: وقد بـيّنا أولـى التأويـلـين عندنا بـالصواب, وإنـما اخترنا ما اخترنا من القول فـي ذلك علـى ما بـيّناه لأن الله وصف فـي الاَية قبلها أهل الإيـمان به وارتداعهم عن معصيته وما يكرهه إلـى مـحبته عند تذكرهم عظمته, ثم أتبع ذلك الـخبر عن إخوان الشياطين وركوبهم معاصيه, وكان الأولـى وصفهم بتـماديهم فـيها, إذ كان عقـيب الـخبر عن تقصير الـمؤمنـين عنها.
وأما قوله: يَـمُدّونَهُمْ فإن القرّاء اختلفت فـي قراءته, فقرأه بعض الـمدنـيـين: «يُـمِدّونَهُمْ» بضم الـياء من أمددت. وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين والبصريـين: يَـمُدّونَهُمْ بفتـح الـياء من مددت.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: يَـمُدّونَهُمْ بفتـح الـياء, لأن الذي يـمدّ الشياطينُ إخوانهم من الـمشركين إنـما هو زيادة من جنس الـمـمدود, وإذا كان الذي مدّ من جنس الـمـمدود كان كلام العرب مددت لا أمددت.
وأما قوله: يُقْصِرُونَ فإن القرّاء علـى لغة من قال: أَقْصرت أُقصِر, وللعرب فـيه لغتان: قَصَرْت عن الشيء, وأقْصَرْت عنه.
الآية : 203
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنّمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىَ إِلَيّ مِن رّبّي هَـَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وإذا لـم تأت يا مـحمد هؤلاء الـمشركين بآية من الله قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: قالوا هلا اخترتها واصطفـيتها, من قول الله تعالـى: وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يعنـي: يختار ويصطفـي. وقد بـيّنا ذلك فـي مواضعه بشواهده.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها بـمعنى: هلا اجتبـيتها اختلافـا كما تقول العرب: لقد اختار فلان هذا الأمر وتـخيره اختلافـا. ذكر من قال ذلك.
12163ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا لَـمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها أي لولا أتـيتنا بها من قبل نفسك هذا قول كفـار قريش.
12164ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قوله: وَإذَا لَـمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها قالوا: لولا اقتضبتها قالوا: تـخرجها من نفسك.
12165ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا لَـمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها قالوا: لولا تقوّلتها, جئت بها من عندك.
12166ـ حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: لولا تلقّـيتها. وقال مرّة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.
12167ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قالُوا لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: لولا أحدثتها.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: لَوْلا اجْتَبَـيْتَها قال: لولا جئت بها من نفسك.
وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبلتها منه ذكر من قال ذلك.
12168ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: لولا تقبلتها من الله.
12169ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: لولا تلقـيتها من ربك.
12170ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لَوْلا اجْتَبَـيْتَها يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك, تأويـل من قال تأويـله: هلا أحدثتها من نفسك لدلالة قول الله: قُلْ إنّـمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إلـيّ مِنْ رَبّـي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ يبـين ذلك أن الله إنـما أمر نبـيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بـالـخبر عن نفسه أنه إنـما يتبع ما ينزل علـيه ربه ويوحيه إلـيه, لا أنه يحدث من قِبَل نفسه قولاً وينشئه فـيدعو الناس إلـيه.
وحُكي عن الفراء أنه كان يقول: اجتبـيت الكلام واختلقته وارتـجلته: إذا افتعلته من قِبَل نفسك.
12171ـ حدثنـي بذلك الـحرث, قال: حدثنا القاسم عنه.
