سورة الأنفال | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 180 من المصحف
** وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم, وإحسانه إليهم, حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم, وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم, فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي, كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم, فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره, وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}, قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً, وأشقاه عيشاً, وأجوعه بطوناً, وأعراه جلوداً وأبينه ضلالاً, من عاش منهم عاش شقياً, ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون, والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر, وأهل الشكر في مزيد من الله.
** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوَاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري: أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه, أي إنه الذبح, ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله, فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه, وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه, فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله, فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه, وأرادوا أن يحلوه من السارية, فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, فحله, فقال: يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة, فقال «يجزيك الثلث أن تصدق به». وقال ابن جرير: حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الاَية في قتل عثمان, رضي الله عنه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الاَية.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال: حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} الاَية, هذا حديث غريب جداً, وفي سنده وسياقه نظر, وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح, فأطلع الله رسوله على ذلك, فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطباً فأقر بما صنع, وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألا أضرب عنقه, فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال: «دعه فإنه قد شهد بدراً, وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». قلت: والصحيح أن الاَية عامة, وإن صح أنها وردت على سبب خاص, فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وتخونوا أماناتكم} الأمانة, الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد, يعني الفريضة. يقول: {لا تخونو} لا تنقضوها. وقال في رواية: {لا تخونوا الله والرسول}, يقول بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الاَية, أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم, ثم تخالفوه في السر إلى غيره, فإن ذلك هلاك لأماناتكم, وخيانة لأنفسكم. وقال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم, وقال أيضاً: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين, وقال عبد الرحمن بن زيد: نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون, وقوله {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}, أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} وقال {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله, ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} الاَية, وقوله {وأن الله عنده أجر عظيم} أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد, فإنه قد يوجد منهم عدو, وأكثرهم لا يغني عنك شيئاً, والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والاَخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة. وفي الأثر يقول الله تعالى: يا ابن آدم, اطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدت كل شيء, وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء, وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ثلاث من كن فيه, وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله, ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه», بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس, كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين».
** يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد {فرقان} مخرجاً, زاد مجاهد في الدنيا والاَخرة, وفي رواية عن ابن عباس {فرقان} نجاة, وفي رواية عنه نصراً, وقال محمد بن إسحاق {فرقان} أي فصلاً بين الحق والباطل وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله, فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل, فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها, وغفرها سترها عن الناس وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
** وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {ليثبتوك} ليقيدوك, وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك, وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق, وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال, وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي» قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي».
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي, أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي». قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي». قال: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الاَية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً, بل منكر, لأن هذه الاَية مدنية, ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء, وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه, والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد, سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل, ادخل, فدخل معهم, فقال: انظروا في شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم, قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله, فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله, والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد, لا أرى غيره. قالوا: وما هو ؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً, ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً, ثم يضربونه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك, قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي, القول ما قال الفتى, لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي, وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليل} وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك, وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه, وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {يس والقرآن الحكيم ـ إلى قوله ـ فأغشيناهم فهم لا يبصرون}, وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا, وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: «ما يبكيك يا بنية ؟» قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك, فقال: «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بهاوقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً, ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ولا أعرف له علة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري, عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك} الاَية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم بل اقتلوه, وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم, فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ قال لا أدري, فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـَذَا إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هَـَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذ} وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم, وقد قيل إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار, ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد ؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبراً بين يديه ففعل ذلك, ولله الحمد وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد هذا الذي أردت, قال وفيه أنزلت هذه الاَية {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حياً يوم بدر, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له يعني الأسارى لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف, ومعنى {أساطير الأولين} وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الاَية الأخرى {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيم} أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه, وقوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم, وهذا مما عيبوا به وكان)الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب, وتقديم العقوبة كقوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وقوله {سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج} وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له {فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} وقال هؤلاء {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال هو أبو جهل بن هشام قال {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبيد الله النيسابوري, والله أعلم. وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال: فأنزل الله {سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع} وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي: إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وقال {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} وقال {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين} قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز وجل, وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفاً يوم أحد على فرس وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الاَية قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: قد, قد, ويقولون: اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الاَية قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الاَية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم. فأنزل الله {وما كان الله معذبهم ـ إلى قوله ـ ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة وروي عن مجاهد وعكرمة وعطية والعوفي وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك. وقال الضحاك وأبو مالك {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عربي قال: قال ابن عباس: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم, فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم, قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم, وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. وقال أبو صالح عبد الغفار: حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس. وروى ابن مردويه عن أبي موسى الأشعري نحواً من هذا. وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرى. وقال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة», ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا رشدين هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل».
