تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 178 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 178

178 : تفسير الصفحة رقم 178 من القرآن الكريم

** إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرَىَ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد, حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل, حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر, نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف, ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة, فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره, ثم قال «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الارض أبداً» قال فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يانبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فلما كان يومئذ التقوا, فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً, واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ترى يا ابن الخطاب ؟» قال: قلت ما أرى ما رأىَ أبو بكر ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين, هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم «للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ـ إلى قوله ـ فكلوا مما غنمتم حلالاً طيب} فأحل لهم الغنائم. فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} بأخذكم الفداء ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار به وصححه علي بن المديني والترمذي وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أن هذه الاَية الكريمة قوله {إذ تستغيثون ربكم} في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا قال يزيد بن يثيع والسدي وابن جريج وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بعض مناشدتك فوالله ليفين الله لك بما وعدك, قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ـ إلى قوله ـ فإن الله شديد العقاب} حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به, أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى {اذهب أنت وربك فقاتل} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعني قوله. حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر «اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر» وروراه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي وقوله تعالى {بألف من الملائكة مردفين} أي يردف بعضهم بعضاً كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس {مردفين} متتابعين ويحتمل أن المراد {مردفين} لكم أي نجدة لكم كما قال العوفي عن ابن عباس {مردفين} يقول المدد كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارى وابن زيد {مردفين} ممدين, وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس {يمددكم ربكم بألف من الملائكة مردفين} قال وراء كل ملك ملك. وفي رواية بهذا الإسناد {مردفين} قال بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي عن أبي الحويرث عن محمد جبير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر, ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف مردفة بمثلها ولهذا قرأ بعضهم {مردَفين} بفتح الدال, والله أعلم. والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة, وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس, عن عمر الحديث المتقدم, ثم قال أبو زميل: حدثني ابن عباس قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً قال فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وقال البخاري: باب شهود الملائكة بدراً. حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج وهو خطأ, والصواب رواية البخاري والله أعلم وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقوله تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى} الاَية, أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى {ولتطمئن به قلوبكم} وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال {وما النصر إلا من عند الله} كما قال تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مّناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها * ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان, وعاداً الأولى بالدبور, وثمود بالصيحة, وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل, وقوم شعيب بيوم الظلة, فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر} وقتل المؤمنين للكافرين, أشد إهانة للكافرين, وأشفى لصدور المؤمنين, كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم, ويخزهم وينصركم عليهم, ويشف صدور قوم مؤمنين} ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان, فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه, إنما غسلوه بالماء قذفاً من بعيد, ورجموه حتى دفنوه, ولهذا قال تعالى: {إن الله عزيز} أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والاَخرة كقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} {حكيم} فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.

** إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النّارِ
يذكرهم الله تعالى بماأنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم, وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} الاَية, قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد, ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلاّ نائم, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله, وفي الصلاة من الشيطان, وقال قتادة: النعاس في الرأس, والنوم في القلب, قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جداً, وأما الاَية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر, وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله, وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى: {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسر} ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. وقوله {وينزل عليكم من السماء ماء} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم, وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام. ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي, وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه طش أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال « بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب, ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه وسلمففعل كذلك, وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك, يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال «هل تعرف هذا» ؟ فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مالبد لهم الأرض, ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم, وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله {ليطهركم به} أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة {عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة} فهذا زينة الظاهر {وسقاهم ربهم شراباً طهور} أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته {وليربط على قلوبكم} أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن {ويثبت به الأقدام} وهو شجاعة الظاهر, والله أعلم.
وقوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنو} وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق: وآزروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه, وقوله {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} أي اضربوا الهام ففلقوها, واحتزوا الرقاب فقطعوها, وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى {فوق الأعناق} فقيل معناه اضربوا الرؤوس, قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموه فشدوا الوثاق} وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله, إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق» واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام, قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول «يفلق هاماً» فيقول أبو بكر:
من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به, وقوله {واضربوا منهم كل بنان} وقال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم, والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانةولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {واضربوا منهم كل بنان} يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير: وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل, وقال الأوزاعي في قوله تعالى: {واضربوا منهم كل بنان} قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس: فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلاً ولكن خذوهم أخذاً حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة {أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} الاَية, فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً, وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً فوفى ذلك سبعين يعني قتيلاً ولهذا قال تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} أي خالفوهما فساروا في شق, وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق, ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه {ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الاَخرة.

** يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىَ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحف} أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم {فلا تولوهم الأدبار} أي تفروا وتتركوا أصحابكم {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال} أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي, وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها {أو متحيزاً إلى فئة} أي فر من ها هنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة, فبتنا, ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا, فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال «من القوم ؟» فقلنا نحن الفرارون فقال «لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» قال فأتيناه حتى قبلنا يده. وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به, وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {أو متحيزاً إلى فئة} قال أهل العلم معنى قوله «العكارون» أي العطاقون, وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال لما قتل أبو عبيد قال عمر: أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم, وقال عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الاَية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا, ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن الله يقول: {إذا لقيتم الذين كفروا زحف} الاَية, فقال إنما أنزلت هذه الاَية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها, وقال الضحاك في قوله {أو متحيزاً إلى فئة} المتحيز الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وله شواهد من وجوه أخر, ولهذا قال تعالى: {فقد باء} أي رجع {بغضب من الله ومأواه} أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده {جهنم وبئس المصير}. وقال الإمام أحمد حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمر الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن أقيم الصلاة, وأن أؤدي الزكاة, وأن أحج حجة الإسلام, وأن أصوم شهر رمضان, وأن أجاهد في سبيل الله, فقلت يا رسول الله أما اثنتان فو الله لا أطيقهما: الجهاد, فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت, والصدقة فو الله ما لي إلا غنيمة وعشر ذَوْدٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهم, فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: «فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً ؟» قلت يارسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن, هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» وهذا أيضاً حديث غريب جداً, وقال الطبراني أيضاً حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر الشني حدثني عمرو بن مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف» وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم عنه سواه, وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراماً على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم, وقيل على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وقيل المراد بهذه الاَية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم, وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله {ومن يولهم يومئذ دبره} قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه, وقال ابن المبارك عن المبارك أيضاً عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال {إن الذين تولوا يوم التقى الجمعان ـ إلى قوله ـ ولقد عفا الله عنهم} ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال {ثم وليتم مدبرين} {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الاَية {ومن يولهم يومئذ دبره} إنما أنزلت في أهل بدر, وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراماً على غير أهل بدر, وإن كان سبب نزول الاَية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير, والله أعلم.