قال: أبو عبـيد, وكان أبو زيد يقول: إنـما تقول العرب ذلك للكلام يبديه الرجل لـم يكن أعدّه قبل ذلك فـي نفسه. قال أبو عبـيد: واخترعه مثل ذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ إنّـمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إلـيّ مِنْ رَبّـي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُم وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يِؤْمِنُونَ.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للقائلـين لك إذا لـم تأتهم بآية هلاّ أحدثتها من قِبَل نفسك: إن ذلك لـيس لـي ولا يجوز لـي فعله لأن الله إنـما أمرنـي بـاتبـاع ما يوحى إلـيّ من عنده, فإنـما أتبع ما يوحى إلـيّ من ربـي لأنـي عبده وإلـى أمره أنتهي وإياه أطيع. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه علـيكم بصائر من ربكم, يقول: حجج علـيكم, وبـيان لكم من ربكم, واحدتها: بصيرة, كما قال جلّ ثناؤه: هَذَا بَصَائِرُ للنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وإنـما ذكر هذا ووحّد فـي قوله: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ لـما وصفت من أنه مراد به القرآن والوحي. وقوله: وَهُدًى يقول: وبـيان يهدي الـمؤمنـين إلـى الطريق الـمستقـيـم, ورحمة رحم الله به عبـاده الـمؤمنـين, فأنقذهم به من الضلالة والهلكة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لـمن آمن, يقول: لـمن صدق بـالقرآن أنه تنزيـل الله ووحيه, وعمل بـما فـيه دون من كذب به وجحده وكفربه, بل هو علـى الذين لا يؤمنون به غمّ وخزي.
الآية : 204
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }..
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به الـمصدّقـين بكتابه الذين القرآن لهم هدى ورحمة: إذَا قُرِىءَ علـيكم أيها الـمؤمنون, القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ يقول: أصغوا له سمعكم لتتفهّموا آياته وتعتبروا بـمواعظه وأنصتوا إلـيه لتعقلوه وتتدبروه, ولا تلغوا فـيه فلا تعقلوه. لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول: لـيرحمكم ربكم بـاتعاظكم بـمواعظه, واعتبـاركم بعبره, واستعمالكم ما بـينه لكم ربكم من فرائضه فـي آية.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـحال التـي أمر الله بـالاستـماع لقارىء القرآن إذا قرأ والإنصات له, فقال بعضهم: ذلك حال كون الـمصلـي فـي الصلاة خـلف إمام يأتـمّ به, وهو يسمع قراءة الإمام علـيه أن يسمع لقراءته. وقالوا: فـي ذلك أنزلت هذه الاَية. ذكر من قال ذلك.
12172ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن الـمسيب بن رافع, قال: كان عبد الله يقول: كنا يسلـم بعضنا علـى بعض فـي الصلاة, سلام علـى فلان, وسلام علـى فلان, قال: فجاء القرآن: وَإذَا قرِىءَ القرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا.
12173ـ قال: حدثنا حفص بن غياث, عن إبراهيـم الهجَريّ عن أبـي عياض, عن أبـي هريرة, قال: كانوا يتكلـمون فـي الصلاة, فلـما نزلت هذه الاَية: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ والاَية الأخرى, أُمروا بـالإنصات.
12174ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن أشعث, عن الزهري, قال: نزلت هذه الاَية فـي فتـى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلـما قرأ شيئا قرأه, فنزلت: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا.
12175ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن داود بن أبـي هند, عن بشير بن جابر, قال: صلـى ابن مسعود, فسمع ناسا يقرءون مع الإمام, فلـما انصرف, قال: أما آن لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا كما أمركم الله.
12176ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, قال: حدثنا الـجريري, عن طلـحة بن عبـيد الله بن كريز, قال: رأيت عبـيد بن عمير وعطاء بن أبـي ربـاح يتـحدثان والقاصّ يقصّ, فقلت: ألا تستـمعان إلـى الذكر وتستوجبـان الـموعود؟ قال: فنظرا إلـيّ ثم أقبلا علـى حديثهما. قال: فأعدت فنظرا إلـيّ, ثم أقبلا علـى حديثهما, قال: فأعدت الثالثة, قال: فنظرا إلـيّ فقالا: إنـما ذلك فـي الصلاة: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا.
