تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 180 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 180

179

الخطاب بقوله: 26- "واذكروا إذ أنتم قليل" للمهاجرين: أي اذكروا وقت قلتكم، و "مستضعفون" خبر ثاني للمبتدأ، والأرض: هي أرض مكة، والخطف: الأخذ بسرعة، والمراد بالناس: مشركو قريش، وقيل: فارس والروم "فآواكم" يقال: آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى: انضم إليه، فالمعنى: ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار "وأيدكم بنصره" أي قواكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قواكم بالملائكة يوم بدر "ورزقكم من الطيبات" التي من جملتها الغنائم "لعلكم تشكرون" أي إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم بها عليكم.
والخون أصله كما في الكشاف: النقص كما أن الوفاء التمام، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان، وقيل معناه: الغدر وإخفاء الشيء. ومنه قوله تعالى: "يعلم خائنة الأعين" نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمهنهم عليه، أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخذوة من الأمن، وجملة 27- "وأنتم تعلمون" في محل نصب على الحال: أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد، أو أنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل.
ثم قال: "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة" لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى: "وأن الله عنده أجر عظيم" فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "واذكروا إذ أنتم قليل" قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "يتخطفكم الناس" قال: في الجاهلية بمكة "فآواكم" إلى الإسلام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن وهب في قوله: "يتخطفكم الناس" قال: الناس إذ ذاك فارس والروم. وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس" قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال:أهل فارس". وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "فآواكم" قال: إلى الأنصار بالمدينة "وأيدكم بنصره" قال: يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله "أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكة كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموافكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية "لا تخونوا الله والرسول" في أبي لبابة بن عبد المنذر سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت. قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. وأخرج سنيد وابن جرير عن الزهري نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم، فأومأ بيده أنه الذبح فنزلت. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في هذه الآية أنها نزلت في أبي لبابة ونسختها الآية التي في براءة "وآخرون اعترفوا بذنوبهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تخونوا الله" قال: بترك فرائضه "والرسول" بترك سننه وارتكاب معصيته "وتخونوا أماناتكم" يقول: لا تنقصوها، والأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وأخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان، ولعل مراده أن من جملة ما يدخل تحت عمومها قتل عثمان. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب في الآية قال: هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن. وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال: فتنة الاختبار اختبرهم، وقرأ "ونبلوكم بالشر والخير فتنة".
جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً، والتقوى: اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه، والفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى: أنه يجعل لهم من ثبات القلوب، وثقوب البصائر: وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس، وقيل: الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه، ومنه قول الشاعر: ما لك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا ومنه قول الآخر: وكيف أرجى الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنية فرقان وقال الفراء: المراد بالفرقان الفتح والنصر. قال ابن إسحاق: الفرقان الفصل بين الحق والباطل، وبمثله قال ابن زيد. وقال السدي: الفرقان النجاة. ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" وبه قال مجاهد ومالك بن أنس 29- "ويكفر عنكم سيئاتكم" أي يسترها حتى تكون غير ظاهرة "ويغفر لكم" ما اقترفتم من الذنوب، وقد قيل إن المراد بالسيئات الصغائر، وبالذنوب التي تغفر الكبائر، وقيل: المعنى أنه يغفر لهم ما تقدم من الذنوب وما تأخر "والله ذو الفضل العظيم" فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يجعل لكم فرقاناً" قال: هو المخرج. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو النجاة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: هو النضر.
قوله: 30- "وإذ يمكر بك الذين كفروا" الظرف معمول لفعل محذوف: أي واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك أو معطوف على ما تقدم من قوله واذكروا ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه "ليثبتوك" يثبتوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما، وعنه قول الشاعر: فقلت ويحكم ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا وقيل: المعنى ليحبسوك، يقال أثبته: إذا حبسه، وقيل: ليوثقوك، ومنه: "فشدوا الوثاق". وقرأ الشعبي: " يبيتون " من البيات. وقرئ ليثبتوك بالتشديد. "أو يخرجوك" معطوف على ما قبله: أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك، وجملة "ويمكرون ويمكر الله" مستأنفة، والمكر: التدبير في الأمر في خفية، والمعنى: أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المكايد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم، وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة كما في نظائره "والله خير الماكرين" أي المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشد ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم.
قوله: 31- "وإذا تتلى عليهم آياتنا" أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم "قالوا" تعنتاً وتمرداً وبعداً عن الحق "قد سمعنا" ما تتلوه علينا "لو نشاء لقلنا مثل هذا" الذي تلوته علينا، قيل: إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك، فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه، ثم قال عناداً وتمرداً: "إن هذا إلا أساطير الأولين" أي ما يسطره الوراقون من أخبار الأولين. وقد تقدم بيانه مستوفى.
32- "وإذ قالوا" أي واذكر إذ قالوا "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" بنصب الحق على أنه خبر كان، والضمير للفصل، ويجوز الرفع. قال الزجاج: ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا اختلاف بين النحوين في إجازتها. ولكن القراءة سنة ، والمعنى إن كان القرءان الذي جاءنا به محمد هو الحق " فأمطر علينا " قالوا : هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار . قال أبو عبيدة : يقال أمطر في العذاب ومطر في الرحمة. وقال في الكشاف: قد كثر الإمطار في معنى العذاب "أو ائتنا بعذاب أليم" سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد.
فأجاب الله عليهم بقوله: 33- "وما كان الله ليعذبهم وأنت" يا محمد "فيهم" موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك: أي وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرون، وقيل المعنى: لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم، وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم: أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده، وقيل المعنى: وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله. وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا" قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس فذكر القصة بأطول مما هنا. وفيها ذكر الشيخ النجدي: أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً ويعطوا كل واحد منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي، فتفرقوا على ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً، قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه. وهذا لا يصح، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا" قال: "ليثبتوك" يعني ليوثقوك. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: "قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدراً صبراً عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية: " وإذا تتلى عليهم آياتنا "" وهذا مرسل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في النضر بن الحارث. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل بن هشام "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية فنزلت: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها نزلت في أبي جهل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية أنها نزلت في النضر بن الحارث. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك غفرانك. فأنزل الله: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. قال ابن عباس، كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل الله علي أمانين لأمتي "وما كان الله ليعذبهم" الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار". وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر قال: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والحاكم وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضاً، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.