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 180
180 : تفسير الصفحة رقم 180 من القرآن الكريم** وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم, وإحسانه إليهم, حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم, وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم, فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي, كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم, فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره, وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}, قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً, وأشقاه عيشاً, وأجوعه بطوناً, وأعراه جلوداً وأبينه ضلالاً, من عاش منهم عاش شقياً, ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون, والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر, وأهل الشكر في مزيد من الله.
** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوَاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري: أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه, أي إنه الذبح, ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله, فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه, وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه, فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله, فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه, وأرادوا أن يحلوه من السارية, فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, فحله, فقال: يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة, فقال «يجزيك الثلث أن تصدق به». وقال ابن جرير: حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الاَية في قتل عثمان, رضي الله عنه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الاَية.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال: حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} الاَية, هذا حديث غريب جداً, وفي سنده وسياقه نظر, وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح, فأطلع الله رسوله على ذلك, فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطباً فأقر بما صنع, وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألا أضرب عنقه, فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال: «دعه فإنه قد شهد بدراً, وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». قلت: والصحيح أن الاَية عامة, وإن صح أنها وردت على سبب خاص, فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وتخونوا أماناتكم} الأمانة, الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد, يعني الفريضة. يقول: {لا تخونو} لا تنقضوها. وقال في رواية: {لا تخونوا الله والرسول}, يقول بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الاَية, أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم, ثم تخالفوه في السر إلى غيره, فإن ذلك هلاك لأماناتكم, وخيانة لأنفسكم. وقال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم, وقال أيضاً: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين, وقال عبد الرحمن بن زيد: نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون, وقوله {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}, أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} وقال {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله, ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} الاَية, وقوله {وأن الله عنده أجر عظيم} أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد, فإنه قد يوجد منهم عدو, وأكثرهم لا يغني عنك شيئاً, والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والاَخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة. وفي الأثر يقول الله تعالى: يا ابن آدم, اطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدت كل شيء, وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء, وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ثلاث من كن فيه, وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله, ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه», بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس, كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين».
** يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد {فرقان} مخرجاً, زاد مجاهد في الدنيا والاَخرة, وفي رواية عن ابن عباس {فرقان} نجاة, وفي رواية عنه نصراً, وقال محمد بن إسحاق {فرقان} أي فصلاً بين الحق والباطل وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله, فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل, فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها, وغفرها سترها عن الناس وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
** وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {ليثبتوك} ليقيدوك, وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك, وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق, وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال, وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي» قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي».
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي, أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي». قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي». قال: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الاَية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً, بل منكر, لأن هذه الاَية مدنية, ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء, وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه, والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد, سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل, ادخل, فدخل معهم, فقال: انظروا في شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم, قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله, فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله, والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد, لا أرى غيره. قالوا: وما هو ؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً, ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً, ثم يضربونه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك, قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي, القول ما قال الفتى, لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي, وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليل} وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك, وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه, وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {يس والقرآن الحكيم ـ إلى قوله ـ فأغشيناهم فهم لا يبصرون}, وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا, وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: «ما يبكيك يا بنية ؟» قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك, فقال: «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بهاوقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً, ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ولا أعرف له علة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري, عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك} الاَية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم بل اقتلوه, وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم, فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ قال لا أدري, فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـَذَا إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هَـَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذ} وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم, وقد قيل إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار, ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد ؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبراً بين يديه ففعل ذلك, ولله الحمد وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد هذا الذي أردت, قال وفيه أنزلت هذه الاَية {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حياً يوم بدر, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له يعني الأسارى لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف, ومعنى {أساطير الأولين} وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الاَية الأخرى {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيم} أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه, وقوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم, وهذا مما عيبوا به وكان)الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب, وتقديم العقوبة كقوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وقوله {سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج} وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له {فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} وقال هؤلاء {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال هو أبو جهل بن هشام قال {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبيد الله النيسابوري, والله أعلم. وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال: فأنزل الله {سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع} وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي: إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وقال {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} وقال {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين} قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز وجل, وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفاً يوم أحد على فرس وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الاَية قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: قد, قد, ويقولون: اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الاَية قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الاَية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم. فأنزل الله {وما كان الله معذبهم ـ إلى قوله ـ ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة وروي عن مجاهد وعكرمة وعطية والعوفي وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك. وقال الضحاك وأبو مالك {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عربي قال: قال ابن عباس: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم, فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم, قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم, وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. وقال أبو صالح عبد الغفار: حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس. وروى ابن مردويه عن أبي موسى الأشعري نحواً من هذا. وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرى. وقال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة», ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا رشدين هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل».
الصفحة رقم 180 من المصحف تحميل و استماع mp3