تفسير الطبري تفسير الصفحة 178 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 178
179
177
 الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: ويبطل البـاطل حين تستغيثون ربكم, ف «إذا» من صلة «يبطل» ومعنى قوله: تسْتَغيثونَ رَبّكُمْ: تستـجيرون به من عدوّكم, وتدعونه للنصر علـيهم. فـاسْتَـجابَ لَكُمْ يقول: فأجاب دعاءكم بأنـي مـمدكم بألف من الـملائكة يُردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الأخبـار بذلك.
12297ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك, عن عكرمة بن عمار, قال: ثنـي سماك الـحنفـي, قال: سمعت ابن عبـاس يقول: ثنـي عمر بن الـخطاب رضي الله عنه قال: لـما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمشركين وعدتهم, ونظر إلـى أصحابه نـيفـا علـى ثلاث مئة, فـاستقبل القبلة, فجعل يدعو ويقول: «اللهمّ أنْـجِزْ لـي ما وَعَدَتْنـي اللّهُمّ إنْ تَهْلِكَ هَذهِ العِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ, لا تُعْبَدْ فِـي الأرْضِ» فلـم يزل كذلك حتـى سقط رداؤه, وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه, فوضع رداءه علـيه, ثم التزمه من ورائه, ثم قال: كفـاك يا نبـيّ الله بأبـي وأمي مناشدتك ربك, فإنه سينـجز لك ما وعدك فأنزل الله: إذْ تَسْتَغِثُونَ رَبّكُمْ فـاسْتَـجابَ لَكُمْ أنّـي مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ.
12298ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: لـما اصطفّ القوم, قال أبو جهل: اللهمّ أولانا بـالـحقّ فـانصره ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده, فقال: «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِـي الأرْضِ أبَدا».
12299ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: قام النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «اللّهُمّ رَبّنا أنْزَلْتَ عَلـيّ الكِتابَ, وأمَرْتَنِـي بـالقِتالِ, وَوَعَدْتَنِـي بـالنّصْرِ, وَلا تُـخْـلِفُ الـمِيعادَ» فأتاهُ جِبرِيـل علـيه السلام, فأنزل الله: ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُنْزَلِـينَ بَلـى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ.
12300ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن ابن إسحاق, عن زيد بن يُثَـيْع قال: كان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي العريش, فجعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يدعو, يقول: «اللّهُمّ انْصُرْ هَذِهِ العِصَابَةَ, فإنّكَ إنْ لَـمْ تَفْعَلْ لَنْ تُعْبَدَ فـي الأرْض» قال: فقال أبو بكر: بَعْضَ مناشدتك منـجزك ما وعدك.
12301ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أقبل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره, فأنزل الله علـيه الـملائكة.
12302ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ قال: دعا النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
12303ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ: أي بدعائكم حين نظروا إلـى كثرة عدوّهم وقلة عددهم, فـاستـجاب لكم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه.
12304ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبـي حصين, عن أبـي صالـح, قال: لـما كان يوم بدر, جعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشدّ النشدة, يدعو فأتاه عمر بن الـخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بعض نشدتك, فوالله لـيفـينّ الله لك بـما وعدك.
وأما قوله: أنّـي مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ فقد بـينا معناه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12305ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أنّـي مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ يقول: الـمزيد, كما تقول: ائت الرجل فزده كذا وكذا.
12306ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أحمد بن بشير, عن هارون بن عنترة, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: مُرْدِفِـينَ قال: متتابعين.
قال: ثنـي أبـي, عن سفـيان, عن هارون بن عنترة, عن ابن عبـاس, مثله.
12307ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ قال: وراء كلّ ملك ملك.
حدثنـي ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبـي كدينة يحيى بن الـمهلب, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: مُرْدِفِـينَ قال: متتابعين.
12308ـ قال: حدثنا هانىء بن سعيد, عن حجاج بن أرطأة, عن قابوس, قال: سمعت أبـا ظبـيان يقول: مُرْدِفِـينَ قال: الـملائكة بعضهم علـى إثر بعض.
12309ـ قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن جويبر, عن الضحاك, قال: مُرْدِفِـينَ قال: بعضهم علـى إثر بعض.
12310ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
12311ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: مُرْدِفِـينَ قال: مـمدين. قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير قال: مُرْدِفِـينَ الإرداف: الإمداد بهم.
12312ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ أي متتابعين.
12313ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ يتبع بعضهم بعضا.
12314ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: مُرْدِفِـينَ قال: الـمردفـين بعضهم علـى إثر بعض, يتبع بعضهم بعضا.
