تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 178 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 178

177

قوله: 9- "إذ تستغيثون" الظرف متعلق بمحذوف: أي واذكروا وقت استغاثتكم، وقيل: بدل من "وإذ يعدكم الله" معمول لعامله، وقيل: متعلق بقوله: "ليحق الحق" والاستغاثة: طلب الغوث، يقال: استغاثني فلان فأغثته والاسم الغياث، والمعنى: أن المسلمين لما علموا أنه لا بد من قتال الطائفة ذات الشوكة وهم النفير كما أمرهم الله بذلك وأراده منهم ورأوا كثرة عدد النفير وقلة عددهم استغاثوا بالله سبحانه، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أن عدد المشركين يوم بدر ألف، وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" الحديث. "فاستجاب لكم" عطف على تستغيثون داخل معه في التذكير، وهو وإن كان مستقبلاً فهو بمعنى الماضي، ولهذا عطف عليه استجاب. قوله: "أني ممدكم بألف من الملائكة" أي بأني ممدكم فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المفعول وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول، أو على أن في استجاب معنى القول قوله: "مردفين" قرأ نافع بفتح الدال اسم مفعول، وقرأ الباقون بكسرها اسم فاعل وانتصابه على الحال، والمعنى على القراءة الأولى: أنه جعل بعضهم تابعاً لبعض، وعلى القراءة الثانية: أنهم جعلوا بعضهم تابعاً لبعض، وقيل: إن مردفين على القراءتين نعت لألف، وقيل: إنه على القراءة الأولى حال من الضمير المنصور في ممدكم: أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة، وقد قيل: إن ردف وأردف بمعنى واحد، وأنكره أبو عبيدة قال: لقوله تعالى: "تتبعها الرادفة" ولم يقل المردفة. قال سيبويه: وفي الآية قراءة ثالثة وهي مردفين بضم الراء وكسر الدال مشددة. وقراءة رابعة بفتح الراء وتشديد الدال. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بآلاف جمع ألف، وهو الموافق لما تقدم في آل عمران.
والضمير في 10- "وما جعله الله" راجع إلى الإمداد المدلول عليه بقوله: إني ممدكم، "إلا بشرى" أي إلا بشارة لكم بنصره، وهو استثناء مفرغ: أي ما جعل إمدادكم لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر "ولتطمئن به" أي بالإمداد قلوبكم، وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا، بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم وتطمين قلوبهم وتثبيتها، واللام في لتطمئن متعلقة بفعل محذوف يقدر متأخراً: أي ولتطمئن قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر "وما النصر إلا من عند الله" لا من عند غيره ليس للملائكة في ذلك أثر، فهو الناصر على الحقيقة، وليسوا إلا سبباً من أسباب النصر التي سببها الله لكم وأمدكم بها "إن الله عزيز" لا يغالب "حكيم" في كل أفعاله. وقد أخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وأخرج سنيد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: ما أمد النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال، وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "مردفين" قال: متتابعين. وأخرج ابن جرير في قوله: "مردفين" يقول: المدد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية قال: وراء كل ملك ملك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين، فكانوا أربعة آلاف، وهم مدد المسلمين في ثغورهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "مردفين" قال: مجدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: متتابعين أمدهم الله بألف ثم بثلاثة، ثم أكملهم خمسة آلاف "وما جعله الله إلا بشرى" لكم "ولتطمئن به قلوبكم" قال: يعني نزول الملائكة. قال: وذكر لنا أن عمر قال: أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة كانوا معنا وأما بعد ذلك فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد "مردفين" قال: بعضهم على أثر بعض.
قوله: 11- " إذ يغشيكم " الظرف منصوب بفعل مقدر كالذي قبله، أو بدل ثان من إذ يعدكم، أو منصوب بالنصر المذكور قبله، وقل غير ذلك مما لا وجه له، و "يغشيكم" هي قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه، وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها: أعني قوله: "وما النصر إلا من عند الله" ولما بعدها أعني "وينزل عليكم" فيتشاكل الكلام ويتناسب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " يغشيكم " على أن الفاعل النعاس، وقرأ الباقون "يغشيكم" بفتح الغين وتشديد الشين، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله، ونصب النعاس. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد، ونصب النعاس لأن بعده "أمنة منه" والهاء في منه لله فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب أمنةً على أنها مفعول له، ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة، باعتبار القراءة الثانية فإنه يحتاج إلى تكلف، وأما على جعل الأمنة مصدراً فلا إشكال، يقال: أمن أمنة وأمناً وأماناً، وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها. قيل: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد، الثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، وقيل: إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران. قوله: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" هذا المطر كان بعد النعاس، وقيل: قبل النعاس. وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فأنزل الله المطر ليلة بدر، والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير، ومعنى "ليطهركم به" ليرفع عنكم الأحداث "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت "وليربط على قلوبكم" فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، والضمير في "به" من قوله: "ويثبت به الأقدام" راجع إلى الماء الذي أنزله الله: أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال، وقيل: الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل.