12177ـ حدثنـي العبـاس بن الولـيد, قال: أخبرنـي أبـي, قال: سمعت الأوزاعي, قال: حدثنا عبد الله بن عامر قال: ثنـي زيد بن أسلـم, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, عن هذه الاَية: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: نزلت فـي رفع الأصوات وهم خـلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الصلاة.
12178ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم إسماعيـل بن كثـير, عن مـجاهد فـي قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة.
12179ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن رجل, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا لـيث, عن مـجاهد: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت حميدا الأعرج, قال: سمعت مـجاهدا يقول فـي هذه الاَية: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة.
قال: ثنـي عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا حميد, عن مـجاهد بـمثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير وابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة الـمكتوبة.
12180ـ قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن لـيث, عن مـجاهد, وعن حجاج, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد, وعن ابن أبـي لـيـلـى, عن الـحكم, عن سعيد بن جبـير: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة الـمكتوبة.
قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن أبـي هاشم, عن مـجاهد: فـي الصلاة الـمكتوبة.
قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, مثله.
12181ـ قال: حدثنا الـمـحاربـي وأبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: فـي الصلاة الـمكتوبة.
12182ـ قال: حدثنا جرير وابن فضيـل, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: فـي الصلاة الـمكتوبة.
12183ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: كانوا يتكلـمون فـي صلاتهم بحوائجهم أوّل ما فرضت علـيهم, فأنزل الله ما تسمعون: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا.
12184ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: كان الرجل يأتـي وهم فـي الصلاة فـيسألهم: كم صلـيتـم؟ كم بقـي؟ فأنزل الله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا. وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم فـي الصلاة حين يسمعون ذكر الـجنة والنار, فأنزل الله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ.
12185ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد والـمـحاربـي, عن أشعث, عن الزهريّ, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ ورجل يقرأ, فنزلت: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا.
قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن الهَجَريّ عن أبـي عياض, عن أبـي هريرة, قال: كانوا يتكلـمون فـي الصلاة, فلـما نزلت: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: هذا فـي الصلاة.
12186ـ قال: حدثنا أبـي, عن حريث, عن عامر, قال: فـي الصلاة الـمكتوبة.
حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: إذا قرىء فـي الصلاة.
12187ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ يعنـي: فـي الصلاة الـمفروضة.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن أبـي هاشم, عن مـجاهد قال: هذا فـي الصلاة فـي قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ.
12188ـ قال: أخبرنا الثوريّ, عن لـيث, عن مـجاهد: أنه كره إذا مرّ الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد مـمن خـلفه شيئا, قال: السكوت.
12189ـ قال: أخبرنا الثوري, عن لـيث, عن مـجاهد: قال: لا بأس إذا قرأ الرجل فـي غير الصلاة أن يتكلـم.
12190ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ قال: هذا إذا قام الإمام للصلاة فـاستـمعوا له وأنصتوا.
12191ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن يونس, عن الزهريّ, قال: لا يقرأ من وراء الإمام فـيـما يجهر به من القراءة, تكفـيهم قراءة الإمام وإن لـم يسمعهم صوته, ولكنهم يقرءون فـيـما لـم يجهر به سرّا فـي نفسهم, ولا يصلـح لأحد خـلفه أن يقرأ معه فـيـما يجهر به سرّا ولا علانـية, قال الله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحمُونَ.
12192ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن ابن لهيعة, عن ابن هبـيرة, عن ابن عبـاس أنه كان يقول فـي هذه: وَاذْكُرْ رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً هذا فـي الـمكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك, فإنـما هي نافلة. إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قرأ فـي صلاة مكتوبة, وقرأ وراءه أصحابه, فخـلطوا علـيه, قال: فنزل القرآن: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ فهذا فـي الـمكتوبة.
وقال آخرون: بل عُنـي بهذه الاَية الأمر بـالإنصات للإمام فـي الـخطبة إذا قرىء القرآن فـي خطبة. ذكر من قال ذلك.
12193ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر, قال: حدثنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن مـجاهد, فـي قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: الإنصات للإمام يوم الـجمعة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد وابن أبـي عتبة, عن العّوام, عن مـجاهد, قال: فـي خطبة يوم الـجمعة.