12315ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ يقول: متتابعين يوم بدر.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: «مُرْدَفِـينَ» بنصب الدال. وقرأه بعض الـمكيـين وعامّة قرّاء الكوفـيـين والبصريـين: مُرْدِفِـينَ. وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك, ويقول فـيـما ذُكر عنه: هو من أردف بعضهم بعضا. وأنكر هذا القول من قول أبـي عمرو بعض أهل العلـم بكلام العرب, وقال: إنـما الإرداف: أن يحمل الرجل صاحبه خـلفه, قال: ولـم يسمع هذا فـي نعت الـملائكة يوم بدر.
واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي معنى ذلك إذا قرىء بفتـح الدال أو بكسرها, فقال بعض البصريـين والكوفـيـين: معنى ذلك إذا قرىء بـالكسر أن الـملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضا علـى لغة من قال: أردفته وقالوا: العرب تقول: أردفته وردفته, بـمعنى: تبعته وأتبعته. واستشهد لصحة قولهم ذلك بـما قال الشاعر:
إذَا الـجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثّرَيّاظَنَنْتُ بِآلِ فـاطِمَة الظّنُونا
قالوا: فقال الشاعر: «أردفت», وإنـما أراد «ردفتُ» جاءت بعدها, لأن الـجوزاء تـجىء بعد الثريا. وقالوا معناه إذا قرىء مُرْدَفِـينَ أنه مفعول بهم, كأن معناه: بألف من الـملائكة يُردف الله بعضهم بعضا.
وقال آخرون: معنى ذلك إذا كسرت الدال: أردفت الـملائكة بعضها بعضا, وإذا قرىء بفتـحها: أردف الله الـمسلـمين بهم.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ بكسر الدال لإجماع أهل التأويـل علـى ما ذكرت من تأويـلهم أن معناه: يتبع بعضهم بعضا ومتتابعين. ففـي إجماعهم علـى ذلك من التأويـل الدلـيـل الواضح علـى أن الصحيح من القراءة ما اخترنا فـي ذلك من كسر الدال, بـمعنى: أردف بعض الـملائكة بعضا, ومسموع من العرب: جئت مِرْدِفـا لفلان: أي جئت بعده.
وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرىء «مُرْدَفِـينَ» بفتـح الدال: أن الله أردف الـمسلـمين بهم, فقول لا معنى له إذ الذكر الذي فـي مردفـين من الـملائكة دون الـمؤمنـين.
وإنـما معنى الكلام: أن يـمدّكم بألف من الـملائكة يردَف بعضهم ببعض, ثم حذف ذكر الفـاعل, وأخرج الـخبر غير مسمى فـاعله, فقـيـل: مُرْدَفِـينَ بـمعنى: مردَف بعضُ الـملائكة ببعض, ولو كان الأمر علـى ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون فـي الـمردَفـين ذكر الـمسلـمين لا ذكر الـملائكة, وذلك خلاف ما دلّ علـيه ظاهر القرآن.
وقد ذكر فـي ذلك قراءة أخرى, وهي ما:
12316ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال عبد الله بن يزيد: «مُرْدِفِـينَ», ومُرْدَفِـينَ و «مُرْدّفِـينَ», مثقل علـى معنى: مُرْتَدِفـين.
12317ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يعقوب بن مـحمد الزهري, قال: ثنـي عبد العزيز بن عمران عن الربعي, عن أبـي الـحويرث, عن مـحمد بن جبـير, عن علـيّ رضي الله عنه, قال: نزل جبريـل فـي ألف من الـملائكة عن ميـمنة النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وفـيها أبو بكر رضي الله عنه, ونزل ميكائيـل علـيه السلام فـي ألف من الـملائكة عن ميسرة النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وأنا فـيها.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرَىَ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }..
يقول تعالـى ذكره: لـم يجعل الله إرداف الـملائكة بعضها بعضا وتتابعها بـالـمصير إلـيكم أيها الـمؤمنون مددا لكم إلاّ بشرى لكم: أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله إياكم علـى أعدائكم. وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلوبُكُمْ يقول: ولتسكن قلوبكم بـمـجيئها إلـيكم, وتوقن بنصرة الله لكم, وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ: يقول: وما تُنصرون علـى عدوّكم أيها الـمؤمنون إلاّ أن ينصركم الله علـيهم, لا بشدة بأسكم وقواكم, بل بنصر الله لكم, لأن ذلك بـيده وإلـيه, ينصر من يشاء من خـلقه. إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ يقول: إن الله الذي ينصركم وبـيده نصر من يشاء من خـلقه, عزيز لا يقهره شيء, ولا يغلبه غالب, بل يقهر كلّ شيء ويغلبه, لأنه خـلقه حكيـم, يقول: حكيـم فـي تدبـيره ونصره من نصر, وخذلانه من خذل من خـلقه, لا يدخـل تدبـيره وهن ولا خـلل.