قوله: 12- "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقف على ذلك سواه: أي واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة، وقيل: هو بدل من "إذ يعدكم" كما تقدم ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون فلا يكون من جملة النعم التي عددها الله عليهم، وقيل: العامل فيه يثبت فيكون المعنى: يثبت الأقدام وقت الوحي وليس لهذا التقييد معنى، وقيل: العامل فيه "ليربط" ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء، ومعنى الآية: أني معكم بالنصر والمعونة، فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول "يوحي" وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول. ومعنى "فثبتوا الذين آمنوا" بشروهم بالنصر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قوله: "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" قد تقدم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران، قيل: هذه الجملة تفسير لقوله: "أني معكم". قوله: "فاضربوا فوق الأعناق" قيل: المراد الأعناق أنفسها و "فوق" زائدة: قاله الأخفش وغيره. وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها، وقيل: المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس، وقيل: المراد بفوق الأعناق: أعاليها لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع. قيل: وهذا أمر للملائكة وقيل: للمؤمنين، وعلى الأول قيل: هو تفسير لقوله: "فثبتوا الذين آمنوا". قوله: "واضربوا منهم كل بنان". قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به، لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة، وقيل المراد بالبنان هنا: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة: وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان وقال عنترة أيضاً: وإن الموت طوع يدي إذا ما وطئت بنانها بالهنـــداوي قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف.
والإشارة بقوله: 13- "ذلك" إلى ما وقع عليهم من القتل ودخل في قلوبهم من الرعب، وهو مبتدأ، و "بأنهم شاقوا الله ورسوله" خبره: أي ذلك بسبب مشاقهم، والشقاق أصله أن يصير كل واحد من الخصمين في شق، وقد تقدم تحقيق ذلك "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب" له يعاقبه بسبب، ما وقع منه من الشقاق.
قوله: 14- "ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار" الإشارة إلى ما تقدم من العقاب أو الخطاب هنا للكافرين كما أن الخطاب في قوله: "ذلكم" للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب. قال الزجاج: ذلكم رفع بإضمار الأمر أو القصة: أي الأمر أو القصة ذلكم فذوقوه. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه. قال أبو حيان: لا يجوز تقدير عليكم لأنه اسم فعل، وأسماء الأفعال لا تضمر، وتشبيهه بزيداً فاضربه غير صحيح لأنه لم يقدر فيه عليك، بل هو من باب الاشتغال، وجملة "وأن للكافرين عذاب النار" معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به ويكون "وأن للكافرين عذاب النار" إشارة إلى العقاب الآجل. وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال: بلغنا أن هذه الآية أنزلت في المؤمنين يوم بدر فيما أغشاهم الله من النعاس أمنة منه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أمنة منه" قال: أمناً من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أمنة منه" قال: رحمة منه أمنة من العدو. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال النعاس في الرأس، والنوم في القلب. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال: كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين: نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب في قوله: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" قال: طش كان يوم بدر. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال: المطر أنزل الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم السير، وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرتحلوا معه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فصحا المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبياً وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسته. وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي، وهو ضعيف جداً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "رجز الشيطان" قال: وسوسته. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وليربط على قلوبكم" قال: بالبصر "ويثبت به الأقدام" قال: كان بطن الوادي دهاساً، فلما مطروا اشتدت الرملة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "ويثبت به الأقدام" قال: حتى تشتد على الرمل وهو كهيئة الأرض. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ويقول:اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد وأصابهم تلك الليلة مطر شديد فذلك قوله: "ويثبت به الأقدام"". وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: قال لي أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدثا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "فاضربوا فوق الأعناق" يقول: الرؤوس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطية "فاضربوا فوق الأعناق" قال: اضربوا الأعناق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك "فاضربوا فوق الأعناق" يقول: اضربوا الرقاب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واضربوا منهم كل بنان" قال: يعني بالبنان الأطراف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية "واضربوا منهم كل بنان" قال: كل مفصل.
الزحف: الدنو قليلاً قليلاً، وأصله الاندفاع على الإلية، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً. والتزاحف: التداني والتقارب، تقول: زحف إلى العدو زحفاً، وازدحف القوم: أي مشى بعضهم إلى بعض وانتصاب زحفاً إما على أنه مصدر لفعل محذوف: أي تزحفون زحفاً، أو على أنه حال من المؤمنين: أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار، أو حال من الذين كفروا: أي حال كون الكفار زاحفين إليكم، أو حال من الفريقين أي متزاحفين "فلا تولوهم الأدبار" نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال إلا حالة التحرف والتحيز. وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة ويزيد وابن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض، وبه قال أبو حنيفة.
قالوا: ويؤيده قوله: 16- "ومن يولهم يومئذ دبره" فإنه إشارة إلى يوم بدر، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في "يومئذ" إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف، بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: "اجتنبوا السبع الموبقات، وفيه: والتوالي يوم الزحف" ونحوه من الأحاديث وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له. قوله: "إلا متحرفاً لقتال" التحرف: الزوال عن جهة الاستواء، والمراد به هنا التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب وخدعاً للعدو، وكمن يوهم أنهم منهزم ليتبعه العدو فيكر عليه ويتمكن منه، ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة. قوله: "أو متحيزاً إلى فئة" أي إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الاستثناء من المولين: أي ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً ويجوز انتصابهما على الحال، ويكون حرف الاستثناء لغواً لا عمل له، وجملة "فقد باء بغضب من الله" جزاء للشرط. والمعنى: من ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرف والمتحيز "ومأواه جهنم" أي المكان الذي يأوي إليه هو النار فقراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منهم وأعظم عقوبة. والمأوى: ما يأوي إليه الإنسان "وبئس المصير" ما صار إليه من عذاب النار. وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.