وقال آخرون: عُنـي بذلك: الإنصات فـي الصلاة وفـي الـخطبة. ذكر من قال ذلك.
12194ـ حدثنـي ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, قال: سمعت إبراهيـم بن أبـي حمزة, يحدث أنه سمع مـجاهدا يقول فـي هذه الاَية: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: فـي الصلاة, والـخطبة يوم الـجمعة.
12195ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون, عن عنبسة, عن جابر, عن عطاء, قال: وجب الصموت فـي اثنتـين: عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلـي, وعند الإمام وهو يخطب.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن جابر, عن مـجاهد: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ وجب الإنصات, قال: وجب فـي اثنتـين: فـي الصلاة والإمام يقرأ, والـجمعة والإمام يخطب.
12196ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال هشيـم, أخبرنا من سمع الـحسن يقول: فـي الصلاة الـمكتوبة, وعند الذكر.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن جابر, عن مـجاهد, قال: وجب الإنصات فـي اثنتـين: فـي الصلاة, ويوم الـجمعة.
12197ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن بقـية بن الولـيد, قال: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبـير يقول فـي قوله: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا قال: الإنصات: يوم الأضحى, ويوم الفطر, ويوم الـجمعة, وفـيـما يجهر به الإمام من الصلاة.
12198ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: أخبرنا هشيـم, عن الربـيع بن صبـيح, عن الـحسن, قال: فـي الصلاة, وعند الذكر.
12199ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: حدثنا يحيى بن أيوب, قال: ثنـي ابن جريج, عن عطاء بن أبـي ربـاح, قال: أوجب الإنصات يوم الـجمعة, قول الله تعالـى: وَإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فـاسْتَـمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ وفـي الصلاة مثل ذلك.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: أمروا بـاستـماع القرآن فـي الصلاة إذا قرأ الإمام وكان من خـلفه مـمن يأتـمّ به يسمعه, وفـي الـخطبة.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب, لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: «إذَا قَرأ الإمامُ فأنْصِتوا», وإجماع الـجميع علـى أن من سمع خطبة الإمام مـمن علـيه الـجمعة, الاستـماع والإنصات لها, مع تتابع الأخبـار بـالأمر بذلك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا وقت يجب علـى أحد استـماع القرآن والإنصات لسامعه من قارئه إلاّ فـي هاتـين الـحالتـين علـى اختلاف فـي إحداهما, وهي حالة أن يكون خـلف إمام مؤتـمّ به. وقد صحّ الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما ذكرنا من قوله: «إذَا قَرأ الإمامُ فأنْصِتُوا» فـالإنصات خـلفه لقراءته واجب علـى من كان به مؤتـما سامعا قراءته بعموم ظاهر القرآن والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 205
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُر رّبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: واذكر أيها الـمستـمع الـمنصت للقرآن إذا قرىء فـي صلاة أو خطبة, رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ يقول: اتعظ بـما فـي آي القرآن, واعتبر به, وتذكّر معادك إلـيه عند سماعكه. تَضَرّعا يقول: افعل ذلك تـخشعا لله وتواضعا له. وَخِيفَةً يقول: وخوفـا من الله أن يعاقبك علـى تقصير يكون منك فـي الاتعاظ به والاعتبـار, وغفلة عما بـين الله فـيه من حدوده. ودُونَ الـجَهْرِ مِنَ القَوْلِ يقول: ودعاء بـاللسان لله فـي خفـاء لا جهار, يقول: لـيكن ذكر الله عند استـماعك القرآن فـي دعاء إن دعوت غير جهار, ولكن فـي خفـاء من القول. كما:
12200ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاذْكرْ رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الـجَهْرِ مِنَ القَوْلِ لا يجهر بذلك.
12201ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, قال: سمعت مـجاهدا يقول فـي قوله: وَاذْكرْ رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الـجَهْرِ مِنَ القَوْلِ... الاَية, قال: أمروا أن يذكروه فـي الصدور تضرّعا وخيفة.