ورُوي عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد فـي ذلك ما:
12318ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج, قال: أخبرنـي ابن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: ما مْدّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم مـما ذكر الله غير ألف من الـملائكة مردفـين, وذكر الثلاثة والـخمسة بشرى, ما مدّوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عزّ وجلّ فـي الأنفـال. وأما الثلاثة والـخمسة, فكانت بشرى.
وقد أتـينا علـى ذلك فـي سورة آل عمران بـما فـيه الكفـاية.
الآية : 11-12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ }..
يقول تعالـى ذكره: ولتطمئن به قلوبكم إذ يعشيكم النعاس. ويعنـي بقوله: يُغَشّيكُمُ النّعاسَ: يـلقـي علـيكم النعاس, أمَنَةً يقول: أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم, وكذلك النعاس فـي الـحرب أمنة من الله عزّ وجلّ.
12319ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, عن أبـي رزين, عن عبد الله, قال: النعاس فـي القتال أمنة من الله عزّ وجلّ, وفـي الصلاة من الشيطان.
حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, فـي قوله: يغشاكم النعاس أمنة منه, عن عاصم, عن أبـي رزين, عن عبد الله, بنـحوه, قال: قال عبد الله: فذكر مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن عاصم, عن أبـي رزين, عن عبد الله بنـحوه.
والأمنة: مصدر من قول القائل: أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا, وكلّ ذلك بـمعنى واحد.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12320ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أمَنَةً منْهُ: أمانا من الله عزّ وجلّ.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أمَنَةً قال: أمنا من الله.
12321ـ حدثنـي يونس, قال: حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إذْ يُغَشّيكُمُ النّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ قال: أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الـخوف الذي أصابهم يوم أُحد. فقرأ: ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاسا.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله: «إذْ يُغَشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ» فقرأ ذلك عامّة قراء أهل الـمدينة «يُغَشِيكُمُ النّعاسَ» بضم الـياء وتـخفـيف الشين ونصب «النعاس», من أغشاهم الله النعاس, فهو يغشيهم. وقرأته عامة قراء الكوفـيـين: يُغَشّيكُم بضم الـياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس, فهو يُغَشّيهم. وقرأ ذلك بعض الـمكيـين والبصريـين: «يَغْشاكُم النّعاسُ» بفتـح الـياء ورفع «النعاس», بـمعنى غشيهم النعاس, فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله فـي آل عمران: يَغْشَى طائفَةً.
وأولـى ذلك بـالصواب: إذْ يُغَشّيكُم علـى ماذكرت من قراءة الكوفـيـين, لإجماع جميع القرّاء علـى قراءة قوله: ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً بتوجيه ذلك إلـى أنه من فعل الله عزّ وجلّ, فكذلك الواجب أن يكون كذلك: يُغَشّيكُم إذ كان قوله: ويُنَزّلُ عطفـا علـى «يُغَشّي», لـيكون الكلام متسقا علـى نـحو واحد.
وأما قوله: ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيّطَهّرَكُمْ بِهِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر, لـيطهر به الـمؤمنـين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُـجْنِبـين علـى غير ماء فلـما أنزل الله علـيهم الـماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بـما حزنهم به من إصبـاحهم مـجنبـين علـى غير ماء, فأذهب الله ذلك من قلوبهم بـالـمطر فذلك ربطه علـى قلوبهم وتقويته أسبـابهم وتثبـيته بذلك الـمطر أقدامهم, لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم علـى رَمْلة هَشّاء فلبّدَها الـمطر حتـى صارت الأقدام علـيها ثابتة لا تسوخ فـيها, توطئة من الله عزّ وجلّ لنبـيه علـيه الصلاة والسلام وأولـيائه أسبـاب التـمكن من عدوهم والظفر بهم. وبـمثل الذي قلنا, تتابعت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلـم. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:
12322ـ حدثنا هارون بن إسحاق, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن حارثة, عن علـيّ رضي الله عنه, قال: أصابنا من اللـيـل طشّ من الـمطر يعنـي اللـيـلة التـي كانت فـي صبـيحتها وقعة بدر فـانطلقنا تـحت الشجر والـحجف, نستظلّ تـحتها من الـمطر, وبـات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به: «اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ فـي الأرْضِ» فلـما أن طلع الفجر نادى: الصّلاةَ عِبـادَ اللّهِ, فجاء الناس من تـحت الشجر والـحجف, فصلـى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحرّض علـى القتال.
12323ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد, عن داود, عن سعيد بن الـمسيب: ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال: طشّ يوم بدر.
حدثنـي الـحسن بن يزيد, قال: حدثنا حفص, عن داود, عن سعيد, بنـحوه.
12324ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد أبـي عديّ وعبد الأعلـى, عن داود, عن الشعبـيّ وسعيد بن الـمسيب, قالا: طش يوم بدر.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن داود, عن الشعبـي وسعيد بن الـمسيب فـي هذه الاَية: يُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ, وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ قالا: طش كان يوم بدر, فثبت الله به الأقدام.
12325ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»... الاَية, ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتـى سال الوادي ماء, واقتتلوا علـى كثـيب أعفر, فلبده الله بـالـماء, وشرب الـمسلـمون وتوضئوا وسَقَوْا, وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان.
12326ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: نزل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعنـي حين سار إلـى بدر والـمسلـمون بـينهم وبـين الـماء رملة دعصة فأصاب الـمسلـمين ضعف شديد, وألقـى الشيطان فـي قلوبهم الغيظ, فوسوس بـينهم: تزعمون أنكم أولـياء الله وفـيكم رسوله, وقد غلبكم الـمشركون علـى الـماء وأنتـم تصلون مـجنبـين فأمطر الله علـيهم مطرا شديدا, فشرب الـمسلـمون وتطهروا, وأذهب الله عنهم رجز الشيطان. وثبت الرمل حين أصابه الـمطر, ومشي الناس علـيه والدوابّ فساروا إلـى القوم, وأمدّ الله نبـيه بألف من الـملائكة, فكان جبريـل علـيه السلام فـي خمسمائة من الـملائكة مـجنبة, وميكائيـل فـي خمسمائة مـجنبة.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: «إذْ يُغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»... إلـى قوله: وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ وذلك أن الـمشركين من قريش لـما خرجوا لـينصروا العير ويقاتلوا عنها, نزلوا علـى الـماء يوم بدر, فغلبوا الـمؤمنـين علـيه, فأصاب الـمؤمنـين الظمأ, فجعلوا يصلون مـجنبـين مـحدثـين, حتـى تعاظم ذلك فـي صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله من السماء ماء حتـى سال الوادي, فشرب الـمسلـمون وملئوا الأسقـية, وسقوا الركاب واغتسلوا من الـجنابة, فجعل الله فـي ذلك طُهورا, وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بـينهم وبـين القوم رملة فبعث الله علـيها الـمطر. فضربها حتـى اشتدت, وثبتت علـيها الأقدام.
حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: بـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون, فسبقهم الـمشركون إلـى ماء بدر, فنزلوا علـيه, وانصرف أبو سفـيان وأصحابه تلقاء البحر, فـانطلقوا. قال: فنزلوا علـى أعلـى الوادي, ونزل مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي أسفله. فكان الرجل من أصحاب مـحمد علـيه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر علـى الـماء, فـيصلـي جنبـا, فألقـى الشيطان فـي قلوبهم, فقال: كيف ترجون أن تظهروا علـيهم وأحدكم يقوم إلـى الصلاة جنبـا علـى غير وضوء؟ قال: فأرسل الله علـيهم الـمطر, فـاغتسلوا وتوضئوا وشربوا, واشتدت لهم الأرض, وكانت بطحاء تدخـل فـيها أرجلهم, فـاشتدّت لهم من الـمطر واشتدّوا علـيها.
12327ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: غلب الـمشركون الـمسلـمين فـي أوّل أمرهم علـى الـماء فظمىء الـمسلـمون, وصلوا مـجنبـين مـحدثـين, وكانت بـينهم رمال, فألقـى الشيطان فـي قلوب الـمؤمنـين الـحزن, فقال: تزعمون أن فـيكم نبـيّا وأنكم أولـياء الله, وقد غلبتـم علـى الـماء وتصلون مـجنبـين مـحدثـين؟ قال: فأنزل الله ماء من السماء, فسال كلّ واد, فشرب الـمسلـمون وتطهروا, وثبتت أقدامهم, وذهبت وسوسة الشيطان.