12202ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن التـيـمي, عن أبـيه, عن حيان بن عمير, عن عبـيد بن عمير, فـي قوله: وَاذْكُرْ رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ قال: «يقول الله إذا ذكرنـي عبدي فـي نفسه, ذكرته فـي نفسي, وإذا ذكرنـي عبدي وحده ذكرته وحدي, وإذا ذكرنـي فـي ملإ ذكرته فـي أحسن منهم وأكرم».
12203ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: واذْكرْ ربّك فـي نَفْسِك تَضَرّعا وخِيفَةً قال: يؤمر بـالتضرّع فـي الدعاء والاستكانة, ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بـالدعاء.
وأما قوله: بـالغدُوّ والاَصالِ فإنه يعنـي بـالبكر والعشيات. وأما الاَصال فجمع.
واختلف أهل العربـية فـيها فقال بعضهم: هي جمع أصيـل, كما الأيـمان جمع يـمين, والأسرار جمع سرير. وقال آخرون منهم: هي جمع أصل, والأصل جمع أصيـل. وقال آخرون منهم: هي جمع أصل وأصيـل. قال: وإن شئت جعلت الأصل جمعا للأصيـل, وإن شئت جعلته واحدا. قال: والعرب تقول: قد دنا الأصل فـيجعلونه واحدا.
وهذا القول أولـى بـالصواب فـي ذلك, وهو أنه جائز أن يكون جمع أصيـل وأصل, لأنهما قد يجمعان علـى أفعال. وأما الاَصال فهي فـيـما يقال فـي كلام العرب ما بـين العصر إلـى الـمغرب.
وأما قوله: ولا تَكُنْ مِن الغافِلِـين فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرىء القرآن عن عظاته وعبره, وما فـيه من عجائبه, ولكن تدبر ذلك وتفهّمه, وأشعره قلبك بذكر الله وخضوع له وخوف من قدرة الله علـيك, إن أنت غفلت عن ذلك.
12204ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: بـالغدُوّ والاَصالِ قال: بـالبكر والعشيّ. ولا تَكنْ مِن الغافِلِـين.
12205ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا معرّف بن واصل السعديّ, قال: سمعت أبـا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصَلْنا بَعْدُ؟
12206ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد, قوله: بـالغدُوّ والاَصالِ قال: الغدوّ: آخر الفجر صلاة الصبح, والاَصال: آخر العشيّ صلاة العصر. قال: وكل ذلك لها وقت أوّل الفجر وآخره, وذلك مثل قوله فـي سورة آل عمران: واذْكُرْ ربّك كَثِـيرا وَسبّحْ بـالعَشِيّ والإبْكارِ. وقـيـل: العشيّ: ميـل الشمس إلـى أن تغيب, والإبكار: أول الفجر.
12207ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مـحمد بن شريك, عن ابن أبـي ملـيكة, عن ابن عبـاس, سئل عن صلاة الفجر, فقال: إنها لفـي كتاب الله, ولا يقوم علـيها, ثم قرأ: فـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أن تُرْفَعَ... الاَية.
12208ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سويد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاذْكُرْ رَبّكَ فِـي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً... إلـى قوله: بـالغُدُوّ والاَصَالِ أمر الله بذكره, ونهى عن الغفلة. أما بـالغدوّ: فصلاة الصبح, والاَصال: بـالعشيّ.
الآية : 206
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: لا تستكبر أيها الـمستـمع الـمنصت للقرآن عن عبـادة ربك, واذكره إذا قرىء القرآن تضرّعا وخيفة ودون الـجهر من القول, فإن الذين عند ربك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتـخشع, وذلك هو العبـادة. ويُسَبّحُونَهُ يقول: ويعظمون ربهم بتواضعهم له وعبـادتهم. وَلهُ يَسْجُدُونَ يقول: ولله يصلون, وهو سجودهم, فصلوا أنتـم أيضا له, وعظموه بـالعبـادة كما يفعله مَن عنده من ملائكته.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الأعراف