12328ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال: الـمطر أنزله علـيهم قبل النعاس. رِجْزَ الشّيْطَانِ قال: وسوسته. قال: فأطفأ بـالـمطر الغبـار, والتبدت به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به أقدامهم.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ أنزله علـيهم قبل النعاس, طبق الـمطر الغبـار, ولبد به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به الأقدام.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال: القطر ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وساوسه. أطفأ بـالـمطر الغبـار, ولبد به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به أقدامهم.
12329ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, رجز الشيطان: وسوسته.
12330ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَيُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال: هذا يوم بدر أنزل علـيهم القطر. وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ الذي ألقـى فـي قلوبكم لـيس لكم بهؤلاء طاقة. وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ.
12331ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ... إلـى قوله: وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ: إن الـمشركين نزلوا بـالـماء يوم بدر, وغلبوا الـمسلـمين علـيه, فأصاب الـمسلـمين الظمأ, وصلوا مـحدثـين مـجنبـين, فألقـى الشيطان فـي قلوب الـمؤمنـين الـحزن, ووسوس فـيها: إنكم تزعمون أنكم أولـياء الله وأن مـحمدا نبـيّ الله, وقد غلبتـم علـى الـماء وأنتـم تصلون مـحدثـين مـجنبـين فأمطر الله السماء حتـى سال كلّ واد, فشرب الـمسلـمون وملئوا أسقـيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الـجنابة, وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بـينهم وبـين عدوّهم رملة لا تـجوزها الدوابّ, ولا يـمشي فـيها الـماشي إلاّ بجهد, فضربها الله بـالـمطر حتـى اشتدت وثبتت فـيها الأقدام.
12332ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»: أي أنزلت علـيكم الأمنة حتـى نـمتـم لا تـخافون, ونزل علـيكم من السماء الـمطر الذي أصابهم تلك اللـيـلة, فحبس الـمشركون أن يسبقوا إلـى الـماء, وخُـلـي سبـيـلُ الـمؤمنـين إلـيه. لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام: لـيذهب عنهم شكّ الشيطان بتـخويفه إياهم عدوّهم, واستـجلاد الأرض لهم, حتـى انتهوا إلـى منزلهم الذي سبق إلـيه عدوّهم.
12333ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: ثم ذكر ما ألقـى الشيطان فـي قلوبهم من شأن الـجنابة وقـيامهم يصلون بغير وضوء, فقال: «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ» حتـى تشتدّون علـى الرمل, وهو كهيئة الأرض.
12334ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا داود بن أبـي هند, قال: قال رجل عند سعيد بن الـمسيب, وقال مرّة قرأ: وَيُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيُطَهّرَكُمْ بِهِ فقال سعيد: إنـما هي: «وَيُنزِلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيُطْهِرَكُمْ بِهِ» قال: وقال الشعبـي: كان ذلك طشّا يوم بدر.
وقد زعم بعض أهل العلـم بـالغريب من أهل البصرة, أن مـجاز قوله: وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام ويفرغ علـيهم الصبر وينزله علـيهم, فـيثبتون لعدوّهم. وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويـل من الصحابة والتابعين, وحسب قول خطأ أن يكون خلافـا لقول من ذكرنا. وقد بـيّنا أقوالهم فـيه, وأن معناه: ويثبت أقدام الـمؤمنـين بتلبـيد الـمطر الرمل حتـى لا تسوخ فـيه أقدامهم وحوافر دوابهم.
وأما قوله: إذْ يُوحي رَبّكَ إلـى الَـملائِكَةِ أنّـي مَعَكُمْ أنصركم, فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا يقول: قوّوا عزمهم, وصححوا نـياتهم فـي قتال عدوّهم من الـمشركين. وقد قـيـل: إن تثبـيت الـملائكة الـمؤمنـين كان حضورهم حربهم معهم, وقـيـل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم, وقـيـل: كان ذلك بأن الـملك يأتـي الرجل من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم, يعنـي الـمشركين يقولون: والله لئن حملوا علـينا لننكشفن, فـيحدث الـمسلـمون بعضهم بعضا بذلك, فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحيَ الله إلـى ملائكته.
وأما ابن إسحاق, فإنه قال بـما:
12335ـ حدثنا بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا أي فآزروا الذين آمنوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: سأُلْقِـي فِـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ.
يقول تعالـى ذكره: سأرعب قلوب الذين كفروا بـي أيها الـمؤمنون منكم, وأملؤها فَرَقا حتـى ينهزموا عنكم, فـاضربوا فوق الأعناق
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فَوْقَ الأعْناقِ فقال بعضهم: معناه: فـاضربوا الأعناق. ذكر من قال ذلك:
12336ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال: اضربوا الأعناق.
12337ـ قال: حدثنا أبـي, عن الـمسعودي, عن القاسم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي لَـمْ أُبْعَثْ لاِعَذّبَ بِعَذَابِ اللّهِ, إنّـما بُعِثْتُ لِضَرْبِ الأعْناقِ وَشَدّ الوثاقِ».
12338ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ يقول: اضربوا الرقاب.
واحتـجّ قائلو هذه الـمقالة بأن العرب تقول: رأيت نفس فلان, بـمعنى رأيته, قالوا: فكذلك قوله: فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ إنـما معناه: فـاضربوا الأعناق.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فـاضربوا الرءوس. ذكر من قال ذلك:
12339ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: وحدثنا الـحسين, عن يزيد, عن عكرمة: فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال: الرءوس.
واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأن الذي فوق الأعناق: الرءوس, وقالوا: وغير جائز أن تقول: فوق الأعناق, فـيكون معناه: الأعناق. قالوا: ولو جاز كان أن يقال تـحت الأعناق, فـيكون معناه: الأعناق. قالوا: وذلك خلاف الـمعقول من الـخطاب, وقلب معانـي الكلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فـاضربوا علـى الأعناق. وقالوا: «علـى» و «فوق» معناهما متقاربـان, فجاز أن يوضع أحدهما مكان الاَخر.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أمر الـمؤمنـين معلـمهم كيفـية قتل الـمشركين وضربهم بـالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله: فَوْقَ الأعْناقِ مـحتـمل أن يكون مرادا به الرءوس, ومـحتـمل أن يكون مرادا به فوق جلدة الأعناق, فـيكون معناه: علـى الأعناق وإذا احتـمل ذلك صحّ قول من قال: معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر مـحتـملاً ما ذكرنا من التأويـل, لـم يكن لنا أن نوجهه إلـى بعض معانـيه دون بعض إلاّ بحجة يجب التسلـيـم لها, ولا حجة تدلّ علـى خصوصه, فـالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رءوس الـمشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبـيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرا.
وأما قوله: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ فإن معناه: واضربوا أيها الـمؤمنون من عدوّكم كلّ طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم. والبنان: جمع بنانة, وهي أطراف أصابع الـيدين والرجلـين, ومن ذلك قول الشاعر:
ألا لَـيْتَنِـي قَطّعْتُ مِنّـي بَنانَةًوَلاقَـيْتُهُ فِـي البَـيْتِ يَقْظانَ حاذِرَا
يعنـي بـالبنانة: واحدة البنان.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12340ـ حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال: كلّ مفصل.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال: الـمفـاصل.
12341ـ قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن جويبر, عن الضحاك: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال: كلّ مفصل.
12342ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسن, عن يزيد, عن عكرمة: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال: الأطراف, ويقال: كلّ مفصل.
12343ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعنـي بـالبنان: الأطراف.
12344ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال: الأطراف.
12345ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعنـي الأطراف.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلكَ بأنّهُمْ هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق, وضرب كلّ بنان منهم, جزاء لهم بشقاقهم الله ورسوله, وعقاب لهم علـيه, ومعنى قوله: شاقّوا الله وَرَسُولَهُ فـارقوا أمر الله ورسوله وعصوهما, وأطاعوا أمر الشيطان. ومعنى قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله, وفـارق طاعتهما. فإنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ له, وشدة عقابه له فـي الدنـيا: إحلاله به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم, وفـي الاَخرة الـخـلود فـي نار جهنـم. وحذف «له» من الكلام لدلالة الكلام علـيها.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النّارِ }..
يقول تعالـى ذكره: هذا العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون الـمشاقون لله ورسوله فـي الدنـيا, من الضرب فوق الأعناق منكم, وضرب كلّ بنان بأيدي أولـيائي الـمؤمنـين, فذوقوه عاجلاً, واعلـموا أن لكم فـي الاَجل والـمعاد عذاب النار.
ولفتـح «أن» من قوله: وأنّ للكافِرِينَ من الإعراب وجهان: أحدهما الرفع, والاَخر النصب. فأما الرفع فبـمعنى: ذلكم فذوقوه, ذلكم وأن للكافرين عذاب النار بنـية تكرير «ذلكم», كأنه قـيـل: ذلكم الأمر وهذا. وأما النصب فمن وجهين: أحدهما: ذلكم فذوقوه, واعلـموا, أو وأيقنوا أن للكافرين, فـيكون نصبه بنـية فعل مضمر, قال الشاعر:
ورأيْتِ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدًا سَيفـا وَرُمْـحَا
بـمعنى: وحاملاً رمـحا. والاَخر بـمعنى: ذلكم فذوقوه, وبأن للكافرين عذاب النار, ثم حذفت البـاء فنصبت.
الآية : 15-16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىَ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }..
يعنـي تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذَا لَقِـيتُـمُ الّذِينَ كَفَرُوا فـي القِتالِ زَحْفـا يقول: متزاحفـا بعضكم إلـى بعض, والتزاحف: التدانـي والتقارب. فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبـارَ يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم, ولكن اثبتوا لهم فإن الله معكم علـيهم. وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يقول: ومن يولهم منكم ظهره إلا مُتَـحَرّفـا لِقتَالٍ يقول: إلا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له يـمكنه إصابتها فـيكرّ علـيه أو مُتَـحَيّزا إلـى فِئَةٍ أو إلا أن يولـيهم ظهره متـحيزا إلـى فئة, يقول: صائرا إلـى حيز الـمؤمنـين الذين يفـيئون به معهم إلـيهم لقتالهم ويرجعون به معهم إلـيهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12346ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: إلاّ مُتَـحَرّفـا لِقِتالٍ أوْ مُتَـحيّزا إلـى فِئَةٍ قال: الـمتـحرّف: الـمتقدّم من أصحابه لـيرى غرّة من العدوّ فـيصيبها. قال: والـمتـحيز: الفـارّ إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكذلك من فرّ الـيوم إلـى أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنـما هذا وعيد من الله لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم أن لا يفرّوا, وإنـما كان النبـيّ علـيه الصلاة والسلام فئتهم.
12347ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَـحَرّفـا لِقِتالٍ أوْ مُتَـحَيّزًا إلـى فِئَةٍ أما الـمتـحرّف يقول: إلاّ مستطردا, يريد العودة. أوْ مُتَـحيّزا إلـى فِئَةٍ قال: الـمتـحيز إلـى الإمام وجنده إن هو كرّ فلـم يكن له بهم طاقة, ولا يعذر الناس وإن كثروا أن يولوا عن الإمام.
واختلف أهل العلـم فـي حكم قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَـحَرّفـا لِقِتالٍ أوْ مُتَـحَيّزًا إلـى فِئَةٍ فَقَدْ بـاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ومَأْوَاهُ جَهَنّـمُ هل هو خاصّ فـي أهل بدر, أم هو فـي الـمؤمنـين جميعا؟ فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة, لأنه لـم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوّه وينهزموا عنه فأما الـيوم فلهم الانهزام. ذكر من قال ذلك:
12348ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن أبـي نضرة, فـي قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: ذاك يوم بدر, ولـم يكن لهم أن ينـحازوا, ولو انـحاز أحد لـم ينـحز إلاّ إلـيّ. قال أبو موسى: يعنـي إلـى الـمشركين.
12349ـ حدثنا إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا خالد, عن داود, عن أبـي نضرة, عن أبـي سعيد, قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ثم ذكر نـحوه, إلاّ أنه قال: ولو انـحازوا انـحازوا إلـى الـمشركين, ولـم يكن يومئذٍ مسلـم فـي الأرض غيرهم.
12350ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن مفضل, قال: حدثنا داود, عن أبـي نضرة, عن أبـي سعيد, قال: نزلت فـي يوم بدر: وَمَنْ يُوَلهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ.
حدثنـي ابن الـمثنى, وعلـيّ بن مسلـم الطوسي, قال ابن الـمثنى: ثنـي عبد الصمد, وقال علـيّ: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, عن داود, يعنـي ابن أبـي هند, عن أبـي نضرة, عن أبـي سعيد: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: يوم بدر. قال أبو موسى: حُدثت أن فـي كتاب غندر هذا الـحديث, عن داود, عن الشعبـي, عن أبـي سعيد.
حدثنا أحمد بن مـحمد الطوسي, قال: حدثنا علـيّ بن عاصم, عن داود بن أبـي هند, عن أبـي نضرة, عن أبـي سعيد الـخدريّ, قال: إنـما كان ذلك يوم بدر لـم يكن للـمسلـمين فئة إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأما بعد ذلك, فإن الـمسلـمين بعضهم فئة لبعض.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن أبـي نضرة: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: هذه نزلت فـي أهل بدر.
12351ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن عون, قال: كتبت إلـى نافع أسأله, عن قوله: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أكان ذلك الـيوم أم هو بعد؟ قال: وكتب إلـيّ: إنـما كان ذلك يوم بدر.
12352ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا زيد, عن سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, قال: إنـما كان الفرار يوم بدر, ولـم يكن لهم ملـجأ يـلـجئون إلـيه, فأما الـيوم فلـيس فرار.
12353ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن الربـيع, عن الـحسن: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: كانت هذه يوم بدر خاصة, لـيس الفرار من الزحف من الكبـائر.
12354ـ قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن الضحاك وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: كانت هذه يوم بدر خاصة, قال: حدثنا روح بن عبـادة, عن حبـيب بن الشهيد, عن الـحسن وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: نزلت فـي أهل بدر.
12355ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: ذلكم يوم بدر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك عن الـمبـارك بن فضالة, عن الـحسن وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: ذلك يوم بدر, فأما الـيوم فإن انـحاز إلـى فئة أو مصر أحسبه قال: فلا بأس به.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن عون, قال: كتبت إلـى نافع وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ؟ قال: إنـما هذا يوم بدر.
12356ـ حدثنـي الـمثتـى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن لهيعة, قال: ثنـي يزيد بن أبـي حبـيب, قال: أوجب الله لـمن فرّ يوم بدر النار, قال: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَـحَرّفـا لِقِتالٍ أوْ مُتَـحَيّزا إلـى فِئَةٍ فَقَدْ بـاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ فلـما كان يوم أُحد بعد ذلك قال: إنّـمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفـا اللّهُ عَنْهُمْ ثم كان حنـين بعد ذلك بسبع سنـين, فقال ثُمّ وَلّـيتُـمْ مُدْبِرِينَ ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلكَ عَلـى مَنْ يَشاءُ.
12357ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا ابن عون, عن مـحمد, أن عمر رضي الله عنه بلغه قتل أبـي عبـيد, فقال: لو تـحيز إلـيّ لكنت له فئة.
12358ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن جرير بن حازم, قال: ثنـي قـيس بن سعيد, قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح, عن قوله: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: هذه منسوخة بـالاَية التـي فـي الأنفـال: الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِـمَ أنّ فِـيكُمْ ضَعْفـا فإنْ يَكُنْ مِنْكُم مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَـيْنِ قال: ولـيس لقوم أن يفروا من مثلـيهم. قال: ونسخت تلك إلاّ هذه العدّة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سلـيـمان التـيـمي, عن أبـي عثمان, قال: لـما قتل أبو عبـيد جاء الـخبر إلـى عمر, فقال: يا أيها الناس أنا فئتكم.
قال ابن الـمبـارك, عن معمر وسفـيان الثوري وابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كلّ مسلـم.
وقال آخرون: بل هذه الاَية حكمها عام فـي كلّ من ولـى الدبر عن العدوّ منهزما. ذكر من قال ذلك.
12359ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قال: أكبر الكبـائر: الشرك بـالله, والفرار من الزحف لأن الله عزّ وجل يقول: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ... فَقَدْ بـاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمأْوَاهُ جَهَنّـمُ وَبِئْسَ الـمَصِير.
وأولـى التأويـلـين فـي هذه الاَية بـالصواب: عندي قول من قال: حكمها مـحكم, وأنها نزلت فـي أهل بدر, وحكمها ثابت فـي جميع الـمؤمنـين, وأن الله حرّم علـى الـمؤمنـين إذا لقوا العدوّ أن يولوهم الدبر منهزمين, إلاّ لتـحرّف القتال, أو لتـحيز إلـى فئة من الـمؤمنـين حيث كانت من أرض الإسلام, وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما بغير نـية إحدى الـخـلتـين اللتـين أبـاح الله التولـية بهما, فقد استوجب من الله وعيده إلاّ أن يتفضل علـيه بعفوه.
وإنـما قلنا هي مـحكمة غير منسوخة, لـما قد بـيّنا فـي غير موضع من كتابنا هذا وغيره أنه لا يجوز أن يحكم لـحكم آية بنسخ وله فـي غير النسخ وجه إلاّ بحجة يجب التسلـيـم لها من خبر يقطع العذر أو حجة عقل, ولا حجة من هذين الـمعنـيـين تدلّ علـى نسخ حكم قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَـحَرفـا لِقِتالٍ أوْ مُتَـحَيّزا إلـى فِئَةٍ.
وأما قوله: فَقَدْ بـاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ يقول: فقد رجع بغضب من الله, ومَأْوَاهُ جَهَنّـمُ يقول: ومصيره الذي يصير إلـيه فـي معاده يوم القـيامة جهنـم وبئس الـمصير, يقول: وبئس الـموضع الذي يصير إلـيه ذلك الـمصير